تجربة المواطنة في الإمارات. .الانتماء للأرض ـ د. رنا خالدكاتبة عراقية

تجربة المواطنة في الإمارات. .الانتماء للأرض

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعد المواطنة من القضايا القديمة المتجددة التي ما تلبث أن تفرض نفسها عند معالجة أي بعد من أبعاد التنمية بالمفهوم الإنساني الشامل بصفة خاصة ومشاريع الإصلاح والتطوير بصفة عامة. وتعد تجربة المواطنة في دولة الإمارات إحدى أهم التجارب العربية وهي جديرة بالدراسة التبصر وذلك لسببين أساسيين:

الأول: إن عمق فكرة المواطنة ورسوخها لدى أبناء الإمارات يفوق العديد من الدول التي تأسست منذ مئات السنين وبالتالي فإن حداثة تكوين دولة الإمارات تجعلنا نفخر بوجود هذه الدرجة من التماسك الوطني والمواطنة الحقيقية في بلد عربي حديث نسبياً.

ثانياً: إن دولة الإمارات كانت على مدار التاريخ مجمعا كبيرا للقبائل العربية ذات التاريخ والامتداد المكاني والزماني وعليه فإن عملية صهر أبناء الإمارات في بوتقة واحدة ليست بالعملية السهلة خاصة مع وجود حدود برية وبحرية واسعة تحيط بدولة الإمارات. وقبل أن نسلط الضوء على تجربة المواطنة في الإمارات لابد أن نفهم ماهية المواطنة وكيف ولماذا تعتبر واحدة من أهم العناصر الداعمة للتنمية والاستقرار.

المواطنة بشكل بسيط ودون تعقيد هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض ، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركاً في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها ويتمتع بشكل متساوٍ مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها.

في هذا السياق احتلت هذه القضية مساحة كبيرة في الدراسات السياسية والاجتماعية والتربوية، وتعددت أبعاد المواطنة في علاقاتها الممتدة عبر قضايا تتمحور في علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من خلال أطر قانونية منظمة للحقوق والواجبات، ومبينة مواصفات المواطن وأبعاد المواطنة حسب المنابع الفكرية للدولة ومرجعية نظرياتها السياسية.

وأنتجت أطروحات الفكر في مختلف دول العالم العديد من الرؤى الفكرية حول مفهوم المواطنة ومبادئها - حقوقها وواجباتها، تنوعت بتنوع مبادئ الفكر ونظريات السياسة.

وفي العالم العربي اختلفت أطياف الفكر كذلك ليس فقط حسب الاختلاف المنهجي القطري بل أيضاً في داخل القطر الواحد باختلاف الأيديولوجيات التي تعاقبت بتعاقب مراحل الحكم وإدارة الدولة في الحقب الزمنية المختلفة مما أوجد أنماطاً متعددة من الوعي لدى الشعوب العربية تداخلت أحياناً وتصادمت أحيانا أخرى، وأثرت على دوائر الانتماء مما أدى إلى العديد من الانعكاسات السلبية على مبدأ المواطنة ذاته فضلاً عن ممارساتها من قبل الأفراد.

ودولة الإمارات العربية المتحدة استطاعت ان تبلور تجربتها الخاصة في خلق المواطنة وتفعيلها في ضمير المقيمين في الإمارات ليس للمواطنين فحسب بل وحتى للوافدين إليها على سواء.وذلك عبر أساليب امتازت بالشفافية والعلمية والعملية وبالطريق التي تتواءم مع متطلبات التنمية الوطنية التي تنهض بها الدولة.

ويعد برنامج (وطني ) واحداً من أهم تلك الأساليب المبتكرة لتنمية المواطنة الصالحة وكذلك جملة من البرامج والممارسات والمناسبات التي تشكل في واقعها طبيعة هذه البلاد وكذلك تجمع المواطنين حولها. وفي العموم يمكن رصد خمسة أهداف رئيسية لفكرة المواطنة في دولة الإمارات.

1-الانتماء: ويشير مفهوم الانتماء إلى الانتساب لكيان ما يكون الفرد متوحداً معه منتميا إليه باعتباره عضواً مقبولاً وله شرف الانتساب إليه، ويشعر بالأمان فيه.وهذا ما يمكن ملاحظته في تجربة الاتحاد حيث إن الإمارات السبع والانتماءات القبلية لم تحل دون ترسيخ الانتماء إلى الكيان الواحد والدولة الواحدة. وهذا هو مبعث الفخر في تجربة الاتحاد في الإمارات حيث إن الجميع اتفق على ان يتنازل عن جزء من الانتماء إلى القبيلة أو الإمارة لصالح الانتماء إلى كل الإمارات وهكذا تصاعدت هذه الروحية إلى ان تحول الانتماء إلى الإمارات المتحدة هو أساس المواطنة الصالحة وجزء لا يتجزأ من الضمير الوطني.

2-الهوية:

يسعى الانتماء إلى توطيد الهوية، وهي في المقابل دليل على وجوده، ومن ثم تبرز سلوكيات الأفراد كمؤشرات للتعبير عن الهوية وبالتالي الانتماء.والواقع ان مواطني دولة الإمارات متمسكون بإبراز هويتهم الوطنية العربية والإسلامية.

وكذلك الحفاظ على الموروث الشعبي الخالص الذي يشكل طبيعة الإنسان الإماراتي وما هي الخصائص التي يتمتع بها وهذا الأمر بات ملموسا في السنوات العشر الأخيرة حيث تركيز الإعلام على تراث الإمارات والتنقيب عن المفقود والمغمور منه والذي لم تتح له الفرصة في الماضي علما ان الإمارات تحتوي على منبع خصب من المواد التراث والميثيولوجيا والأساطير الشعبية العريقة والتي تحكي الطريقة التي عاش فيها أبناء الإمارات وكيف تشكلت هويتهم على مر السنين.

