الأسواق المالية الفعالة والعمل في عالم مثالي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الحقيقة الواضحة في الولايات المتحدة هي أن جميع السياسات محلية. على ما يبدو، يمكن تطبيق الحكمة نفسها (إلى حد ما) على الاتحاد الأوروبي الذي يعتمد برنامجه على السياسات الوطنية الرئيسية للدول الأعضاء، وينطبق هذا بصفة خاصة على مؤسسات منطقة اليورو التي يوافق الجميع تقريباً على أنها في أمسّ الحاجة إلى الإصلاح.

وبالفعل، كان دعم منطقة اليورو هو الخيط المشترك في الخطب الرئيسية التي ألقاها رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشهر الماضي، وفي خطابه عن حالة الاتحاد، أوضح جونكر بجرأة رؤيته الطموحة لمستقبل أوروبا. ودعا الاتحاد الأوروبي إلى استكمال اتحاده المصرفي، وإقامة وزارة مالية أوروبية (موحدة تماماً مع المفوضية)، وتوسيع الميزانية على مستوى الاتحاد الأوروبي.

وتناول ماكرون في خطاب ألقاه في السوربون قضايا الدفاع والأمن، والانقسامات السياسية في أوروبا، داعياص إلى إصلاح منطقة اليورو. لكنه لم يفصح عن أمور كثيرة. وتماشياً مع دوره كزعيم وطني، كان له وجهة نظر حكومية، وليست مجتمعية. ومع ذلك، كان من الواضح أن الخطابين كانا يهدفان إلى وضع إطار للنقاش السياسي الجاري حالياً في ألمانيا، حيث تحاول المستشارة الألمانية المسيحية أنجيلا ميركل تشكيل حكومة ائتلافية جديدة. وكان العديد من المراقبين يأملون أن تفتح الانتخابات الفدرالية الأخيرة في ألمانيا «فرصة سانحة» للإصلاحات على مستوى الاتحاد الأوروبي. لكن يبدو أن ذلك لم يعد ممكناً.

إن مصير أي برنامج للاتحاد الأوروبي - سواء لجونكر أو لماكرون - في يد ميركل التي من غير المرجح أن تتخذ أي خطوات سياسية كبيرة. في الواقع، فإن العمل الجريء مثل الذي اقترحه جونكر وماكرون لن يكون غير معهود لميركل فحسب، بل سيتطلب منها أيضاً استثمار كل ما تبقى من رأس مالها السياسي، وطوال حياتها المهنية، كانت ميركل دائماً تتصرف بشكل معقول، كما لو كان هدفها الرئيسي هو إعادة انتخابها. ولأن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي يفضل الهيمنة على الحكومة - وإذا كان ذلك ممكناً، الحكم من دون شركاء التحالف - فقد سعى دائماً للفوز بالأغلبية من خلال جذب الناخبين الألمان في منتصف الطيف السياسي.

ميركل لديها شعور قوي عن مكان الوسط، وكيف ومتى قد يتحول. وبالتالي، فإنها كثيراً ما تتبنى أفكار منافسيها. وأثناء ولايتها، حددت الحد الأدنى للأجور، وخفضت سن التقاعد إلى 63 عاماً (بالنسبة للذين لديهم 45 سنة من الأقدمية)، وأقرت زواج المثليين - وهي سياسات لا تحترم النزعة المحافظة التقليدية، ولكنها تحظى الآن بتأييد شعبي كبير.

وكما أوضح الخبير الاقتصادي الأميركي هارولد هوتيلينج في عام 1929، فإن أولئك المتنافسين من أجل الوسط لديهم «ميل لا مبرر له.. لتقليد بعضهم البعض». وبالتالي، فإن الاتحاد الديمقراطي المسيحي ومنافسه الرئيسي، الحزب الديمقراطي الاشتراكي، أصبحا متشابهين على نحو متزايد. ونتيجة لذلك، اضطرت الأحزاب الأصغر حجماً التي تسعى إلى موطئ قدم في الانتخابات إلى استهداف الأقليات السياسية التي كان لدى الكثير منها تفضيلات ومعتقدات قوية.

ولأن الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي خسرا الدعم في الانتخابات الأخيرة، حيث قرر هذا الأخير قضاء فترة الانتخابات المقبلة في المعارضة، فإن ميركل ستحتاج إلى تشكيل ائتلاف مع هذه الأحزاب. لكن الحزب الألماني الرئيسي، ناهيك عن ميركل، سيحكم ثالث أكبر فصيل في البوندستاغ، البديل من أجل ألمانيا، وهو حزب يميني متطرف مناهض للاتحاد الأوروبي والذي حصل على 13٪ من الأصوات، أما الديمقراطيون الأحرار، فهم ليبراليون بمعنى أوروبي، ولكنهم يشعرون بالإحباط أيضاً بسبب الشعور بالضيق في منطقة اليورو. ويعارض الحزب الديمقراطي الحر بشدة أي ترتيب لنقل الأموال الألمانية للدول الأعضاء ضعيفة الأداء.

