في العلاقة بين الحاكم والمحكوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما يشد إعجاب المراقبين من الخارج، وبالذات الغربيين، إلى تجربة دولة الإمارات منذ بدايتها وحتى هذه اللحظة، هو كيفية تطويع الموروث الأصيل ليتماشى ويتماهى مع الحديث دون أي مشكلة. إحدى القضايا التي شدت اهتمامهم .

ولم يجدوا لها تفسيرا طبقا لعقليتهم الغربية أو أنماطهم السياسية والاجتماعية، هي العلاقة بين السلطة والشعب، بين الحاكم والمحكوم. إنها العلاقة التي غالبا ما يتوقفون عندها ويبدؤون في طرح العديد من الأسئلة المحيرة بالنسبة لهم والبديهية بالنسبة لنا، أسئلة تدخل في صميم العلائق والوشائج الاجتماعية القادمة إلينا من موروث الصحراء، لتناقش أنظمتنا القائمة وأعرافنا السائدة. أسئلة كثيرة محيرة تدور حول هذه العلاقة المباشرة من التعقيدات والرسميات بين القيادة من أعلى قمتها الهرمية وبين الشعب، علاقة نراها واضحة في كل يوم من خلال ذلك الاتصال المباشر بين المسؤولين الكبار وبين الشعب.

أسس لتلك العلاقة الآباء المؤسسون للدولة زايد وراشد وتبنتها القيادة السياسية بعد ذلك كنهج تسير عليه، إيمانا منها بأن التواصل بين أعلى قمة الهرم الإداري وبين الشعب هو أساس الحكم وأساس العدل الاجتماعي، وأن الشورى هي منهاج الحياة السياسية.

وترسخت العلاقة عبر الأيام لتصبح أكثر من مجرد علاقة بين حاكم ومحكوم، بل تحولت إلى علاقة أب بأبنائه. فلا يمر يوم دون أن نرى نوعاً من التواصل المباشر بين القيادات الحكومية وبين مختلف شرائح المجتمع. لذا فليس من المستغرب أن تكون القيادة السياسية قريبة من هموم الشعب، وأن يتحول الآباء المؤسسون إلى أيقونات خالدة في ذاكرة مجتمعنا.

سعت القيادة السياسية في الإمارات دوماً لتكريس ذلك النمط من التعامل المباشر بين القيادة والشعب، إيماناً منها بأهمية الإبقاء على التقاليد الأصيلة في التعامل نشطة. وكثيرا ما رأينا الحكام يتجولون بين الناس دون عقبة أو بروتوكول. إنها قيمة بدوية حرصوا عليها رغم تغير الظروف والزمان. أما مجالسهم فأصبحت عبارة عن منابر مفتوحة لتبادل الرأي وطرح الأفكار والمبادرات التي تهم المجتمع ككل، يلتقي فيها المواطنون ويتبادلون الرأي أمام المسؤولين في جو تشيع فيه الديمقراطية وتلتقي فيه كافة الرؤى حتى المتضاربة منها.

وقد تميزت تلك المجالس بانفتاحها على كافة أطياف المجتمع وطبقاته وأجناسه. ولم تقتصر جلساتها على المجتمع المحلي، بل شملت الوافد وكل من لديه فكرة أو رأي أو مشروع مجتمعي مبتكر، حتى غدت تلك المجالس بحق رديفاً للحراك المجتمعي.

وكثيرا ما وقف الأجانب مستغربين على طريقة أداء وعمل تلك المجالس وانفتاحها على عامة الشعب وخلوها من كافة أشكال البروتوكول، وتميزها بالبساطة في الطرح وبالشفافية في التعامل. وكثيرا ما وقف المراقب الأجنبي مشدوها للكيفية التي يستطيع فيها أي مواطن الوصول إلى أعلى قمة الهرم السياسي دون أي صعوبة أو تكلف. بل كثيرا ما عقد المراقبون الأجانب المقارنة تلو الأخرى بين ما يحصل عندنا وبين ما يحصل في بلدان ومجتمعات أخرى. كيف يستطيع من لديه قضية أو مشكلة مقابلة الحاكم في مجلسه دون أية عقبة؟ كيف يستطيع من لديه قضية أو مبادرة، طرحها دون وجل؟

وكيف بقت تلك المجالس التقليدية مفتوحة حتى الآن على الرغم من تغير أنماط الحياة ودخول كافة أشكال البروتوكولات على دواوين الرؤساء والحكام والمسؤولين الكبار؟ أسئلة كثيرة كهذه تحاول فهم تلك العلاقة الخاصة بين السلطة والشعب والتي لم تتغير حتى الآن على الرغم من تغير الظروف وتقلب الزمن .

العلاقة التلقائية والعفوية بين القيادة والشعب كانت موضعاً للعديد من الدراسات الغربية. البعض أرجعها إلى الطبيعة الديمغرافية للإمارات وقلة عدد المواطنين بالنسبة لغير المواطنين، والبعض أرجعها إلى طبيعة المجتمع البدوي وسهولة التقاء الناس وغياب الرسميات، والبعض أرجعها إلى تفاسير أخرى عديدة تبدو ساذجة في نظرنا.

ولكن القليل منهم غاص حقاً في أعماق ثقافتنا الاجتماعية. فالحاكم يعد نفسه فرداً من الشعب وليس بأفضل منه، لذا فهو قريب من همومه وقضاياه ويسهر على راحة شعبه.

لقد درج الغرب، مثلًا، على فهم الآخر من خلال منظار تاريخي معين استقاه من ثقافته وتاريخه السياسي والاجتماعي. وقد عرفت المجتمعات الغربية ثورات سياسية واجتماعية متعددة كان القصد من ورائها تحقيق العدالة الاجتماعية وإزالة كافة الفوارق بين السلطة والشعب من أجل الوصول إلى مجتمع تكافؤ الفرص وإلغاء الفوارق. ويمكن أن يكون أشهر تلك الثورات هي الثورة الفرنسية التي حاولت إيجاد مفاهيم جديدة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لقد تبنت الثورة الفرنسية عند انطلاقتها شعارات ثورية مثل العدالة الاجتماعية، الإخاء والمساواة.

وأعجبت أوروبا جميعها بتلك الشعارات، ولكنها لم تستطع وضعها جميعاً حيز التنفيذ. ومنذ عصر الثورات الأوروبية، بدأ الغرب لا ينظر للآخر سوى من خلال هذا المنظار، منظار العدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق والتواصل السلس بين السلطة والشعب.

وأصبح أي خروج عليها هو خرق لتلك المفاهيم السياسية التي كافحت الشعوب الغربية لزمن طويل لتحقيقها. لذا لا يستطيع الغربيون اليوم تخيل أي مجتمع عادل بدون ثورة فكرية أو اجتماعية تهزه من الأعماق لتفسح المجال لظهور مجتمع العدل والمساواة، والتعاون السلس بين السلطة والشعب.

فلا غرابة أن تشد تجربة الإمارات الأنظار، لأنها تمثل نموذجا متفردا في التعامل السلس بين القيادة من أعلى قمتها الهرمية وبين الشعب، حدث ذلك بسلاسة لأنه وبكل بساطة مشتق من التراث الأصيل. إنها قيمة تراثية حرص كل من المسؤولين الكبار والشعب على إبقائها نابضة بالحياة، مشتعلة رغم كل تغيرات الزمن. إنها علاقة تسمو على كافة أشكال العلائق لتظهر تراثنا حديثاً في شكله وأصيلاً في جوهره.

 

 

Email