الفقراء يكتشفون الذهب

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«مش عارفة حياتي كان سيكون شكلها إيه بصراحة لو لم أدخل الجمعية»، بهذه العبارة تضحك سامية وديع وتلخّص كيف تبدّلت حياتها قبل 30 سنة عندما تعرّفت جمعية حماية البيئة من التلوث التي تعمل في مختلف المشاريع في ما يسمى «حي الزبالين» في القاهرة.

وتتابع قائلة «أعيش في المقطم. عندما دخلت الجمعية، يدوب كنت بفك الخط. تعلمت في الجمعية ثم دخلت إعدادية وتعلمت العمل على الكمبيوتر وأتقن القليل من اللغات وحتى أنني سافرت إلى فرنسا والصين وأتعامل مع ناس مهمين. باختصار، تعلّمت كل حاجة بفضل الجمعية».

سامية البالغة من العمر 52 سنة تعيش في «حي الزبالين» وأصبحت اليوم مسؤولة عن قسم نسج السجاد وعمل الباتشورك في الجمعية ومسؤولة عن 100 منتجة وموظفة.

هي مثال واحد على مئات الفتيات والسيدات من مجتمع العاملين في النظافة أو جمع القمامة واللواتي تغيّرت حياتهنّ رأساً على عقب بعد أن دخلن الجمعيات غير الحكومية ومن ضمنها جمعية حماية البيئة من التلوث.

فعلى مدار عقود، ظلّ مجتمع عاملي النظافة في القاهرة مهمّشاً يعيش تحت وطأة الفقر والقمامة ويرزح تحت ثقل الصورة النمطية التي يضعها المجتمع ألا وهي «الزبّال، هذا الفرد المقزز وصاحب الملابس الكريهة وجامع القمامة».

إلا أن هذه الصورة النمطية لا تأخذ بعين الاعتبار العمل المهم الذي يقوم به جامعو القمامة عادةً ألا وهو الحرص على نظافة شوارعنا وأحيائنا. كما أنّ كثيرين يجهلون أن عاملي النظافة في القاهرة هم العجلة الناشطة لجمع القمامة ولعمليات إعادة التدوير على الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشون فيها.

أخيراً، أفاد تقرير لمجلة فوربز أنه «في حي الزبالين، تتحوّل القمامة إلى ذهب داخل هذا المجتمع المهمش» بالإشارة إلى القدرة الهائلة لهذا الحي في منطقة «منشية ناصر» على إعادة تدوير النفايات بمعدل يتجاوز الشركات المتخصصة في هذا المجال. ويقدر عدد العاملين في «حي الزبالين» بين 30 و70 ألفاً يجمعون 40% من قمامة القاهرة، أي حوالي 15 ألف طن يومياً، ويعيدون تدوير 80 إلى 85% منها؛ نسبة تتجاوز أربعة أضعاف الكميات التي تقوم الشركات التقليدية بفرزها.

هذه القدرة لاقت صداها مع السلطات الحالية التي أدركت أهمية العمل الذي يقوم به عاملو النظافة؛ فبادرت بتسهيل تسجيل العديد من شركات تدوير النفايات الرسمية في «حي الزبالين». وقد وصل عدد الشركات التي تم تسجيلها عام 2013 إلى 44 شركة يعمل فيها أكثر من 100 شخص.

قد يكون اهتمام السلطات المصرية بـ«حي الزبالين» حديثاً، إلا أن هذا الحي قد جذب اهتمام وانتباه بعض الجمعيات التي عملت منذ عقود على تحسين حياة عاملي النظافة وتوفير الخدمات التعليمية والاجتماعية والصحية لهم إضافة إلى تدريبهم على تحويل جمع القمامة إلى عمل يدرّ عليهم دخلاً لهم ولعائلاتهم.

جامعو النفايات أو عمال النظافة هم أحفاد مزارعين، هاجروا من صعيد مصر إلى القاهرة في الأربعينيات. وتوافد المزارعون على مدار السنوات إلى القاهرة سعياً لفرص الرزق وهرباً من سوء أداء المحاصيل وشدة الفقر ليستقرّوا في مساكن مؤقتة حول العاصمة. وواصل هؤلاء الوافدون نشاطهم التقليدي ألا وهو تربية الماشية، وحاولوا أيضاً البحث عن أنشطة أخرى.

واندمج مجتمع عمال النظافة الوافدين من الصعيد مع «أهل الواحي» أي سكان الواحات في الصحراء الغربية؛ هؤلاء وصلوا إلى القاهرة في بدايات القرن العشرين حيث وجدوا لهم عملاً يتمثل في ترتيب وجمع المخلفات المنزلية من أنحاء المدينة. وتعاون الجميع على جمع وفرز القمامة. وهكذا، استطاع عمال النظافة كسب قوتهم بفضل فرز النفايات المنزلية وبيع الأشياء القيمة منها في حين تحوّلت المخلفات الحيوية مصدراً لتغذية الحيوانات التي يقومون بتربيتها.

