أبعد من لبنان .. أقرب إلى الفوضى العالمية

أبعد من لبنان .. أقرب إلى الفوضى العالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد صدور قرار مجلس الأمن 1701 بدأت إسرائيل الانسحاب وهي تدرك أنها تكبدت هزيمة استراتيجية واضحة تضع موضع الشك كل منظومة العلاقات في منطقة الشرق الأوسط القائمة على القناعة الراسخة بالهيمنة العسكرية الإسرائيلية المطلقة.

الآن، أصبح الإسرائيليون والأميركيون والعرب يدركون أن إسرائيل يمكن أن تمنى بهزائم، وأن النصر يمكن أن يترسخ إذا ما تمت صيانته بوحدة لبنانية متينة وسند عربي حقيقي وتضامن أممي واسع. والآن أيضا، يرى الأميركيون والإسرائيليون أنه لا بد من تصحيح الوضع واعتبار القرار 1701 الذي لا يلبي كامل طموحاتهم، مجرد محطة استراحة قبل استكمال المهمة.

هذه المهمة تكمن في تدمير القوى العسكرية لحزب الله والمقاومة اللبنانية بشكل نهائي وتمزيق الوحدة الوطنية اللبنانية واستعداء الشعب اللبناني على بعضه وهدم لبنان الحالي، وعلى أنقاضه بناء لبنان «الديمقراطية الجديدة» القادر ببناه الاجتماعية- السياسية الحاكمة «الجديدة» على الدخول، ويسهل دخول إسرائيل، في تركيبة النظام الشرق أوسطي «الجديد».

هذه المهمة تشكل المقدمة الضرورية والتمرين العام لحرب أخرى محتملة تشنها الولايات المتحدة (وإسرائيل) ضد إيران لتحطيم أهم عقبة أمام كامل مشروع الشرق الأوسط «الجديد». إن كل العلائم تزكي تأكيدات الكاتب والباحث العسكري الأميركي سيمون هيرش في «نيويوركر» في الأسبوع الماضي بأن الخطوة التالية لدى واشنطن هي التوجه نحو ضرب إيران، وأن نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني كان قد أعطى قبل أشهر الضوء الأخضر لإسرائيل باستعجال شن الهجوم على لبنان باعتباره تمريناً عاماً ومقدمة لاحتمال شن حرب على إيران قبل انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش.

ومعروف أن الحياة زكت مراراً سيمون هيرش بما في ذلك خلال الحربين الأميركيتين في فيتنام والعراق. وقد سبق له أن كشف في فبراير من العام الماضي في الصحيفة ذاتها أن الإدارة الأميركية تعد للحرب ضد إيران بضربات من الجو أساساً. يشكل الوضع الناتج عن حرب العدوان الشاملة على لبنان أعمق أزمة لسياسة واشنطن وتل أبيب في هذه المنطقة بكل معنى الكلمة. بدت القيادة السياسية الإسرائيلية مستهدفة ليس من خصومها السياسيين فقط، بل وتواجه نقمة الجماهير بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية.

خصوصاً بعد أن اتضح ابتعاد حزب العمل عن برنامجه الاجتماعي الذي حصل بفضله على دعم الناخبين الإسرائيليين، واقترابه من المشروع الأمني الذي ينتهجه حزب كاديما الغارق في الفساد. وانهارت سمعة الصناعات العسكرية والتكنولوجية الراقية الإسرائيلية في سوق السلاح العالمي بعد أن فشلت نظم الاستطلاع الحربي في كشف أي من منصات إطلاق صواريخ حزب الله أو صدها.

وصار منظر دبابة «ميركافا» المحترقة رمز الهزيمة الإسرائيلية، على حد قول صحيفة زمان التركية، التي ألغت بلادها صفقات عسكرية مع إسرائيل من بينها شراء دبابات من هذا الطراز». وسط هذه الأزمة أصبحت القيادة السياسية تتهشم كالزجاج. وبدا الجيش الذي كسرت هيبته.

كما لم يبد من قبل، غير قادر على حماية أمن إسرائيل، بل ويعرضه بمغامرات قيادته للخطر. وفي هذا الوضع تصبح القيادتان السياسية والعسكرية مهيئتين لمزيد من التطرف والهروب إلى الأمام بخرق القرار 1701 واستئناف العمليات العسكرية العدوانية ضد لبنان. بدأ ذلك بمغامرة إنزال في البقاع لتتكبد إسرائيل خسائر بشرية جديدة. أصبح الوضع ينذر بدخول المنطقة إلى مأزق حقيقي يتحول فيه لبنان وإلى فترة طويلة إلى «نقطة ساخنة» على خارطة الشرق الأوسط إلى جانب أفغانستان والعراق.

