إلى أية قارة تنتمي بريطانيا؟

إلى أية قارة تنتمي بريطانيا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان لفرنسا ذات يوم غير بعيد رئيس اسمه شارل ديغول. إنه لا شك، أحد أكبر رجالاتها في تاريخها الحديث كله، بل أحد أكبر رجال السياسة ورجال الدولة بـ «المطلق». ارتبطت مسيرة حياته بمسيرة تاريخ بلاده، وهو صاحب النداء الشهير الذي أطلقه من إذاعة لندن يوم 18 يونيو 1940 ووجهه للفرنسيين من أجل الشروع بمقاومة الاحتلال الألماني النازي. كانت تلك هي الخطوة الأولى في انطلاق المقاومة وولوج طريق التحرر الدامي.

شارل ديغول، اعترف دائما بهذا «الفضل» للانجليز وبمساعدتهم الكبيرة لـ «فرنسا الحرة». لكنه ألح، دائما أيضا، في اسداء نصيحة للأوروبيين وهي ألا يفتحوا الباب أمام بريطانيا من أجل الدخول إلى أوروبا الموحّدة. حجته في ذلك كانت بكل بساطة هي أنها، وحسب تعبيره، ليست سوى «حصان طراودة حقيقي للولايات المتحدة الأميركية».

فهل كان الجنرال، و«الصديق اللدود» لتشرشل، على صواب؟

إن أي مواطن بريطاني وأي متتبع عادي ومهتم بألف باء السياسة يعرف أن حكومة توني بلير التي تدير البلاد منذ الانتخابات التشريعية لعام 1997 كانت في جميع سلوكياتها مثل «حصان - بل أقل من حصان، ماذا؟- طراودة» من أجل تنفيذ النهج الذي تمليه سياسة جورج دبليو بوش حيال مختلف قضايا العالم. إن الأمثلة على ذلك كثيرة، بل ربما ليس هناك مثال واحد في الاتجاه المعاكس. وهي من هذا الموقع تبدو بالفعل «جزيرة» بعيدة جدا عن القارة «القريبة منها جدا» جغرافيا، ولا تساهم بدور فاعل في مسيرة الاندماج الأوروبي.

هنا ينبغي «التأني» وعدم التسرّع بقبول الحجة القائلة إن بريطانيا «جزيرة» وبالتالي لها خصوصياتها بالقياس إلى «القارّة»، أوروبا. فبكل بساطة ايرلندة هي أيضا جزيرة ولكنها «مندمجة» تماما في مسيرة التوحيد الأوروبي. نعم إن لبريطانيا «خصوصياتها» لكنها وليدة «التاريخ» أولا وأساسا.

وإذا كان من الصحيح القول إن واقع كون بريطانيا جزيرة قد ساهم في صياغة «الأساطير المؤسسة» للأمة البريطانية فإن التاريخ هو الذي «باعد» كثيرا بين الجزيرة والقارّة وساهم إلى حد كبير في بناء الهوية الوطنية الانجليزية.

في عام 1530 أنشأ التاج البريطاني الكنيسة الانغليكانية التي شكّلت قطيعة حقيقية مع السلطة البابوية الكاثوليكية في الفاتيكان وعززت من سلطة الملك الذي أصبح هو أيضا رأس الكنيسة و«باباها». لكنه ساهم أيضا في تشكيل نوع من الوعي القومي بعيدا عن القارة، بل كرد فعل حيالها وكتأكيد على الاختلاف عنها.

وتعتز بريطانيا «تاريخيا» أنها صاحبة أقدم برلمان في العالم الحديث، إذ أنها مارست الديمقراطية البرلمانية منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، أي منذ الفترة التي كانت فيها أوروبا في بدايات نهضتها. هكذا يتغنى البريطانيون، جيلا بعد جيل، ببرلمانهم، بل ويعتبرونه مصدرا لـ «الفوقية» أحيانا،

وهم يعتبرونه بكل الحالات «ابا البرلمانات كلها». فكيف يمكن لهذا «الإرث التاريخي العريق» أن «ينحلّ» داخل البوتقة الأوروبية؟ كما يتساءل الكثير من البريطانيين. وكإشارة سريعة إن البرلمان البريطاني هو الوحيد الذي صمد ولم يسقط أمام امتحان الحرب العالمية الثانية.

