أين «لكن»؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين كنت أدرس الماجستير والدكتوراه في الجامعة الأردنية، كنت أحرص على حضور جلسات مناقشة الرسائل الجامعية مع مجموعة من زملائي وزميلاتي؛ فقد كان هذا الأمر يحفزنا ويمنحنا دروسا مجانية في أصول كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه. وقد كانت المناقشة تتبع نمطا شبه ثابت، حيث كان المناقش يبدأ في الغالب بالثناء على جهد الطالب وذكر النقاط الإيجابية في رسالته، ثم يثنّي بذكر الملاحظات والمآخذ والنقاط السلبية التي كان على الطالب أن يتجنب الوقوع فيها. وقد كان هذا هو الجزء الذي يهمنا، لأنه الجزء الذي نستفيد منه ونتعلم. وكان من عادة المناقش، بعد أن ينتهي من الثناء على الطالب ويعدد نقاط القوة في رسالته، أن يقول «ولكن»، ثم ينتقل بعد «لكن» هذه إلى نقد جوانب الضعف أو الخلل. وقد كانت «لكن» هذه هي التي نجلس بتحفز في انتظارها، وهي التي كان زملاؤنا الشباب يرددون عبارتهم المشهورة في شأنها «هاتِ لكن وخلصنا». لقد كانت «لكــن» هذه هي معيار التوازن في مناقشة الأستاذ، وهي التي تنبؤنا بأن قراءته كانت قراءة موضوعية، فاحصة، دقيقة. وقد تكون «لكن» هذه معيارا عاما في أي نقد أو تحليل، لأي نص أو ظاهرة أو واقع؛ إذ لا يمكن أن يتصدى أحد منا لتحليل أو نقد أي شيء، دون أن يراعي ملاحظة الجانبين معا؛ القوة والضعف، الصحة والخطأ، الإيجاب والسلب. وإلا فإن كفة الميزان ستطيش.

وقد يكون نقد الواقع، أو تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية والفكرية فيه، من أكثر المسائل حاجة إلى «لكن» هذه، خاصة في مجتمعاتنا العربية التي تغرق أحيانا في خطابات مديح رنانة تحجب الرؤية، وتضلل، وتزيف الواقع، وتجعل الناس يعيشون حالة من عدم اليقين، وعدم الثقة، تتطور أحيانا لتصل إلى حالة من السخط أو اللامبالاة والانسحاب التام؛ لأن الناس، مهما يكونوا من السذاجة والبساطة، لا يمكن أن تتعطل عندهم القدرة على التمييز تماما، ولا يمكن، ونحن نعيش في عصر الانفتاح وانفجار المعلومات، ألا تصلهم جوانب أخرى من الصورة تفند خطابات المديح الكاذبة هذه وتضعها موضع الشك، وتَسِم أصحابها بصفة عدم الصدق، أو تصنفهم في زمرة المنافقين المرائين. وقد صدق رسولنا الكريم، عليه الصلاة والسلام، حين قال: (إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب).

وقد جاءت صيغة المبالغة «فعّال» لتشير إلى من كان المدح ديدنه في كل وقت وحين، فهؤلاء يكونون في الغالب مزيفين، هدفهم التسلق وكسب رضا المسؤولين. ومن ناحية أخرى، فإن تحليل الواقع الذي يتجه إلى سلبه كل مظاهر الإيجابية، وتجريده من كل صور النجاح ومكامن القوة، لا يخدم في النهاية الأغراض النبيلة التي قد يكون مهد لها صاحبها وسعى إليها؛ إذ لا يستقيم الإصلاح ولا يتحقق حين يصدر الناس عن رؤية تعمى عن مواطن الإنجاز، وتنكر صور النجاح. فالتوازن في تحليل الواقع والظواهر، يمنح الناس قدرا ضروريا من الثقة بالنفس والرضا، وفي الوقت نفسه يشجعهم على الاعتراف بالتقصير دون خوف أو خجل، ويدفعهم إلى الإصلاح والتحسين والتطوير، بحماسة من يريد أن يجعل الصورة مكتملة في جوانبها المشرقة الصحيحة.

