العولمة تتطلب قدراً هائلاً من الخيال الاجتماعي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتساءل بعض المراقبين: هل أصبح عصر العولمة الحالي عُرضة للخطر؟ إذا كان الأمر كذلك فسوف ينشأ سؤال أشد ارتباطاً بموضوعنا هذا: هل تكون النهاية مصحوبة بالعنف؟

أصبحت أسواق الأسهم شديدة التوتر والعصبية على نحو متزايد، نظراً لذكريات من زمن مضى عندما دُفِع بالتكامل الاقتصادي الدولي في الاتجاه المعاكس. والآن ربما تتسبب الحروب التجارية أو الصراعات العسكرية في تفكيك العلاقات التجارية المتبادلة المعقدة التي حققت الرخاء منذ الحرب العالمية الثانية.

ففي فترات سابقة من تراجع العولمة، كانت أحداث مثل الحرب العالمية الأولى أو الانهيار المالي في عام 1929 تتسبب في تعطيل تدفقات التجارة، والتمويل، والبشر، والتي كانت في السابق تربط بين الدول. وكانت إحدى نتائج هذه الأزمات أن تحولت الجنسية والمواطنة إلى عنصرين رئيسيين في الحياة السياسية والاجتماعية.

الواقع أن نفس النمط من التراجع والتفكك يمكن العثور عليه في فترات سابقة من التاريخ: نهاية الإمبراطورية الرومانية وتفكك أسرة هان الشرقية في الصين، على سبيل المثال لا الحصر.

بل إن بعض المؤرخين ينظرون إلى الثورتين الأميركية والفرنسية باعتبارهما من الأحداث المرتبطة بتراجع العولمة. فقد رفض الثوريون الأميركيون الحكم الأجنبي والتجارة الأجنبية، وعمل الثوريون الفرنسيون على تفكيك التحالفات الأوروبية لأسرة بوربون. وفي الحالتين أَكَّد الثوار على قواعد جديدة للمواطنة.

قد يبدو الأمر وكأن المجتمع السياسي الحديث يميل نحو التراجع عن العولمة. فتاريخياً، كان هذا الميل يبدأ عندما يتغير التوازن العاطفي للمجتمع. فكثيراً ما تؤدي الاضطرابات الاجتماعية إلى صعود زعماء جدد تقودهم عقليتهم الحاكمة إلى اتخاذ قرارات متسرعة، وقصيرة النظر، وغير متناسقة، ورديئة في عموم الأمر. وعندما تؤثر عملية اتخاذ القرار الرديئة في دولة ما سلباً على دول أخرى، فقد يؤدي هذا إلى نشوء حلقة مفرغة من الانتقام والتصعيد.

على مدار القرن الماضي، أثارت ثلاثة مشاعر مترابطة بشكل خاص ردة فعل عكسية ضد العولمة: الخوف، والشك، وفقدان الهوية الاجتماعية. وفي عموم الأمر، يعكس الخوف الواسع الانتشار من الخسائر المالية، أو المخاطر التي تفرضها دول أخرى، قلقاً مجتمعياً أشد عمقاً إزاء عالَم متغير بلا انقطاع.

في ثمانينيات القرن العشرين، أنشأ المحلل المالي جيمس مونتييه مؤشر «الخوف والجشع»، حيث تكون مشاعر السوق مدفوعة بشكل كامل بالتفاعل بين الجشع والخوف من الخسارة. وكانت رؤية مونتييه المركزية تتلخص في أن إمكانية الخوف تزداد جنباً إلى جنب مع مستوى الجشع المعروض. والخوف بالتالي يمثل العاقبة المحددة تاريخياً للطمع، تماماً كما يُعَد الموت في العقيدة المسيحية عاقبة للخطيئة.

من الجدير بالذكر أن الصراعات العسكرية الكبرى في القرن العشرين كانت مسبوقة جميعها بأزمات مالية، والتي كانت بدورها مسبوقة بفترات من الوفرة الجامحة. فكان انهيار عام 1907 سابقا للحرب العالمية الأولى.

