خواطر حول الفلسفة التركية

خواطر حول الفلسفة التركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشغل تركيا الآن واجهة الأحداث بسبب الصراع بين التيارين الكبيرين في البلاد: الإسلامي والعلماني مع ملاحظة ان التيار الإسلامي هناك وسطي وعقلاني الى حد كبير قياسا الى بقية التيارات في العالم العربي والإسلامي. وهذه نقطة ايجابية تسجل لصالح تركيا باعتراف جميع المراقبين. ولكن هذا لا يعني ان الصراع انتهى او ان المسألة حسمت.

فالواقع انه لايزال في بداياته وان كان الأتراك قد انخرطوا في جدلية تاريخية خصبة سوف تقودهم الى طريق الخلاص يوما ما عندما يتصالح شقاالأمة مع بعضهما البعض. فما هو دور الفلسفة في كل ذلك يا ترى؟ نادرا ان يطرح أحدهم هذا السؤال. نقول ذلك ونحن نعلم ان الفلسفة تنمي الفكر العقلاني النقدي في روح الفرد والأمة على حد سواء وتعتبر سلاحا فعالا ضد الانغلاق والتعصب والغوغائية والديماغوجية السياسية.

ومعلوم ان الحضارة العربية لم تمت الا بعد القضاء على الفلسفة وحرق كتب ابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرهم من كبار فلاسفة العرب والإسلام. وقد سمعت مؤخرا انهم يحذفون بعض المقاطع من كتب طه حسين. فإلى اين نسير يا ترى؟ لهذا السبب أحببت ان ألقي نظرة هنا على وضع الفلسفة في تركيا، البلد المجاور لنا والقريب الى قلوبنا من كل النواحي التاريخية والدينية والإنسانية.

كانت فترة الثلاثينات من القرن الماضي هي فترة تأسيس الجامعات التركية الحديثة في اسطنبول وأنقرة أساساً. ثم أنشئت كليات الفلسفة في هذه الجامعات بعد فترة وجيزة. وقد شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين نشاطاً متزايداً للمطبوعات الفلسفية في تركيا. كما وأصبح الجمهور العام المثقف التركي يهتم أكثر فأكثر بالفلسفة وتياراتها ومناقشاتها. وسوف نتعرض لأبرز هذه التيارات التي تسود الساحة التركية حالياً.

كان أول كتاب صادر عن «تاريخ الفلسفة» قد أُلف من قبل الباحث التركي مجيد غوبريك (ولد عام 1908). ثم جاء بعده حلمي ضيا أولكين الذي توفي عام 1974، وكان من أخصب المؤلفين الأتراك. فقد ألف كتباً عديدة عن علم الاجتماع قبل أن ينتقل إلى الفلسفة ويصدر بعض الكتب تحت تأثير المدرسة الفينومينولوجية (الظاهراتية). نذكر من بينها كتاب «المعرفة والقيمة». أو «الوجود والصيرورة».

وكان أول من دافع في تركيا عن استقلالية الفلسفة بالقياس إلى الدين والعلوم الأخرى. ويمكن اعتبار كتابه «تاريخ الفكر المعاصر في تركيا» بمثابة المرجع الأساسي عن الموضوع. وأما كتابه عن «فلسفة الإسلام» فلا يقل أهمية، وقد ترجم مؤخراً إلى اللغة الفرنسية. ويعتبر المفكر إبراهيم آغاسبسكو (المولود عام 1928) من أهم المفكرين المعاصرين في تركيا.

وقد نشر عدة كتب عن تاريخ الفلسفة في الإسلام وركز على التيارات العقلانية والإنسانية المنفتحة في الحضارة الإسلامية. ومن أهم دراساته وأكثرها نضجاً تلك التي نشرها عن الغزالي والأخلاق الاسلامية. وأهم المجالات التي يرتكز عليها اهتمام الفلاسفة في تركيا هي تلك المتعلقة بالمنطق، وفلسفة العلوم، وفلسفة اللغة، والأنطولوجيا، وفلسفة الفن، والأنتروبولوجيا الفلسفية، والأخلاق.

وكان أول من اشتغل في مجال الأنتروبولوجيا الفلسفية هو المفكر تقي الدين منغوسوغبو (1908-1984). ومن أهم كتبه «الأنتروبولوجيا الفلسفية»، ثم «الإنسان والعالم الحيواني والبيئة الطبيعية». وقد تحدث عنه الفيلسوف التركي الشاب يوسف اورنيك قائلاً: «إن مكانة الأنتروبولوجيا الفلسفية التي أسسها منغوسوغلو تعود إلى حذفه الذكي للكثير من الجوانب الميتافيزيقية للإنسان، وتركيزه على الإنسان المحسوس الواقعي. لقد فتح منغوسوغلو طريقاً جديدة في تاريخ الأنتروبولوجيا الفلسفية الغربية. وسبب عدم شهرته في الحلقات الفلسفية الأوروبية يعود إلى أنه لم يترجم حتى الآن إلى أي لغة عالمية كالإنجليزية أو الفرنسية مثلاً». فقد ظل محصوراً باللغة التركية وهي ليست لغة عالمية على عكس اللغة العربية مثلا.