لقد عدلت فرنسا عن عزمها لعب الدور القيادي وتجسيد الحضور الأكبر في عداد قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة، وتبع الموقف الفرنسي تراجع كبريات الدول الأوروبية. كما أن الولايات المتحدة الأميركية لم تبد في الأصل أية رغبة للمشاركة في هذه القوات. مبعث التردد الأوروبي ليس صلاحيات هذه القوات فقط، بل والاعتقاد بأن لبنان قد يصبح بؤرة توتر طويلة الأمد وتنذر بالنسبة لقوات حفظ السلام بتكرار ما حدث مع مثيلاتها من مواجهات دامية في أماكن أخرى من العالم كالبوسنة والصومال على نحو أكبر بكثير.

نزعة التطرف لدى القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيليتين تتوافق تماماً ومثيلتها لدى صقور الإدارة الأميركية الحالية. في هذا الوضع لا يستبعد أن تسارع هذه العناصر بقيادة نائب الرئيس الأميركي تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد بعد أن وجدوا أنفسهم محشورين في الزاوية جراء الانتكاسة في لبنان إلى التصرف بعناد أكثر مما عهد فيهم والقيام بما فعله ألكسندر المقدوني في الرواية الإغريقية القديمة بقطع عقدة ملك فريجيا غورديوس «Gordian knot» بحد السيف بدلاً من تفكيكها استعجالاً للظفر بالسيطرة على العالم. الحديث هنا يدور عن تحويل الاحتمال إلى واقع ممكن باستعجال الحرب على إيران.

وقد بدأت نزعة المغامرة هذه تجد انعكاسها في التصريحات التي أطلقها الرئيس بوش في نفس اليوم الذي خرقت فيه إسرائيل قرار وقف إطلاق النار، بأن الحرب في لبنان تشكل جزءاً «من المعركة الأوسع التي تدور في المنطقة بين الحرية والإرهاب». ثم وجه تهديداته بشكل أوضح: «الإرهابيون (يقصد إيران، وربما سوريا) الذين يوفرون الدعم لهم (للمقاومة اللبنانية) يعلمون جيدا أن منطقة الشرق الأوسط أمام لحظة مفصلية من تاريخها».

وفي نفس اليوم بدأت إيران التي تستشعر الخطر الداهم مناورات «ضربة ذي الفقار» الشاملة لمختلف أنواع أسلحة الجيش الإيراني وقوات حراس الثورة وقوات المقاومة «باسيج» وقوى الشرطة في 14 من أصل 30 محافظة إيرانية. إيران تدرك أن عدوانا عسكريا أميركيا إسرائيليا ضدها ربما صار وشيك الحدوث.

بتحليل موازين القوى بين البلدين يمكن القول بأن لدى إيران عددا من عناصر القوة.

فقد تلجأ مباشرة إلى ضرب أهداف إسرائيلية وأميركية في مواقع مختلفة. وتلجأ إلى وقف صادراتها النفطية وتلغيم مضيق هرمز واستخدام أسلحة الصواريخ والطوربيدات ضد أسطول ناقلات النفط، ما قد يرفع أسعار النفط، حسب بعض الخبراء، إلى مستوى 150 - 200 دولار للبرميل.

كما ستلجأ إلى تحفيز قيام انتفاضة مناهضة لأميركا في العراق وبلدان أخرى ما سيجعل الوضع أكثر تعقيداً على الأميركيين هناك. هذا سيخلق أوضاعا نفطية واقتصادية متأزمة عالميا، وأمنية أكثر تفجرا في المنطقة.

لكن الأمور قد لا تقف عند هذا الحد. إيران كدولة متعددة القوميات يشكل الفرس قرابة نصف سكانها فقط، مهددة بالانقسام بما يخلق أوضاعا شديدة التعقيد بالنسبة لتركيا وشمال وجنوب العراق وسوريا وأذربيجان وتركمينيا وعموم منطقة بحر قزوين وروسيا وأبعد من ذلك. هذه الأوضاع الخطيرة التي تمس ميزان الطاقة العالمي والاستراتيجيات الجيوسياسية والخارطة السياسية للمنطقة ـ إذا ما نشأت ـ قد تأخذ العالم كله نحو تدهور سريع، يصدق معه نعت غلاة المحافظين الجدد (النيوكنز) بأنهم دعاة «الحرب العالمية».

ومثل هذه الدعوة المغامرة هي من طبيعة أيديولوجيتهم ومسلكهم السياسي، وتنطلق من فهمهم الخاص لدينامية العولمة التي يجب أن تخدم المصالح الأنانية القومية الأميركية الخاصة بالضد من مصلحة تطور النظام الرأسمالي العالمي نفسه، ناهيك عن مصالح شعوب البلدان الواقعة على أطراف هذا النظام.

كاتب بحريني

ajnoaimi @gmail.com

Email