3-الجماعية:

إن الروابط الانتمائية تؤكد على الميل نحو الجماعية، ويعبر عنها بتوحد الأفراد مع الهدف العام للجماعة التي ينتمون إليها.وهذا العنصر يتجلى في بزوغ ثقافة دعم التنمية وعلى جميع الصعد وهو هدف الإمارات الذي بات نقطة توحيد أبناء الإمارات حتى تغيرت على أثرها العديد من السلوكيات الاجتماعية فأصبحت المرأة الإماراتية تتصدر العمل وتشارك في بناء بلدها وتخوض تجربة القيادة والإدارة بنجاح تام.

وذات الأمر بالنسبة لرغبة الرجل في العمل حيث أصبح أبناء الإمارات يقبلون بكل اندفاع على العمل الحكومي وعلى التعلم من التجارب الأخرى وأضحت روح الجماعة ملموسة في جميع المؤسسات في دولة الإمارات.

4-الالتزام:

ويعني باختصار التمسك بالنظم والمعايير الاجتماعية، وهنا تؤكد الجماعية على الانسجام والتناغم والإجماع على القانون.والواقع ان روحية الالتزام بالقانون أضحت أهم عناصر التربية والتنشئة الاجتماعية في دولة الإمارات وصار القانون الأساس الذي ترتكز عليه العلاقات المتبادلة بين أفراد الإمارات مواطنين كانوا أو وافدين.

الواقع ان العلاقة بين القانون والمواطنة الصالحة علاقة صميمية صلبة حيث إن الحقوق والواجبات داخل المجتمع الواحد لا يمكن أن تتحدد إلا بموجب قانون يحترمه جميع أفراده، لأنه يحقق التوازن في الحق والواجب بين المواطنين والدول التي خاضت مسيرة التنمية بنجاح ارتكزت في بنائها التنموي على سيادة القانون وجعله أساس العلاقة بين المواطنين.

5- التواد ويعني الحاجة إلى الانضمام أو العشرة، وهو- التواد- من أهم الدوافع الإنسانية الأساسية في تكوين العلاقات والروابط والصداقات ويشير إلى مدى التعاطف الوجداني بين أفراد الجماعة والميل إلى المحبة والعطاء والإيثار والتراحم

بهدف التوحد مع الجماعة. وربما تعد مفاجآت صيف دبي، ومهرجان دبي للتسوق والعديد من المناسبات هي في الواقع تعكس رغبة حقيقية في جمع المواطنين والوفدين في دولة الإمارات في مناسبات ورموز مشتركة تمثل السعادة والأمل والتعاون ومشاركة الآخر.

وفي القرن الحادي والعشرين شهد مفهوم المواطنة تطوراً مال به منحى العالمية وتتحدد مواصفات المواطنة في القرن العشرين بالعناصر التالية: الاعتراف بوجود ثقافات مختلف، واحترام حق الغير وحريته، والاعتراف بوجود ديانات مختلفة، وفهم وتفعيل أيديولوجيات سياسية مختلفة، فهم اقتصاديات العالم، والاهتمام بالشؤون الدولية، المشاركة في تشجيع السلام الدولي، والمشاركة في إدارة الصراعات بطريقة اللاعنف.

وهذه المواصفات لمواطن القرن الواحد والعشرين يمكن فهمها بشكل أفضل في صورة كفاءات تنميها مؤسسات المجتمع لتزيد فاعلية الارتباط بين الأفراد على المستوى الشخصي والاجتماعي والمحلي والقومي والدولي ويكون ذلك بتنمية قدرات معينة للتفكير تحسم وتنظم في الوقت نفسه الاختلافات الثقافية، ومواجهة المشكلات والتحديات كأعضاء في مجتمع عالمي واحد، ويستند هذا المنحى في إرساء مبدأ المواطنة العالمية على ركيزتين:

الأولى: عالمية التحديات في طبيعتها كعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية،والامتلاك غير المتساوي لتقنيات المعلومات وانخفاض الخصوصية، والتدهور البيئي وتهديد السلام، والثانية: أن هناك أمماً ومجتمعات ذات ديانات وثقافات وأعراف وتقاليد ونظم مختلفة.

وربما فرضت الأقدار على دولة الإمارات ان تحتوي خليطا ضخما من الجنسيات الوافدة التي حملت معها عاداتها وتقاليدها وانتماءاتها. وبالتالي فإن هذا الوضع فرض على مواطني دولة الامارات التعامل مع هذا الوعي العالمي بطرقة تعتبر رائدة حيث التوازن في التعامل واحترام الآخر ما دام الآخر يحترم شرائع البلد والقانون. هذا بالإضافة إلى تبلور الممارسات الإنسانية لدى المواطن والذي تشجعه السياسة العامة لدولة الإمارات .

ومن هذه الممارسات الوقوف مع الشعوب الأخرى في قضاياها وبلاياها وهذه المواقف هي بحد ذاتها ممارسة لتوحيد المواطنة حيث إن خلق الرأي العام خلق القضايا الدولية هو بحد ذاته وسيلة من وسائل تنمية المواطنة الصالحة في الإمارات.

إذن تجربة المواطنة في الإمارات هي باختصار تجربة ترسيخ الانتماء للأرض وهي تجربة باتت تعكس نفسها على جميع القاطنين في الدولة من الوافدين على اختلاف مشاربهم حتى صار الجميع متفقا على ان المواطنة في الإمارات كنز من القيم الإنسانية في بلد حديث التكوين يجب الحفاظ عليه ويجب التعلم منه.

كاتبة عراقية

Email