واندلعت الحرب العالمية الثانية في أعقاب انهيار عام 1929، والأزمة المصرفية الأوروبية في عام 1931، ثم أزمة الكساد العظيم. أما النوع الثاني من المشاعر التي تدفع تراجع العولمة، أو الشك، فقد يخلق فخاً. وعلى حد تعبير إلفيس بريسلي: «لا يمكننا أن نستمر معاً /‏ وكل منا يسيطر على عقله الشك /‏ ولن نستطيع أن نبني أحلامنا /‏ وكل منا يسيطر على عقله الشك».

قبل الحرب العالمية الأولى، كان العديد من أهل لندن يخشون أن يكون الألمان القائمون على الخدمة في المطاعم جواسيس، وكان بعضهم من الجواسيس حقاً بلا أدنى شك. واليوم، يُعرِب العديد من الأوروبيين عن تخوفاتهم من اللاجئين والتطرف في المجتمعات الإسلامية، وهي تخوفات لا تتناسب مع التهديد الفعلي.

تزدهر المخاوف والشكوك عندما تتسبب عمليات العولمة في تآكل القيم الأساسية، ومصادر المدلول والغرض (مثل المهن التقليدية)، وأساليب الحياة. وفي الدول المتقدمة صناعيا، تأتي ردة الفعل العنيفة ضد الهجرة والتجارة غالبا في إطار «إنقاذ» الوظائف أو تعويض «الخاسرين» بسبب العولمة. ولكن في الحالتين، تتجاهل هذه الاستجابة حقيقة مفادها أنه لا توجد وظائف لائقة جديدة لتوفير مصادر المغزى والهوية.

كانت هذه مشكلة على الأقل منذ بدأ التصنيع الضخم يتسارع في القرن التاسع عشر. فقد افتتح فيودور دوستويفسكي وصفه الكلاسيكي في عام 1862 للحياة في السجن، في رواية «بيت الموتى»، بأنشودة مجدت أهمية العمل ــ حتى بالنسبة لأولئك في المستعمرات العقابية في سيبيريا.

وقد لاحظ أن الأنشطة العادية مثل تركيب شيء ما أو حتى تنظيف غرفة من الممكن أن تعطي المرء الشعور بقيمة الذات. لكن الكد الخالي من المغزى الذي يُفرَض على السجناء ــ مثل الحفر ثم الردم ــ يُفضي إلى العكس: إذ كان المقصود منه تدمير كرامة السجناء والقضاء على إحساسهم بذواتهم.

يبين لنا التاريخ أن معالجة الجذور العاطفية لتراجع العولمة تتطلب قدراً هائلاً من الخيال الاجتماعي. والمهمة المطلوبة لا تقل صعوبة عن إعادة ترسيخ شعور شامل بالكرامة الإنسانية والغرض. ومن المؤكد أن التدفقات المالية اليوم أقل مما كانت عليه قبل الأزمة المالية في عام 2008، ومنذ عام 2014 كان معدل نمو التجارة الدولية أبطأ من وتيرة الإنتاج للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من الجهود مثل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، والتي تهدف إلى توحيد أوراسيا من خلال البنية الأساسية والاستثمار، فمن المعقول أن يكون العالَم بلغ «ذروة التمويل»، و«ذروة التجارة»، وربما «ذروة العولمة».

مع ذلك، يظل هناك مجال رئيسي واحد للتواصل الدولي لم يُظهِر أية إشارة إلى التراجع: وهو مجال تبادل المعلومات. وسوف يستمر تدفق البيانات العالمية في الزيادة، فيشكل بهذا حصة متنامية من القيمة الاقتصادية.

ولكن هل تتمكن العولمة الرقمية أيضا من خلق مصادر جديدة للمغزى؟ ربما يرى الفنانون التجريبيون وخبراء وسائل الإعلام الاجتماعية أنها قادرة على ذلك. ولكن إذا كان الترابط الجديد يخلف الأثر المتناقض المتمثل في جعل الناس يشعرون بقدر أكبر من العزلة والانجراف، فسوف يختار الناس اليقين المتخيل القديم بدلا من العولمة في أي يوم.

* أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وكبير زملاء مركز إبداع الحوكة الدولية

 

Email