برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز.. رؤية من الداخل

ت + ت - الحجم الطبيعي

قُدِّر لي أن أكون في صحبة كوكبة من الخبراء والمتخصصين، ضمن اللجنة المعنية بتقييم فئات التميز الوظيفي في إطار برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز.

 والحق أن المسألة ليست مجرد اختيار موظف قد تميّز في فعل شيء، ومعنى تميزه أنه جاء بشيء مختلف في الفكرة والأداء، ولكن من ينظر إلى ذلك فقط فهذا اختزال غير منصف للعملية وابتسار لها، ونظر للأمر بسطحية بعيدا عن دلالته الحقيقية والطريق الموصل إليه؛ لأن متطلبات الولوج إلى الجائزة نفسها هي أداء تراكمي ليس وليد عشية وضحاها، كأن يكون المتقدم حصل على درجة جيد جدا على الأقل في آخر عامين من عمله، وهذا تحد آخر يتطلب الوعي وجهد يشعل حالة من التسابق بينه وبين أقرانه عبر فترة زمنية ممتدة.

وهنا أقول إن برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز، يهدف في المقام الأول إلى إشاعة هذه الحالة من التنافس المحموم في شتى المستويات الإدارية والبحثية، بحيث يصبح أداء العمل الوظيفي بشكل روتيني يومي وأداء الفرد لما هو مطلوب من تكليفات إدارية، يجعله في خانة الملتزمين ليس أكثر، وهذا بالمنطق أمر طبيعي، إلا أن البحث عن التميز له طريق آخر؛ طريق بدايته الإجادة وليس الأداء، وشجاعة المبادرة في تقديم أفكار هي في كل الأحوال ليست اختيارا من بدائل ولكن خروج عن التقليدي، وعدم انتظار الحلول التي تأتي للموظف من أعلى ولا يتعدى دوره فيها مجرد التنفيذ، ويعتقد أنه بالتنفيذ قد أدى ما عليه.

كما أن هذه الجائزة هي الباب الكبير للتنافس بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وألا يركن العاملون هنا أو هناك إلى ضمان تميز، إلا بتقديم أوراق اعتماد تتمثل في تقديم ما عجز عن فعله الآخرون.

في يقيني أن التنقيب عن التميز والبحث عن المتميزين، أينما كانوا وحيثما كانت درجاتهم الوظيفية، هي ثقافة غربت عن عالمنا العربي لفترات طويلة، ثقافة جعلت التقدير والثناء والجلوس في الصفوف الأمامية يقتصر على أهل الثقة مهما كان أداؤهم، دون أهل الخبرة مهما كان عطاؤهم، وهو من أهم أسباب الإحباط التي أصابت الكفاءات العربية، بل وجعلتها تبحث عن التقدير خارج حدود أوطانها، مما سبب نزيفا للكفاءات العربية التي أغنت العالم شرقا وغربا بإسهاماتها.

على الجانب الآخر، فإن مشكلة بعضنا هي الاعتقاد المزيف بندرة الكفاءات أو القيادات الشابة، القادرة على الإدارة وتقديم غير المألوف والحلول المبدعة في كافة المجالات والتخصصات، ولكن لنعترف أن ذلك اعتقاد نركن إليه لنبرئ ذمتنا أمام أنفسنا، كمن يكتفي باستيراد ما يريد استسهالا، دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن الكفاءات التي بين يديه فضلا عن صناعتها، وهو ما لا يقدر عليه إلا أولو العزم من القيادات التي تؤمن بطاقات أبناء شعبها، وهو ما تجسد في معايير الترشح التي تهدف في مجملها، سواء من حيث السن أو سنوات الخبرة أو الدرجة الوظيفية، إلى إفساح الطريق للأجيال الشابة.

وإذا كنا نتحدث دائما عن التنمية البشرية وقيمة الإنسان الذي هو أصل كل تقدم، ودونه يصبح الكلام عن التنمية والمستقبل محض تمضية أوقات، فإن جائزة التميز الحكومي هي الحاضن الحقيقي لصناعة القيادات واكتشافها.

