«نهاش فتى الجبل»

«نهاش فتى الجبل»

ت + ت - الحجم الطبيعي

الفنانون الملتزمون نادرون، وقلائل هم الذين تركوا بصمات واضحة استمر مردودها وعاش، لأن كثيراً من الفن وكثيراً من الفنانين يذهب فنهم هباء منثورا لعدم اكتنازه على قيمة، غانم الصالح الذي ودعنا قبل يومين.

والذي ساير حياتنا بفنه طيلة سنوات وسكن قلوبنا، أضحكنا كثيرا وأبكانا أكثر في أدوار وشخصيات تقمصها وأعطاها من أعصابه واحد من هؤلاء الفنانين العمالقة الذين إذا ما مضوا شعرنا بفقدهم في زمن يصعب فيه القبض على فن جاد وهادف وغير استهلاكي.

(أنا نهاش فتى الجبل) جملة أضحكتنا كثيرا في مسرحية (باي باي لندن) وهو يعري وزميله الفنان العملاق عبدالحسين عبدالرضا واقع العرب حينما سقطوا في فخ الاستلاب الأجنبي واحتيالات الآخر كونهم عرب النفط..

العرب في لندن وما تحمله هذه الإشارة من دلالات، في تلك المسرحية التي غنى فيها الثنائي ومن وراء (الكنبة) خوفا وجبنا وفي مشهد مؤثر (حنا للخيل.. حنا للويل)، كانت الجرأة صارخة في إدانة التخاذل والانتكاس العربي.. عربيان يتعرضان لعملية نصب واحتيال عبر صفقة أسلحة هي لعب أطفال في النهاية..

في إطار هذا الهم وهذا المستوى الفكري راح الصالح يبحث عن أدواره المسرحية وما يود أن يقوله لجمهوره ومتلقيه. وكذلك في مسرحيات عديدة أراد فيها الصالح أن يكون ممثلاً صالحاً لمجتمعه وزمنه ومكانه. من هنا أحببناه، وأحبه كل بيت عربي وخليجي..

فحينما أراد أن يكشف لنا عن ظرفه وصدقه وبساطته قدم شخصيته في مسلسل (خرج ولم ويعد) ومن هذا الباب دخل الصالح إلى قلوب قطاع كبير من المشاهدين العرب.. ربما يكون غانم الصالح أكثر من غيره في محيط زملائه محبوبا من قبل ملايين المشاهدين العرب.

الأصل هو الفن الأصيل ومشروع الفنان الذي لا يخضع لمنطق الاستهلاك، قدم الصالح أيضا لجمهور الأطفال واقترب منهم، لسبب واحد فقط، وهو أن من يقترب من الصالح يعرف أن بداخله طفلا صغيرا، جميل الروح.

شاءت الظروف أن التقيه عن قرب، وكنت في ذلك الوقت ارسم له في خيالي صورة لشخصيات درامية ومسرحية شاهدتها عبر أعماله منذ أن كنت صبيا، ولكن باقترابي منه، اكتشفت ذلك الفنان المتواضع، الهادئ، المبتسم، يهمه كثيرا أن يفتح أبواب النقاش حول أمور جادة، يحمل هم الفن وهم الحياة وهم أمته.

قليلون هم من أمثال الصالح، مروا علينا وآخرون نعاصرهم، نادرون هم الملتزمون الذين يحملون فنهم رسالة تضغط على أعصابهم وتستنزفهم من الداخل، فليس الفن كله لهواً، بل الفن الأصيل معناه إرهاصات مرهقة، مقلقة، مصيرها مجهول، وخطرة أيضا.

قدم الصالح سيرة فنان وجملة أعمال لا تنمحي من الذاكرة، مثلما قدم نفسه إنسانا ملتزما ومخلصا لأهله وبلده وناسه وأمته.. رحمك الله يا بوصلاح وألهم اهلك الصبر والسلوان.

mhalyan@albayan.ae

Email