أصحاب الدم البارد والعقلانية الخبيثة

أصحاب الدم البارد والعقلانية الخبيثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أذكر أنني زرت، ضمن وفد من الباحثين الشباب، في مقتبل حياتي الأكاديمية، أحد المراكز البحثية المصرية الشهيرة، وثيقة الصلة بصناعة ورسم السياسة الخارجية المصرية. والتقينا فيما التقينا بأحد العاملين بالمركز، الذي أصبح فيما بعد رئيسا له، وسألته عما يشاع عن توجهات المركز الأميركية،

فجاوبني بهدوء شديد أن المركز ينطوي على مشارب وتوجهات مختلفة، وأردف قائلا ورغم ذلك فإن البعض يطلق على العاملين بالمركز بأنهم من ذوي الدم البارد. مر ما يزيد على العقدين من الزمان منذ سمعت مقولة الدم البارد، وما تزال ترن في أذني كلما حاقت بالعالم العربي الكوارث، وأطلت عليه المحن والخطوب.

يستخدم المصريون مقولة الدم البارد هذه حينما يصفون شخصا ما بأنه عديم الإحساس، تقوم الدنيا من حوله وتقعد، ولا يحرك ساكنا. فالزوج دمه بارد حينما تعامله زوجته بغطرسة وامتهان وقلة ذوق وتملي عليه أوامرها،

بينما هو لا يتمرد، يطيعها في كل ما تأمر به، وينفذ لها كل طلباتها. كما أن الزوج دمه بارد أيضا حينما تقوم زوجته بامتهان أهله، وبشكل خاص والدته، أمام عينيه، ورغم ذلك لا يتخذ موقفا واضحا وصارما يصون به كرامة أهله.

إضافة إلى ذلك، فإن المصريين يستخدمون توصيف الدم البارد في الكثير من ممارسات الحياة اليومية أيضا، فالرجل دمه بارد حينما يرى امرأة واقفة في وسائل المواصلات العامة ولا يترك لها مكانه لتجلس بدلا منه، كما أن الشباب دمهم بارد حينما لا يبادرون لمساعدة كبار السن ونجدتهم،

كما أن الأبناء دمهم بارد حينما لا يهبون لمساعدة آبائهم والوقوف إلى جانبهم في أوقات الشدة والعوز. خلاصة القول، أن المصريين يستخدمون توصيف الدم البارد لتلك الممارسات والسلوكيات والتوجهات التي تتعارض مع أبسط مسلمات النخوة والشهامة ونجدة الآخرين.

ومن هذا المنطلق، فإن توصيف الدم البارد يشتمل على العديد من الممارسات الأخرى، فالمرؤوس دمه بارد حينما تنهمر قلة أدب رئيسه عليه، ولا يرد عليه ولا يتخذ موقفا تجاهه، كما أن الشعوب أيضا دمها بارد، حينما لا تتخذ موقفا تجاه ما تمليه عليها حكوماتها، وأخيرا فإن العالم العربي برمته يتسم ببرودة الدم تجاه ما تقوم به إسرائيل نحو المنطقة العربية، بينما هو سادر في أحاديثه المستمرة عن السلام وجدوى تحقيقه.

استدعت ذاكرتي توصيف الدم البارد إبان العدوان الإسرائيلي البربري على لبنان، بعدما طالعت العديد من المقالات التي تدعي ارتكازها إلى أسس عقلانية تعي الواقع العربي المعاصر ومتطلبات التعامل معه. ولم أجد هنا توصيفا أدق من توصيف الدم البارد لأصحاب هذه المقالات الذين استطاعوا بفجاجة يحسدون عليها أن يواصلوا الترويج لعقلانيتهم الخبيثة والمريضة على أنهار الدم اللبنانية المتدفقة بدون أن تطرف لهم عين،

وبدون أن تؤرق ضمائرهم تلك المجازر التي لحقت بالمدنيين اللبنانيين الجنوبيين. فكلما أوغلت إسرائيل وأميركا في عدوانهما على المنطقة، أوغل هؤلاء ترويجا لعقلانيتهم الخبيثة والدعوة لها، وزادت برودتهم نحو كل ما يتعلق بالمنطقة.

فالبعض يتحدث عن جدوى ما قام به حزب الله، ويربط ذلك بخبث شديد ببطولات دينية يدعيها الحزب وقيادته. ويجرنا هذا البعض إلى خطورة ما قام به حزب الله، من حيث اختراقه للخط الأزرق، ومسؤوليته عن استثارة التنين الإسرائيلي، وعن كل ما حدث في لبنان.

علينا أن نضع في الاعتبار أن هذا البعض لم يذكر من قريب أو بعيد حجم الخروقات التي قامت بها إسرائيل طوال السنوات الماضية ضد لبنان وضد العالم العربي. كما أن هذا البعض لم يذكر حجم الشهداء الذين يسقطون يوميا من الجانب الفلسطيني، ولم يتحدث عن المجازر الإسرائيلية في جنين وغزة والضفة الغربية.