الأمر الآخر، أن الكثير منا تكون لديه طاقات جبارة كامنة ومهارات لم توجه التوجيه الصحيح أو ترشد في الطريق السليم، حتى تأتي ما يمكن أن نطلق عليه "لحظة التنوير" التي تتفجر فيها هذه الطاقات للدرجة التي يكتشفها صاحبها، وكأنها المارد الذي خرج من القمقم ولن يعود إليه مرة أخرى، وهذا البرنامج في تقديري كذلك، هو الشرارة التي تم إطلاقها لتفجر طاقات أبناء الوطن من دبي ويعم نورها في إماراتنا الحبيبة. كيف لا وقد قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد "إن الإمارات سبعة بساتين مزدهرة، عبير أي منها يفوح نسيمه لينعم به أبناء الوطن حيثما كانوا".

إن قيمة الجائزة في جانبها الأدبي تفوق أية قيمة مادية، حيث ترسخ في نفوس أبنائنا قيمة العمل، وإن التميز في ما نقدم عليه هو السبيل الوحيد للترقي ونيل الاحترام والتقدير بين الناس، في عصر بات فيه الشباب يبحثون عن ضربة الحظ لتحقيق آمالهم.

كما أن هذه الجائزة تقدم الدليل والبرهان على أن التجويد يأتي من أسفل إلى أعلى، من أفراد لديهم الرغبة والقدرة على العطاء وتقديم غير المألوف، وإلا فما قيمة النظريات والخطط التنموية دون بشر قابلين وقادرين في مختلف المجالات لتنفيذ تلك الرؤى وجعلها واقعا معيشا؟ كما أنها تمثل صورة ناصعة لاحترام الإنسان، عندما يشعر كل فرد، مهما كان موقعه أو مسؤولياته أو حجم مهمته، أهمية ما يقوم به من عمل، وأن عمل غيره لن تكون له قيمة دون إتمام ما يقوم هو به، فالسلسلة متصلة، وأي ضعف في هذه السلسلة قد يفرط العقد بأكمله.

ولم يكن من الممكن أن تصل هذه الجائزة إلى ما وصلت إليه، من تأصيل يزداد عاما بعد عام، لولا قيادة جعلت من التميز في شتى المجالات حالة معيشة؛ لإيمانها بأنه - في ذات الوقت - حاجة ملحة، وأنه لا مستقبل في هذا العالم إلا للمتميزين، وأن طريق التميز رغم صعوباته ومشقته، إلا أنه السبيل الأوحد الذي رسمته دولتنا لنفسها، وباتت تحتل مكانة يصعب تجاوزها في كافة التقارير الدولية، ابتداء من مستوى التنمية البشرية، وليس انتهاء بموقعها على سلم الرفاهة الاجتماعي.

في تقديري أن الإمارات العربية المتحدة في البحث عن المتميزين بين أبنائها، لا تقدم الخير للإمارات فحسب، ولكنها تقدم النموذج للعالم العربي من محيطه إلى خليجه، في أن يكون البحث عن التميز ثقافة تعم كافة مؤسساتنا العربية؛ لتحتفظ أمتنا العربية بطاقتها المهدرة أو المغيبة.

وما عشته في رحاب التميز وبين المتميزين، انتقل من لوحة إبداع إلى أخرى، جعلني على يقين بأننا أمة قدارة وقوتها في أبنائها، ولكن أقول في الوقت ذاته لمن تميز أداؤه، بأن ذلك ليس نهاية المطاف ولكنه البداية؛ فالأهم من التميز هو المحافظة عليه وتنميته، وهذا لن يتأتى إلا ببذل المزيد من الجهد والعطاء، فالأصعب من الوصول إلى القمة هو المحافظة عليها، وأن يظل التميز في الإمارات حالة؛ لأننا سنظل إليه بحاجة.

Email