هذا التحوّل نحو إعادة فرز النفايات كان يبدأ مع الفجر، حيث كان العمال يستخدمون عربات تجرها الحمير من أجل التنقل من منزل إلى آخر في العاصمة وقد استبدلت هذه العربات في الثمانينيات بشاحنات النقل. وبعدها، يقوم كل عامل نظافة من منزله الواقع أسفل منحدرات المقطم في الطرف الشرقي للقاهرة، بفرز النفايات في مجموعات مختلفة ثم بيعها فيما بعد لأسرٍ أخرى أو للشركات التي تقوم بإعادة تدويرها. وعادة ما تتم عملية الفرز والتصنيف في المنزل بواسطة النساء والفتيات، وهي ممارسة كانت تؤدي إلى أمراض عديدة مثل التيتانوس والكبد الوبائي إضافة إلى ارتفاع معدلات وفيات المواليد.

عمليات إعادة الفرز اتخذت منحىً مختلفاً بمساعدة المنظمات غير الحكومية، بما فيها «جمعية حماية البيئة من التلوث» التي استحدثت منشآت من أجل إعادة فرز البلاستيك والمخلفات العضوية وأيضاً لصناعة المنتجات المتنوعة وتوفير الخدمات من أجل الارتقاء بحياة جامعي النفايات كأفراد ومجتمع.

وتعود بنا سعادة جريس، رئيسة مجلس إدارة «جمعية حماية البيئة من التلوث»، إلى بداية عمل الجمعية التي كانت من الأوائل الذين اهتموا بمجتمع عمال النظافة عام 1984 وتخبرنا «انطلقت الجمعية لأجل مجتمع الزبالين الفقير جداً. فكلهم نازحون من الصعيد يربّون الحيوانات (..) حياتهم كانت عبارة عن جمع القمامة من المنازل ثم جلب المخلفات العضوية ورميها للحيوانات التي يملكونها وكنّا نفكّر بطرق لمساعدتهم».

وبالتالي، قررت الجمعية البدء مع النفايات العضوية وإعادة تدويرها من أجل إنتاج سماد جيد. وهنا تخبرنا جريس: «كانت المنطقة خالية من السكان فاشترينا أرضاً من وزارة الشؤون وبنينا مصنعاً لإنتاج السماد العضوي بحيث كان العمال يجلبون لنا القمامة العضوية المتراكمة لديهم لنُعيد تدويرها».

ولكن، في السنوات الأخيرة اضطرت الجمعية لإقفال هذا المصنع لمجاورتِه منطقة تعجّ بالسكان إلا أنها كانت قد أطلقت مبادرات من أجل إعادة تدوير المخلفات الجارحة مثل البلاستيك والحديد والزجاج والورق. وتطلعنا جريس «بدأنا نعلمهم كيفية فرز هذه المخلفات وبيع البلاستيك النظيف المغسول مثلاً وتحويله إلى مواد خام لإعادة تصنيعها». وتضيف «نجحنا في هذه المنظومة لأن عمال النظافة كانوا يقومون أصلاً بإعادة التدوير. ونطلق عليهم لقب "معيدو التدوير بالفطرة" ونحن أتينا وبنينا على هذه المهارة».

وتقدم الجمعية العديد من البرامج لإعادة تدوير المخلفات في ثلاثة مواقع رئيسية: المقطم وطره والقطامية. كما تملك وحدة إنتاج ماكينات لاستخدامها في إعادة تدوير المخلفات وإدارة النفايات الصلبة بطرق سليمة بيئياً في القطامية ولاسيما البلاستيك.

كما تقوم الجمعية بإنتاج مجموعة واسعة من المنتجات الورقية مثل المفكرات وبطاقات التهنئة وكراسات الرسم، إضافة إلى مجموعة واسعة من الأكياس الورقية لتقديم الهدايا لكافة المناسبات وبعض منتجات التطريز. كما تُنتج الجمعية العديد من السلع المنسوجة مثل السجاد والحقائب والألحفة والمنسوجات الأخرى التي تستخدم في تصنيعها قصاصات من الأقمشة يتمّ تجميعها من المصانع وبيوت الأزياء.

وتُعلمنا جريس أن كل هذا العمل يقوم على أكتاف عمال النظافة لاسيما النساء منهم، حيث يتمّ تدريبهن وتعليمهن من أجل تأدية عملهن، سواء أكان في موقع الجمعية أم في المنزل. وتتابع: «لدينا مجموعة من السيدات يقمن بتدريب السيدات المنتجات في المنازل ويبلغ عددهن حالياً 250 سيدة ويتقاضَين المال مقابل منتجاتهنّ، في حين أن الجمعية تضم أكثر من 150 موظفاً براتب ثابت».

رسالة جمعية حماية البيئة من التلوث تركّز على نشر ثقافة إعادة تدوير النفايات وتحويلها إلى مصدر عيش، إلا أن جريس تشددّ: «هذا ليس كافياً لأن المجتمع يحتاج إلى خدمات تعليمية وصحية..» من أجل تنمية متكاملة وبيئة أفضل.

* كاتبة وباحثة في القضايا الاجتماعية

Email