وقــد تقــع على عاتق المثقفين وأصحــاب القرار، مسؤولية تحقيق هذا التوازن في خطاباتهم التي يوجهونها للجمهور، ولا شك أن الكل مسؤول في النهاية عن التحلي بالصدق والشجاعة في إبداء الرأي، وتحري الموضوعية والعدل في تحليل الوقائع وتقويمها. ولكن يبقى الأمر في النهاية منوطا أكثر بشرائح بعينها من المجتمع؛ فالأب والأم في بيتهما، والمعلم في مدرسته، والمسؤول في مؤسسته، مسؤولون مسؤولية جزئية، قد لا تتعدى الأفراد الذين يتحلقون حولهم بسبب طبيعة العلاقة التي تربطهم بهم، لكن الحلقة كلما زادت اتساعا ارتفعت نسبة المسؤولية تجاه الآخرين. فأصحاب الأعمدة الصحفية والكتاب والمثقفون وأصحاب القرار الذين تتجه إليهم العيون والقلوب والعقول، يتحملون مسؤولية مضاعفة تجاه الناس والمجتمع، ومطالبون بأن يخلّصوا خطابهم من المبالغات، والمدح أو القدح غير المنطقي، الذي إن حقق لهم منافع آنية سريعة، فسيسبب أضرارا كثيرة في بنية المجتمع وقدرته على التماسك والمضي قدما نحو المأمول.

إنّ «لكن» هذه التي كنّا ننتظرها بفارغ الصبر أثناء المناقشات العلمية، ضرورية لصحة المجتمع، وجوهرية لضمان استمرار تعافيه وتقدمه. وفي هذا السياق أذكر عبارة قرأتها لرئيس إدارة الصرف الأجنبي في الصين «يي جانغ»، في تصريحات أدلى بها بعد انتزاع الصين من اليابان موقع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعــد ثلاثة عقود من النمــو السريع؛ فقد قال ردا على سؤال عما إذا كان الوقت قد حان ليصبح اليوان عملة عالمية: «لا تزال الصين دولة نامية، ويجب أن نتحلى بما يكفي من الحكمة لنعرف قيمة أنفسنا». فهذا الإنجاز التاريخي الكبير لم يعمهم عن «لكن» المختفية في سياقات كثيرة، والتي تجعلهم يتعاملون مع إنجازهم، على ما له من أهمية كبرى، تعاملا يتسم بالتوازن والحكــمة، فلا ينخدعــون ولا ينظرون إلى الحــدث بعين واحدة.

والمتأمل في نصوص بعض مثقفينا وكتبانا، يرى أنهم أسقطوا «لكن» من خطاباتهم، وأنهم إما أن يتخذوا سبيل المدح والنفاق والمجاملات، وإما أن ينهالوا رميا في المجتمع برصاص النقد السلبي الذي لا يرحم ولا يعترف بالجميل. وكلا الفريقين قد جانب الصواب. فالمثقف، كما يقول إدوارد سعيد، يجب ألا «يكون مهادنا جدا أو باعثا على الشعور بالأمان، ولا يجب على المثقف محاولة أن يكون كساندرا طوال الوقت التي لم تكن فقط بغيضة، بل غير مسموعة أيضا..».

قد يكون أمرا حاسما وضروريا أن نتأمل لغة خطاباتنا وحواراتنا، وأن نميز مضامينها الصادقة من الكاذبة، وأن نتحرى الصدق، ونتحلى بالشجاعة، وأن نمنح أنفسنا فضاء من الحرية يتيح لنا أن نرى أنفسنا على حقيقتها، بلا مداراة ولا قسوة. قد يكون أمرا حاسما وضروريا جدا، أن نحافظ على وجود «لكن» في نقدنا وتحليلنا لتجاربنا وواقعنا، فربما تكون هذه الكلمة الصغيرة هي صمّام الأمان الذي يحمينا، وهي نقطة الانطلاق نحو تصحيح الأخطاء وتعديل المسار، نحو ما نتمنى ونرجو.

 

Email