وخلال الحملة، امتنع الحزب الديمقراطي الحر عن تزويد الاتحاد الأوروبي بقدرة مالية تحت أي ظرف. ومن شأن اقتراحين آخرين من الحزب الديمقراطي الحر - آلية لإعادة هيكلة الديون السيادية، وإجبار الدائنين على تحمل المسؤولية عن قراراتهم، والانسحاب المؤقت من العملة الموحدة للدول الأعضاء المثقلة بالديون - أن يزيد من تعقيد الأمور بالنسبة إلى الإصلاحيين في منطقة اليورو. وتلقى أفكار الحزب الديمقراطي الحر دعماً واسعاً في ألمانيا وفي أوساط الاقتصاديين الألمان (ويتقاسمها عدد من الاقتصاديين الأوروبيين الآخرين). وهي تتفق مع المواقف التي اتخذتها وزارة المالية الألمانية في ظل الحكومة السابقة. ولكن السياسات التي قد تعمل في عالم مثالي من الأسواق المالية الفعالة والمرنة يمكن أن تكون خطيرة إذا ما طبقت في أسواق العالم الحقيقي غير المثالي. وكما رأينا قبل عقد من الزمن، فإن المؤسسات المالية العاملة في بيئة من عدم اليقين يمكن أن تصبح هشة وقابلة للانهيار، ما يفرض تكاليف باهظة على المجتمع.

إن فكرة الخروج المؤقت من اليورو غير صائبة. وإذا تم إضفاء الصفة الرسمية على هذا الخيار، فإن الأسواق ستحدد سعره، وستدفع الدول الأعضاء التي ليست لها أسواق رأس المال الكبيرة زيادة. وستكون أسعار الفائدة أعلى هيكلياً. وفي ظل ظروف متقلبة، ستصبح عرضة لمواجهة المستثمرين المؤسساتيين المتقلبين، الحذرين من تقلب خطوط الائتمان الخاصة بهم.

وقد شن الحزب الديمقراطي حملة على خيار المغادرة، كما لن يرغب قادته، الذين خرجوا من البرلمان لمدة أربع سنوات، في المخاطرة بمصداقيتهم من خلال التراجع عن ذلك الآن. وإلى جانب ذلك، فإن بعض النواب في الحزب الديمقراطي المسيحي، وكثيرين في حزبها الشقيق البافاري، الاتحاد المسيحي الاجتماعي، يتعاطفون مع مواقف الحزب الديمقراطي الحر. أما العضو الثالث المحتمل في الائتلاف الجديد لـ«ميركل»، حزب الخضر، فسيكون بالكاد قادراً على موازنة هذه القوى الداخلية.

وتكمن مشكلة أخرى في كون جونكر وماكرون لم يقدما الكثير من التفاصيل. ولا يزال التشكيل الفعلي لميزانية منطقة اليورو في المستقبل - وأنواع النفقات التي سيشملها - غير واضح تماماً. نفس الشيء بالنسبة لعملية إبقاء وزير مالية منطقة اليورو خاضعاً للمساءلة وكذا ضمان شرعيته الديمقراطية. وليس من الواضح أيضاً مدى خسارة السيادة الوطنية، باسم القدرة المالية المشتركة، وسيتطلب الإجابة هذه على الأسئلة مستوى عال من الريادة السياسية على عكس ما تُظهره ميركل. للانضمام إلى مشروع ماكرون الأوروبي، سيكون عليها أن تلعب دوراً جديداً وتُعرض نفسها لمخاطر سياسية كبيرة. ويتعين على ألمانيا أن تأخذ زمام المبادرة: بدلاً من رفض المقترحات، يتعين عليها تقديم مقترحاتها.

ولا يمكن توقع مثل هذا السلوك من قبل الحكومة التي، بسبب متوسط الناخبين الألمان، تعمل بشكل آمن. وقد شهد المركز السياسي الألماني أخيراً، تحولاً ملحوظاً، في اتجاه مختلف عن رؤية جونكر وماكرون. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يظل التصميم المؤسسي لمنطقة اليورو غير متكامل.

* عضو سابق في المجلس التنفيذي لبنك دويتشه الألماني، ومدير برنامج مركز السياسات الآمنة في جامعة غوته في فرانكفورت وزميل مقيم في مركز الدراسات الأوروبية في جامعة هارفارد.

Email