ويرى الانجليز أيضا أن هناك فرقا كبيرا بين دستورهم القائم على التقاليد وبين الدساتير الأوروبية وريثة الدستور الروماني. والنتيجة هي تعلق البريطانيين بمؤسساتهم وبالسيادة البرلمانية وترددهم حيال الخضوع لأية مؤسسة أو مفوضية أوروبية يمكن أن تنتقص من هذه السيادة أو تلك المؤسسات.

على أساس ما تقدّم من فاصل تاريخي «طويل» يمكن القول إن مسألة الاندماج مع أوروبا تتجاوز في بريطانيا التباين بين يسار ويمين إذ أنها تمس عمق أعماق مفاهيم الهوية الوطنية فيها. لكن يمكن القول إن اليسار العمالي كان «تاريخيا» أيضا أكثر انفتاحا على أوروبا من اليمين المحافظ الأكثر تزمتا وانغلاقا، بل وهناك شريحة من هذا اليمين ممثلة في «حزب الاستقلال البريطاني» تطالب صراحة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وقد حظي هذا الحزب بنسبة أصوات عالية نسبيا في الانتخابات التشريعية لعام 2004.

هنا نفتح قوسين لنقول إن وصول توني بلير إلى السلطة عام 1997، وقبلها إلى رئاسة حزب العمال في عام 1994، بدا كمنعطف كبير باتجاه التقارب مع أوروبا، على عكس توجه المحافظين، بل وإلى حد كبير على عكس التقاليد العمالية نفسها. ولم يبخل بلير بتوجيه الاتهامات الصريحة لسابقه في منصب رئيس الحكومة المحافظ «جون ميجور» لأنه همّش دور بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي.

ولا يزال الكثيرون يذكرون خطاب بلير في الجمعية الوطنية الفرنسية بتاريخ 24 مارس- 1998 عندما أعلن عن «هواه» الأوروبي على ضفاف نهر السين. لكن وفاءه الأكبر ظل حيال التأكيد على مفهوم السيادة وعلى أوروبا (فيدرالية) بين الأمم الأوروبية وليس الذوبان في أي كيان أوروبي موحّد.

ومن الملفت للانتباه أن «الابتعاد» عن أوروبا قد تواكب في التوجه السياسي البريطاني الحديث مع «الاقتراب» من الولايات المتحدة الأميركية. فما سرّ هذه العلاقة؟، إنها علاقة «غرامية» باح بها ونستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية وأعلنها «علاقة أبدية» لا انفصام لها.

وأكّد ما معناه أنه في كل مرّة تجد بلاده نفسها أمام الاختيار بين التوجه نحو الأفق الأوروبي «الضيّق» والأفق الأطلسي «الرحب» سوف تختار الأرحب والأوسع. هكذا لا يبدو انحياز حكومة بلير، إن لم تكن تبعيتها، لواشنطن استثناء في طبيعته بل في «كمّه».

يكفي للتدليل على ذلك موقف لندن من أزمة ثم حرب العراق في ربيع عام 2003 حيث كانت تبعية لندن لواشنطن مفرطة إلى درجة أن الكثير من البريطانيين أعربوا عن «خجلهم» من كون أن بلادهم ذات الماضي العريق لم تتصرف كدولة أوروبية «متواضعة» مثل بلجيكا.

وإذا كان بلير قد «أفرط» في إخلاصه لأميركا، فليس هناك ما يشير إلى أن غوردون براون، خليفته كما يبدو على رأس حزب العمال البريطاني، سوف يشذ عن القاعدة. ولن تذهب «عواطفه» باتجاه أوروبا القارة وهو الشهير بتصريحاته غير الودودة حيالها.

المسألة ليست اذن بـ «القرابة» الجغرافية، وإنما بالأحرى بـ «القرابة» في طريقة رؤية العالم. و«رغم أنف» الجغرافيا، يمكن طرح السؤال، رغم سذاجته، «إلى أية قارة تنتمي بريطانيا؟!».

كاتب سوري

Email