من صور المواطنة الطائفيَّة

من صور المواطنة الطائفيَّة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يخلو الكلام على أشكال المواطنة في بلد متعدد الطوائف كلبنان، من حذر وتريُّب. فالقول فيه وحوله، أنَّى كان لون المقاربة، يستثير الإشكال واللَّبس، ويبتعث القولَ على القولِ، والحجةَ على الحجة. ثم يمضي ليفتح على أسئلة لا نهاية لها، وعلى إجابات لا تؤتي من يُلقَّاها بيقين. ولذا فالكلام على المواطنة والطائفية، أو على المواطن والطائفة، أو على دولة الطوائف في سلامها الأهلي وأزماتها.. سيأتي على نصاب الظن والتقريب، أو على محمل الترجيح والاجتهاد والاحتمال.

المواطنة والطائفية، مفردتان شائعتان شيوع قاموس الأزمات في الثقافة السياسية اللبنانية. إنهما مفردتان تتعدَّيان اللفظ العارض، لتغدوا حقيقة واحدة مركبة، تؤرخ لما انصرم من تاريخ لبنان، مثلما تؤسس لحاضر ومستقبل وطن لا يفتأ أبناؤه يختبرون أساسات نشوئه كل آن.

لا كلام إذاً على المواطنة في لبنان خارج حياض الطائفة. حتى لتكاد تبدو الصلة بينهما، كصلة الاسم بالصفة، أو كعلاقة المفهوم بظهوره الفعلي ومجال استعماله. وحين وضعنا المواطنة في موازاة الطائفية، فليس لنجعل منهما ثنائية متغايرة، وإنما لنتعامل معهما كقضية واحدة. فعندنا في لبنان، منذ أن تشكَّل بلدنا ككيان سياسي اجتماعي عبر ولاداته المتواترة (دولة لبنان الكبير 1920، وجمهورية الاستقلال 1943، وجمهورية الطائف 1989).. لا شيء ينمو أو يتحرك خارج أسوار الطوائف.

بالطوائف رُفعت قواعد الكيان الناشئ، وعلى صورتها رُسِمَت خريطة الدولة، وتوضَّح شكل السلطة ونظام الاجتماع السياسي. حتى لقد صارت دولة الطوائف هي نفسها الدولة الطائفية. ذلك أن الطوائف لا تلد نظاماً سياسياً دستورياً إلا على شاكلتها، تماماً كالإناء الذي ينضح بما فيه. فيكون الذي ظهر من ذاك الشيء هو جوهر الشيء نفسه. فلا ظهور لأي تشكيل سياسي أو اجتماعي يقدر على الحركة، من دون أن يتصل بهذا القدر أو ذاك بشريعة المنظومة الطائفية وقانونها العام.

حتى الظهورات اللاَّطائفية، من أحزاب علمانية، ونقابات جماهيرية، واتحادات، وجمعيات أهلية، وسائر ما استحق مجازاً صفة «المجتمع المدني»، لم تفلح طيلة تاريخ لبنان المعاصر في إنجاز فضيلة الاستقلال، والتحول إلى مجتمع مدني حقيقي. فعلى الرغم من فروسية أصحاب تلك الظهورات في جهدهم المعرفي والنقدي، وفي جرأتهم على افتضاح المفاسد الطائفية.. بقيت الكتلة المدنية اللاّطائفية تنشط تحت سقف النظام الطائفي، كما ظلت دون القدرة على الإمساك بناصية الإصلاح السياسي الفعلي.

ليست المواطنة، بوصفها صفة اللبنانيين كأفراد يعيشون تحت رعاية وعناية الدولة الطائفية، سوى مادة هذه الدولة ونظامها. فالأمر هنا لا يتعلق بالإرادة والرغبة، بقدر ما يتصل بالواقع، وبنمط الحياة التي فرضتها روح الدستور وتشريعاته.

ثمة من ذهب إلى بدعة القول بالمتعالي الطائفي. أي القول إن النظام الطائفي هو قدرٌ محتوم، بل وضروري لضبط الحراك التاريخي في لبنان، والحؤول دون انزلاقه الى حقول العنف والحروب الأهلية. مرد هذه البدعة واضح، ويعود إلى مركزية الطائفة في تشكيل الهندسة الإجمالية للروح الوطنية.

غير أن القائلين بها لم يدركوا سوء نتائج التعامل معها كأمر واقع، ذلك أن مثل هذه الموقعية المتعالية للطوائف، سيكون لها أثرٌ حاسمٌ في الإخلال بقواعد المواطنة في الحياة اللبنانية. ولقد رأينا كيف فعلت الطائفية فعلتها لتحيل حياة اللبنانيين إلى فصل حميم من فصول حركتها. ثم ليظهر لنا كم لسلطان الطوائف من شأنية حاسمة في تشكيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. وإذ نرى إلى مزايا المواطنة في لبنان، سنلاحظ أن اللبناني يعيش مواطنة مثلثة الأبعاد.

* فهو في سياق الانتماء الطائفي مواطن في طائفته، يدين بالولاء لقياداتها المدنية والدينية، ولأجهزتها القضائية، ولتقديماتها الخيرية والاجتماعية.

* وهو أيضاً يعيش مواطنة جغرافية طائفية، مثقلة بالرموز والتاريخ البعيد والحديث.

* وهو كذلك مواطن لبناني، ينتمي قانونياً وحياتياً إلى الجمهورية اللبنانية ومؤسساتها الدستورية والإدارية والقانونية.

غير أن المفارقة المذهلة في هذا المقام، هي أن الجمهورية اللبنانية في الوقت الذي تفرض قوانينها على مُواطِنِها في كل الحقول، فإنها لا تعترف به كمواطن إلا بصفة كونه منتمياً لطائفته أولاً، ثم حين يجيئها بشهادة من طائفته تصدِّق انتماءه إليها..

من البيِّن أن كل كلام على المواطن لا يستقيم إلا على خط موازٍ للطائفة. ثمة صلة توليدية بين المواطن والطائفة، وبين المواطنة والطائفية. حتى ليستوي القول على نفس واحدة، بحيث يسري ذلك كقانون صارم على كل طائفة من الطوائف الثماني عشرة في لبنان، والتي هي كناية عن عديد أبنائها المنضوين تحت لوائها السياسي الجغرافي، في حين أن هؤلاء الأبناء ليسوا سوى مواطنين مشوا تحت رايات طوائفهم، كممر إجباري للعبور إلى الوطن.

تلك هي الصورة الرمادية، التي تنطوي عليها الرابطة المعقدة بين الدولة والمواطن والطائفة في لبنان. لكن ما يفترضه فهم التكوين التاريخي لهذا البلد، هو معاينة مسارات الطوائف وأثر منظومتها السياسية والقانونية في ترسيخ البنيان الكلي للدولة الطائفية والمجتمع الطائفي..

هذا توصيف لواقع الحال، أما في ما يتعدى ذلك التوصيف، فلا مناص للبنانيين من تفاؤل الإرادة بمواطنة حقيقية، عليالرغم من رمادية الصورة وتشاؤمها.

Email