ميركل مهندسة المجتمع الألماني

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بقيادة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل فاز بالأغلبية في الانتخابات الفيدرالية في سبتمبر، ولكن هذا لا يعني أن مستقبل البلاد بات واضحاً.

ومن المؤكد أن ما سينشأ عن مساعي ميركل لتشكيل ائتلاف جديد مع حزب الخُضر وحزب الديمقراطيين الأحرار لن يشكل مسار الاقتصاد الألماني على مدار السنوات الأربع المقبلة فحسب؛ بل وسوف يحدد أيضاً مصير تحول ألمانيا إلى مجتمع مفتوح حقاً.

في أقل من جيل واحد، برزت ألمانيا، التي كانت ذات يوم رجل أوروبا المريض، باعتبارها قوة اقتصادية عالمية، ولكن الحقيقة هي أن النجاح الاقتصادي الحالي في ألمانيا ليس نتاجاً لسياسات جيدة بقدر ما يرجع إلى الظروف الخارجية المواتية، وخاصة في أوروبا، التي جعلت الطلب القوي على الصادرات الألمانية مضموناً.

لا شك أن الإصلاحات الاقتصادية المحلية المهمة مكنت ألمانيا من اغتنام فرصة الطلب الخارجي. ولكن الإصلاحات بدأت قبل فترة طويلة من وصول ميركل إلى السلطة، ولم تُنَفَّذ خلال ولايتها التي دامت اثنتي عشرة سنة سوى قِلة من الإصلاحات الاقتصادية المهمة.

على سبيل المثال، يظل الاستثمار الخاص المحلي ضعيفاً، وهو ما يرجع جزئياً إلى الخدمات المفرطة التنظيم والأعباء البيروقراطية الثقيلة، وعلاوة على ذلك، في حين وعظت الحكومة الألمانية جاراتها ونصحتها بالتقشف، فإنها زادت من إنفاقها الاجتماعي على معاشات التقاعد والتحويلات المالية، وسمحت في الوقت نفسه لصافي الاستثمار العام بالتحول إلى سلبي.

ولم تتحقق عملية الإصلاح الشامل للنظام الضريبي المطلوبة بشدة والتي أثار حولها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي قدراً كبيراً من الصخب. وعلى الرغم من زيادة تشغيل العمالة خلال ولاية ميركل، فإن خلق الوظائف لم ينجح في تقليص الشريحة المنخفضة الدخل في سوق العمل.

والآن تتقاتل الأحزاب التي ستشكل الحكومة التالية في الأرجح ــ حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (وشقيقه البافاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي)، وحزب الخُضر، وحزب الديمقراطيين الأحرار ــ حول أفضل السبل لاستخدام فوائض ألمانيا المالية الضخمة لخدمة جماهيرها الانتخابية.

وأياً كان القرار الذي قد تنتهي إليه الأحزاب، فمن المرجح أن يظل أداء ألمانيا الاقتصادي قوياً، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالتجارة والميزانية المنضبطة، ويكمن الاختبار الحقيقي لما يسمى ائتلاف جامايكا (بسبب ألوان أحزابه) في مكان آخر. فكل ما افتقرت إليه ميركل من إنجازات في السياسة الاقتصادية، نجحت في التعويض عنه بجلب التغير الاجتماعي. فتحت قيادتها، تحولت ألمانيا إلى مجتمع مفتوح كما هي اليوم. ولكن المجتمع الألماني أصبح أيضا منقسماً على نحو متزايد.

فالآن، ينتمي نحو 20% من سكان ألمانيا البالغ عددهم 82 مليون نسمة إلى خلفية مهاجرة، وما يقرب من خمسة ملايين منهم مسلمون. والآن يعتبر أربعة من كل خمسة ألمان الإسلام والمثلية الجنسية جزءاً من المجتمع الألماني؛ وثلاثة من كل أربعة يقولون نفس الشيء عن المهاجرين واللاجئين. وسكان ألمانيا هم الأكثر تأييداً لأوروبا في القارة.

