ثقافة الصورة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لكل عصر أسلوب ومنهج تتشكل من خلالهما عقول الناس وتتأثر توجهاتهم تبعاً لما يتاح من أدوات تستخدم، ففي عمق الحضارات القديمة كانت هالات التقديس حول شخصيات بعينها وادعاء القدرات الخارقة، وسيلة من وسائل التأثير على سلوك الناس والتأثير في عقولهم، تم ذلك عبر ما تم نقشه على مداخل المعابد وما رسم على جدرانها، واستخدم المسرح الذي كان له دور كبير في نشر المعارف وتكوين الثقافة، وبتتابع العصور اختلفت أدوات وأشكال التأثير.

ومنذ عقود قريبة كانت الصحيفة اليومية اللاعب الرئيسي في إحاطة الناس علماً بما يدور حولهم، لكنها اقتصرت على من يجيدون القراءة، ثم كانت السينما وعصرها الذي فتح الباب واسعاً لتعكس واقعاً وتشكل واقعاً لمن يرتادها، وتبعها التلفزيون الذي دخل كل بيت.

إن تحقيق أعظم الانتصارات في أعتى جبهات القتال، لا يغني أبدا عن تقديم هذا الانتصار من خلال الصورة التي تصل إلى الرأي العام، بل إن صناعة الصورة قد تؤدي إلى تحقيق الانتصار دون طلقة واحدة، ولذلك حرصت أقوى الجيوش في العالم، بدءاً من الحرب العالمية الأولى وحتى الأمس القريب، على أن تعد الخطة الإعلامية ـ بالتزامن، وربما قبل الخطة الاستراتيجية ـ للقتال، بل واصطحاب الإعلاميين في ركابهم بحجة حمايتهم لتقديم الصورة التي يودون أن يراها الناس عنهم، بصرف النظر عن الواقع الحقيقي.

كما أن تحقيق الأمم للإنجازات التنموية يفتقد الكثير من تأثيرها، دون موصلات وصناعة صورة تنقل هذه الإنجازات إلى الناس وتنقل الناس إليها، سواء في الداخل والخارج، وهو ما أعتقد أن إعلامنا ما زال يتخبط في تأطيره وبلورته. فما زال قطاع عريض من الرأي العام العالمي لديه صور مشوشة ـ إن لم تكن تدعو إلى التعجب ـ عن صورة المجتمعات العربية بصفة عامة، والمرأة العربية على وجه الخصوص، لضعف أدواتنا، أو لعدم وعي بعض الإعلاميين أهمية ذلك، في الوقت الذي ظل فيه الكثير من وسائل الإعلام الغربية ينتقي نماذج بعينها عن العرب والمسلمين، ويقدمها على أنها النموذج العام والصورة الشائعة، بما يحمله ذلك من تضليل وتشويه.

كما أن بناء الصورة الخاصة لكل دولة، هي إحدى أدوات السياسة الخارجية، ولا ننسى كيف أن بعض الدول تنفق الملايين في حملات العلاقات العامة لبناء صورة لها، وخاصة في أوقات الأزمات.

دعونا نعترف بأن الجانب الأكبر من التكوين الثقافي للأمم في العصر الحالي، باتت تشكله الصورة، سواء كانت السينمائية عبر صناعة الأفلام التي سيطرت عليها الدول الكبرى، إضافة إلى الصورة التليفزيونية والأشكال البرامجية المختلفة، سواء كان ذلك من خلال الدراما والأخبار أو حتى الإعلانات التجارية، وتزامن معهما بقوة صعود وسائل الإعلام الإلكتروني، أو الإعلام الجديد الذي جمع الكل في واحد، في عصر أصبح فيه جمهور الكتاب المطبوع عملة نادرة، إلا نفر قليل من الزمن القديم والجميل.