ويتابع تلامذته من الفلاسفة الشباب أعماله الآن في تركيا. نذكر من بينهم: طوطن آنج، أولوغ نطقو، وأكين اتيان وآخرين. وأما فلسفة الفن والجماليات فتحظى هي الأخرى أيضاً بالاهتمام في تركيا. ومن أهم المشتغلين في هذا المجال كمال يقطين (1903-1980) الذي ألف كتاب «تاريخ العقائد الفنية»، وكتاب «مشاكل الفن». وأما نيكلا آرات المولود عام 1940 فقد ألف كتاباً بعنوان: «العلاقات بين القيم الأخلاقية والقيم الفنية في الفلسفة الإنجليزية في القرن الثامن عشر». وأما إسماعيل تونالي فهو المؤلف الأكثر خصوبة في هذا المجال. فقد ألف عدة كتب منها: «أنطولوجيا الفن»، و«علم الجمال الإغريقي»، و«علم الجمال الماركسي»، و«الفن الحديث من وجهة نظر فلسفية».

ويمكن اعتبار «بادية أكارسو» بمثابة أستاذة علم الأخلاق في تركيا. وهي من مواليد 1920. وقد ألفت كتاباً مهماً عن علم الأخلاق عند كانط. كما وكتبت أطروحة ضخمة عن ماكس شيلر. واهتمت في السنوات الأخيرة بمسألة التنوير وضرورة نشره في المجتمع التركي لمواجهة التيار الأصولي المنغلق. وأما الباحثة يونا كوسرادي المولودة عام 1936 فقد ركزت أبحاثها على مسألة حقوق الإنسان وكيفية بلورتها وصياغتها في تركيا.

وذلك لان المسألة المطروحة هي التالية: كيف يمكن التوفيق بين القيم الاسلامية الاصيلة وقيم الحداثة الاوروبية وبخاصة احترام حقوق الانسان أيا يكن هذا الانسان. ننتقل الآنه للتحدث عن فيلسوف آخر هو نيرمي اوغور. وقد كان ظاهراتياً أو فينومينولوجياً في بداياته، ثم أصبح من أتباع الفلسفة التحليلية على الطريقة الإنجليزية في نهاياته. وفي مؤلفاته الأخيرة راح يهتم بمسائل الإيديولوجيا والقيمة والدين والفن والتربية، الخ...

وفي كتابه المعنون «أبعاد الفلسفة التركية» نجده يعبر عن آرائه الخاصة بالفلسفة بشكل عام وبمصيرها في تركيا بشكل خاص. وفي كتابه الأخير الذي صدر عام 1989 بعنوان: «من الأزمة إلى ثقافة الحياة» نراه يعتبر الإنسان وكأنه نتاج للأزمات أو كائن متولد عن الأزمات. يقول بما معناه: إن الأزمة هي العنصر الأساسي الذي يشكل جوهر الإنسان، هذا الإنسان الذي يجد نفسه على مفترق طرق المعاني والدلالات. وفي جو الأزمة يخلق الإنسان الثقافة لكي يعيش». وهناك أزمة في المجتمع التركي كما في كل المجتمعات الاسلامية لانه يعيش المرحلة الانتقالية بين التراث والحداثة بكل مخاضاتها وتفاعلاتها.

وأما الفيلسوف أوناي سوزير المولود عام 1936 فقد كان من أتباع التيار الظاهراتي الالماني الصرف في بداياته. ليس غريباً والحالة هذه أن يكون كتابه الأول قد اتخذ العنوان التالي: «ادموند هوسيرل ووجود الأشياء». ولكنه استفاد من رومان جاكبسون في مرحلته اللاحقة وأضاف البعد الألسني أو البنيوي إلى فلسفته. وأما التيار الوجودي فله أتباعه أيضاً في تركيا. وإذا كان عبد الرحمن بدوي قد حاول تجسيده يوماً ما في الثقافة العربية، فإن يوسف اورنيك قد ألف كتاباً بالألمانية يحمل العنوان التالي: «كارل ياسبرز - فلسفة الحرية».

ويوسف اورنيك فيلسوف شاب ولد عام 1955. وأما كنعان كورسوي المولود عام 1950 فقد ألف الكتابين التاليين اللذين يندرجان ضمن خط الفلسفة الوجودية: «المشاكل الناتجة عن إلحاد سارتر»، و«مقالات عن الوجود والفلسفة». وبالتالي فسارتر شغل الاتراك مثلما شغل العرب.

ينبغي أن ننوّه هنا أيضاً بدور الترجمة في تنشيط الفكر الفلسفي في تركيا. ففي بداية الثمانينات مثلاً ترجمت كتب كانط التالية إلى اللغة التركية: «نقد العقل العملي» (1980)، «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» (1980)، «مقدمات لكل ميتافيزيقا مقبلة» (1983). وأما كتاب أرسطو الشهير عن الأخلاق «رسالة في الأخلاق إلى نيقوماخوس» فقد ترجم إلى التركية عام 1988. ويبدو أن الترجمة التركية أكثر وضوحاً من الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية لنفس الكتاب.

وهذا شيء جدير بالإعجاب ويدل على مدى جدية الترجمة في تركيا. وأخيرا ينبغي القول بأن الفلسفة أخذت تلعب دوراً مهماً في نشر الثقافة الحديثة في الأوساط المثقفة التركية. وأخذت تلعب دوراً في تطوير الوعي والاهتمام بحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية الأساسية. وهكذا ربطوا بين الفلسفة والسياسة، أو بين الفلسفة والتربية القويمة لما فيه خير المجتمع. ومعلوم انه لا يمكن لأي مجتمع ان ينهض بدون فلسفة عقلانية تنير عقول أبنائه وترشدهم الى الطريق الصحيح بما فيها فلسفة الدين او الفهم العقلاني للدين. فهل سيسبق الاتراك العرب في مجال الفلسفة ايضا؟

كاتب سوري

باريس

Email