كما لم يتحدث من قريب أو بعيد عن حجم الدمار الهائل الذي حاق بالعراق، وعن فضائح التعذيب المستمرة التي تمارسها القوات الأميركية ضد المدنيين العراقيين. أخبث ما في هذه العقلانية أنها استطاعت أن تجر بعض الأقلام الشريفة للدفاع عما قام به حزب الله،

والتي استندت في مقولاتها إلى أن إسرائيل كانت ستضرب لبنان سواء قام حزب الله بأسر الجنديين الإسرائيليين أو لم يقم، مدعمين ذلك بالعديد من المقالات التي ظهرت في الصحف الأميركية ذاتها، والتي فضحت المخطط الأميركي الإسرائيلي تجاه لبنان. استطاعت هذه الأقلام المشبوهة الباردة أن تجر العديد من الأقلام الوطنية الشريفة إلى دائرة الدفاع عما قام به حزب الله، وهدر الوقت في الحديث عن النيات الدموية لإسرائيل نحو المنطقة العربية.

وكأننا بعد كل ما خبرناه من إسرائيل في المنطقة العربية طوال ما يزيد على النصف قرن في حاجة لإثبات دموية إسرائيل، وبربرية ممارساتها تجاه العرب. يا سادة لا تهدروا وقتكم في الحديث عن نوايا إسرائيل وتوجهاتها نحو المنطقة العربية، فهذا حديث فارغ يجرنا إليه ذوو الدم البارد، المروجون لتلك العقلانية الخبيثة والمبتذلة!!

لا يقف هؤلاء عند هذا الحد لكنهم يروجون لعدم قدرتنا على مواجهة إسرائيل وأميركا، وأن البون شاسع بين هاتين القوتين العاتيتين، وبين القدرات العربية الضعيفة، ويرون أن المنطق يحتم الهدوء وتوخي الحذر عند التعامل مع إسرائيل وأميركا، بل والعمل على إرضائهما والحوار الهادئ معهما.

لا يؤمن هؤلاء المروجون لهذه العقلانية المريضة بالمقاومة وبالصمود، ويرون أن هذه المفاهيم قد عفا عليها الزمن، ولم تصبح صالحة للاستعمال في عصرنا الحالي. كما لا يؤمن هؤلاء بالشعوب العربية وقدرتها على التغيير،

بل إن البعض منهم قد وصل به الحال إلى التحريض على هذه الشعوب وإلى الدعوة إلى عدم الانجراف وراء رغباتها ومتطلباتها. فمن وجهة نظرهم أن الواقع الحالي وموازين القوى الحالية تحتم على العرب أن ينحوا خيار المقاومة جانبا،

وأن يتخلوا عن سلاحهم، وأن يقوموا بتفعيل الخيارات الدبلوماسية، حيث يرون أن ما لم نحصل عليه اليوم سوف نحصل عليه في الغد في ظل شروط تسوية جديدة، دون أن يحددوا لنا ماهية مفاعيل هذه التسوية وشروطها الجديدة.

وفي زخم الهجوم العالمي على العرب والمسلمين، والحملة الشرسة ضد الإسلام، وما يرتبط بذلك من اتهامنا بالإرهاب، يدعو أصحاب الدم البارد إلى ضرورة تحسين صورتنا أمام العالم وأمام الآخرين، وبشكل خاص أمام البيت الأبيض وفي حضرة القائمين عليه.

لهذا يتعين علينا ليس فقط نبذ الإرهاب، بل أيضا نبذ أية صورة من صور المقاومة، وأى فعل تحريضي ضد إسرائيل وربيبتها أميركا. من اللافت للنظر هنا أن البعض من دعاة هذه العقلانية المريضة، وفي غمرة العدوان الإسرائيلي الآثم على لبنان، لم يجد ما يكتبه سوى الحديث عن السلام، فطوبى لمن يدعو للسلام على حد تعبير أحد دعاة هذه العقلانية المريضة!!

في غمرة أنهار الدماء المتدفقة في لبنان، وفي غمرة الإرهاب الإسرائيلي الأميركي على لبنان وعلى المنطقة، لم يجد هؤلاء إلا الحديث عن السلام، وضرورة إيجاد حلول شاملة للمنطقة العربية، أما الحديث عن إسرائيل وعن أميركا وعما يقومان به في العالم العربي، فهم أجبن من أن يتناولونه عبر كتاباتهم التي يتحفوننا بها، أو يقتلوننا بها ليل نهار.

لا تقف الساحة العربية الآن عند هؤلاء الباردين من دعاة العقلانية المريضة، فمن حسن الحظ، ومن تصاريف الأقدار، أن عالمنا العربي مازال يمتلك العديد من الكتاب ذوي الدم الحار الذين يمتلكون النخوة والقدرة على الانفعال تجاه ما يحدث حولهم في المنطقة العربية. هؤلاء هم من يكتوون بنار ما يحدث فيه من إرهاب إسرائيلي أميركي، يتفاعلون تفاعلا حقيقيا معه ومع التأثيرات الناجمة عنه.

لا يعني ذلك أنهم لا يستهدون بالعقل من أجل التغيير، قدر ما يعني أنهم يمزجون العقل بالضمير من أجل المقاومة والصمود ونبذ هذا السلام المأفون الضعيف. اللهم اجعلنا من ذوي الدم الحار وجنبنا هذا البرود وتلك العقلانية الخبيثة.

كاتب مصري

salehabdelazim@hotmail.com

Email