 وهل يختلف اثنان على التفوق الغربي ـ في كافة المجالات ـ وذكاء الشرطة الغربية منقطع النظير التي تستطيع سماع دبيب النمل، ومعرفة نوعه، ودقة وأناقة القنابل الغربية في الحروب، وبهاء المجتمع الملائكي في الغرب الذي لا يعرف الظلم أو التمييز، والعدالة التي لم نر لها أي ملمح في التعامل مع كافة القضايا التي تصدوا لها عبر أنحاء العالم كله؟ ألم تكن ثقافة صنعتها الصورة؟ كما أن هذا الواقع المصنوع للمجتمعات الغربية، والذي صدر إلينا عبر الصورة، كان سبباً في الخداع وتكوين إطار مبهر عن واقع ليس بهذا النقاء! بل إن الغرب ذاته استخدم الصورة في التضليل والخداع، مبررا مسلكا إجراميا غلفه بشرعية تليفزيونية صدَّرها للعالم، وأثبتت مجريات الأحداث زيفها وظلمها.

ولا شك أن الثقافة المبنية على القراءة هي الأدوم والأكثر ثباتاً، لأن فيها إعمالاً للعقل وإجهاداً للذهن وقدرة على التبصر والإمعان في الحقائق، واختيار الوقت الذي يناسبك والتأكد من مصداقية المعلومة المقدمة، ولكن كيف بمن يجلس أمام الشاشات ـ صغرت أم كبرت ـ بعد يوم من العمل الشاق، أن يكون على نفس الدرجة من اليقظة والتأمل؟

والحق أن إعلامنا العربي ظل لفترات يقاتل في معركة الصور بطريقة رد الفعل، وخسرنا الحروب الإعلامية في فترة تاريخية طويلة، رغم عدالة مواقفنا التي لا تحتاج منا غير حسن التقديم والقدرة على عرضها، في حين استطاعت وسائل الإعلام الغربية رسم صورة تجافي الواقع في أحيان كثيرة وتصدرها للعالم.

إن الظلم الإعلامي الذي تعرضت له أمتنا العربية، يدعونا إلى الأخذ بزمام المبادرة، والوعي بأهمية ثقافة الصورة، من خلال فهم دقيق لسبل تشكيل الصورة وكيفية مخاطبة الآخر وأدوات صناعتها، وأن تدرك وسائل الإعلام العربية مهمتها الكبرى في خدمة أوطانها، بعيداً عن الإغراق في الترفيه إلى حد الاختناق.

إننا لا نحتاج فقط إلى بنية إعلامية تحتية، تساعد وترتقي بالقدرات الإنتاجية وتقدم مادة إعلامية فقط، ولكننا إلى جانب ذلك نحتاج تدريب الكوادر البشرية وتأهيلها، كوادر تستطيع أن تعرف كيف تخاطب الآخر، حيث إن من متطلبات نجاح أي منتج إعلامي في الداخل والخارج، معرفة طبيعة الجمهور وكيفية مخاطبته ومفاتيح شخصيته. وهنا أتساءل: هل المواطن الغربي يتأثر أكثر بلغة العاطفة أم بلغة الحقائق؟ هنا تكمن الإجابة، لماذا عجز الإعلام العربي حتى الآن عن كسب تأييد قطاع كبير من الرأي العام الدولي لقضايانا؟

لذا من الأهمية بمكان أن تخرّج برامج الإعلام التي تدرس في مختلف الجامعات العربية، أجيالاً قادرة على فهم متطلبات ثقافة الصورة وكيفية التعامل مع التحديات التي تواجه مجتمعاتنا إعلاميا، لأننا أكثر شعوب الأرض التي أضيرت من الصور السيئة التي رسمتها وسائل الإعلام الغربية في معركة غير متكافئة.

إن خطورة الصورة تأتي من انتقائيتها وبنائها لواقع قد يختلف عن الواقع الحقيقي، الذي لا يستطيع الكثير من المتابعين تمييزه ويتأثر به، وخاصة أنه ليس في مقدور كل منا أن يبني تصوراته عن العالم المحيط به، عبر التجربة المباشرة.

كما أن الصورة المؤثرة لا تدوم طويلا ما لم تكن تعكس واقعا قويا، ومن هنا تأتي فاعليتها في التدعيم، لأنك تستطيع خداع بعض الناس بعض الوقت، ولكن لا تستطيع خداع كل الناس طوال الوقت.

Email