حول مشروع الدستور السوري

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعرض السلطة السورية غداً الأحد على الاستفتاء الشعبي مشروع الدستور السوري الجديد، وقد استبقت تصريحات المسؤولين وتعليقات وسائل الإعلام والصحافة هذا الاستفتاء، بالقول إنه بداية مرحلة جديدة، بل انعطافاً مصيرياً في حياة سورية السياسية، وتاريخها المعاصر، وخطوة كبيرة نحو الديمقراطية، وإرساء أساس ديمقراطي تعددي تمثيلي للنظام السياسي السوري، وبداية جدية لتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في مختلف مجالات الحياة السورية.

يصعب بمثل هذا المقال إجراء دراسة شاملة لمشروع الدستور السوري، ولذلك سأشير إشارات سريعة لبعض الملاحظات التي تتعرض للجوانب الرئيسية في مشروع الدستور.

فمن حيث المبدأ، كان من المفروض أن تضع الدستور هيئة تأسيسية منتخبة من الشعب تشارك فيها مختلف الاتجاهات السياسية والفئات الاقتصادية والاجتماعية، ومختلف تنوعات فئات المجتمع السوري، كي يكون الدستور ملبياً لمطامح الجميع ومصالح الجميع، وتضع هذه الهيئة أسس مشروع الدستور، ثم تكلف لجنة من المختصين والأكاديميين والقانونيين صياغته وإعداده، ثم بعد ذلك يطرح على الاستفتاء الشعبي.

بعد فترة كافية من الحوار والنقاش الذي تجريه حوله وسائل الإعلام والصحافة والمنتديات الثقافية والهيئات النقابية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني والأهلي ومختلف الجهات ذات العلاقة، بحيث يُشبع دراسة وحواراً ونقاشاً شعبياً يشمل الملاحظات عليه من قبل هذه الفئات جميعها، وتتحقق صورة واضحة عنه وعن مضمونه لدى جميع الناخبين من أبناء الشعب، بحيث يتاح لهم إبداء آرائهم الحقيقية والأقرب للصحة والموضوعية بالرفض والقبول خلال الاستفتاء، وقد درجت معظم دول العالم بل كل دول العالم المعاصرة، على إتباع هذه المراحل والتقاليد

. أما في مشروع الدستور السوري فقد وضعته لجنة شكلّها رئيس الجمهورية من الأشخاص الموالين للنظام فقط، يمثل معظمهم شريحة واحدة من المجتمع، وكانت تيارات المعارضة قد رفضت المشاركة في اللجنة، كما لم تشترك فيها الفئات الاجتماعية والاقتصادية السورية المتعددة.

وبالتالي كانت هذه اللجنة تمثل في الواقع رئيس الجمهورية وحزب البعث فقط، كما لم يطرح مشروع الدستور على النقاش ولم يخصص وقت لمناقشته أو إفساح المجال للناس لإبداء الرأي فيه، وكل ما عملته السلطة هو نشر نص الدستور ونشر آيات المديح والثناء عليه.

في ضوء ذلك جاء مشروع الدستور معبراً حقيقياً عن رأي السلطة والرئيس، متضمناً رغباتهما، حافظاً لمصالحهما، ولذلك أعطى لرئيس الجمهورية صلاحيات لا تقل عن صلاحياته التي تضمنها الدستور السابق، فهو الذي يسمي رئيس الحكومة والوزراء، بغض النظر عن نتائج الانتخابات، وهو رئيس المجلس الأعلى للقضاء، والقائد الأعلى للجيش، وله الحق بحل مجلس الشعب (النواب)، وإصدار مراسيم تشريعية خلال انعقاد المجلس وخلال غيابه، وإقالة الحكومة أو أحد وزرائها.

وإصدار قانون الأحكام العرفية، وطلب تعديل الدستور، وتشكيل المحكمة الدستورية العليا (التي تبت بدستورية القوانين وتحاكم رئيس الجمهورية)، فضلاً عن تعيين الموظفين المدنيين والعسكريين، أي في الحقيقة له كل السلطة، وحتى تلك القوانين التي يصدرها الرئيس ويقتضي العودة فيها إلى مجلس الشعب لا يستطيع المجلس رفضها إلا بأكثرية الثلثين.

وهكذا أعطى الدستور للرئيس صلاحيات مطلقة لايتمتع بها أي رئيس آخر. وتتناقض مع مبدأ فصل السلطات تناقضاً كاملاً، فهناك مثلاً تقليد سوري يقضي بأن يفوض الرئيس وزير العدل برئاسة المجلس الأعلى للقضاء التي هي حسب الدستور حق للرئيس، وبالتالي تناط السلطة القضائية بوزير العدل، أي بالسلطة التنفيذية. وفي كل الحالات فإن هذه الصلاحيات ألغت واقعياً ما تضمنته مواد الدستور الأخرى حول الديمقراطية والتعددية وما يشبهها.

هناك أمران غير عاديين أشار إليهما مشروع الدستور: أولهما أنه حدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بسبع سنوات، يمكن تجديدها مرة واحدة، واستثنى الرئيس الحالي منها، فأشار صراحة إلى أنه يمكنه أن يترشح مرة جديدة بعد انتهاء ولايته الحالية التي يكون قد مضى عليها أربعة عشر عاماً، لولايتين جديدتين.

والثاني أنه أعطى مدة ثلاث سنوات لتغيير القوانين الحالية التي وضعت حسب الدستور السابق، مثل قانون التظاهر أو الطواريء أو المتعلقة بالحريات أو غيرها، فضلاً عن أنه بالرغم من إلغائه المادة الثامنة في الدستور السابق التي أعطت لحزب البعث قيادة الدولة والمجتمع، لم يسمح بتعددية سياسية حقيقية تؤهل الأحزاب الأخرى لقيادة الدولة.

رفضت تيارات المعارضة السورية المشاركة في لجنة وضع الدستور عند تشكيلها، لأنها حسب وجهة نظرها تؤدي مهمتها في ظروف سيئة جداً، وغير صحية، وعلى أشلاء آلاف القتلى، وعشرات آلاف المعتقلين والمشردين، وانتشار الجيش والقوات المسلحة والأمنية في شوارع القرى والبلدات والمدن السورية، مفترضة إصرار النظام المسبق على أن يكون الدستور على صورته وحسب مصالحه.

وهي الآن تنتقد الدستور لأن مضمونه لم يختلف عن تصوراتها واستنتاجاتها المسبقة، وأنه وسيلة شكلية يوظفها النظام لإجهاض الثورة، والتغلب على مظاهرات الاحتجاج، ورفض أي إصلاح حقيقي للنظام السياسي، أو احترام جدي لحقوق الشعب، والاعتراف بمشاركته في السلطة والثروة.

يتوقع المراقبون أن تكون نسبة الاستفتاء الحقيقية على مشروع الدستور متدنية جداً ممن يحق لهم التصويت، كما يتوقعون أن إقرار هذا المشروع لن يغير شيئاً من المسار السياسي السوري، كما لن يغير الممارسات العنفية والقمعية التي يتبعها النظام ضد المحتجين والمنتفضين، مثلما كان الأمر بعد إصدار قانون التظاهر الذي أُقر قبل عدة أشهر ليكون بدلاً من قانون الطواريء لكنه لم يغير شيئاً من ممارسات أجهزة الأمن والقمع، بل زاد الأمور سوءاً، وهذا ما تتوقعه المعارضة بعد الدستور الجديد.

 

Email