ساهمت الحكومات الثلاث الأخيرة، وجميعها بقيادة ميركل، بقوة في إحداث هذا التحول.

ويطلق المنتقدون على ميركل وصف أول مستشار اجتماعي ديمقراطي من حزب محافظ، لأنها تبنت العديد من السياسات التقدمية، في حين بشرت بالاستقرار والقيم التقليدية. ويُقال إن قرارها الأكثر أهمية ــ والذي كاد يكلفها منصبها، ولكنه ربما يشكل إرثها في نهاية المطاف ــ كان القرار الذي اتخذته في عام 2015 بقبول ما يقرب من 1.5 مليون طالب للجوء والدفع نحو دمجهم في المجتمع الألماني، على الرغم من المعارضة الشرسة من قِبَل كثيرين في حزبها، كما دعمت حكومات ألمانيا بقيادة ميركل التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة وحقوق الأطفال، في حين أشرفت على إحراز تقدم كبير في مجال المساواة بين الجنسين.

فبفضل زيادة المرونة في الوصول إلى أسواق العمل، وتوسع مرافق رعاية الطفولة المبكرة، والحوافز المالية، حدثت زيادة ملموسة في مشاركة الإناث في قوة العمل إلى أكثر من 70%، وهي واحدة من أعلى النسب في العالَم الصناعي. كما عملت الحكومة الألمانية الحالية على فرض حصة بنسبة 30% للنساء في المجالس الإشرافية في الشركات الكبرى، فضلاً عن قانون شفافية الأجور الذي يهدف إلى الحد من الفجوة في الأجور بين الجنسين، والتي لا تزال ضخمة عند مستوى 21%.

رغم أن ميركل لم تكن قائدة هذه الإصلاحات - خاصة وأنها اضطرت إلى تجنب تنفير أولئك في حزبها الذين كانت نظرتهم إلى الإصلاحات سلبية - فإنها كانت داعمة لها ضمنياً.

في نهاية المطاف، كانت موهبة ميركل في بناء الجسور عبر الانقسامات الاجتماعية والسياسية هي التي جعلت تحول ألمانيا إلى مجتمع مفتوح في حكم الممكن. وفي نهاية المطاف، ربما يصبح هذا، وليس السياسة الاقتصادية، الإنجاز الأعظم خلال ولايتها كمستشارة لألمانيا. ومن بعض الجوانب، تجاوزت ألمانيا بالفعل نقطة اللاعودة على طريقها نحو الانفتاح، بسبب سياسة اللاجئين التي فرضتها ميركل في عام 2015.

ورغم ذلك، هناك تحديات هائلة تنتظر ألمانيا في المستقبل. فإلى جانب التحديات الفنية والاجتماعية المرتبطة بالدمج الناجح للاجئين، تبرز الحاجة إلى تبني قدر أعظم من التسامح في التعامل مع الإسلام والتنوع بشكل أكثر عموماً من جانب كل الألمان. كما يستلزم الأمر إدخال المزيد من التغييرات على سياسات الأسرة والمساواة بين الجنسين فضلاً عن إصلاح شامل لنظام التعليم.

مع استمرار ألمانيا في مناقشة المعنى الحقيقي لكون المرء مواطناً ألمانياً، سوف تحدد نتيجة مفاوضات الائتلاف الحالية ما إذا كانت حكومة ميركل المقبلة ستتصدى لهذه التحديات بفعالية. وإذا فعلت، فسوف يتذكر التاريخ ميركل بوصفها مهندسة المجتمع الألماني الجديد.

* كبير مديري البنك المركزي الأوروبي سابقاً، ويشغل حالياً منصب رئيس المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية في برلين، وهو أستاذ الاقتصاد الكلي والتمويل في جامعة هومبولت في برلين.

Email