تكتيكات صينية لحماية سعر صرف العملة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

احتفلت الصين في الشهر الماضي، بالذكرى العشرين لوفاة دنغ شياو بينغ، كبير مهندسي الإصلاح الاقتصادي والانفتاح الذي دفع البلاد إلى أعلى درجات السلم الاقتصادي في العالَم. وتأتي الذكرى السنوية في وقت، حيث أصبح الانفتاح الاقتصادي مهدداً، بعد أن تولى قيادة الولايات المتحدة رئيس يعتقد أن الطريق إلى «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» هو إغلاق أبوابها في وجه العالَم.

وبوجه خاص، تستعد إدارة ترامب لتبني نهج أشد صرامة في التعامل مع الصين، التي يزعم أنها كانت «تغتصب» الولايات المتحدة بسياساتها التجارية، بما في ذلك من خلال الإبقاء على قيمة الرنمينبي عند مستوى منخفض بشكل مصطنع.

وأيا كانت الخطوات الملموسة التي قد يتخذها ترامب، فيبدو من الواضح أن سياسة الولايات المتحدة في التعامل مع الصين ستكون أكثر صرامة على الصعيد الاقتصادي في السنوات المقبلة، بل وربما حتى تشعل شرارة حرب تجارية. ولكن كما يتبين من خلال نظرة فاحصة لموقف السياسة المالية في الصين، فإن الصين ليست عدو أميركا.

قبل بضعة أشهر فقط، واجهت الصين التحدي العاجل الذي تمثل في منع الانخفاض المستمر لقيمة الرنمينبي وتهدئة سوق العقارات المفرطة النشاط. ولن تكون هذه بالمهمة السهلة، خاصة وأن الجهود التي تبذلها السلطات لمنع انحدار الرنمينبي تسببت في تقليص احتياطيات الصين من النقد الأجنبي بسرعة كبيرة.

وكان الوضع عصيباً إلى الحد الذي جعل بعض المستثمرين والاقتصاديين الدوليين يقترحون أن الحكومة لا بد أن تتخلى عن إدارة أسعار المساكن وأن تركز بدلاً من ذلك على دعم سعر الصرف، كما فعلت اقتصادات اليابان وروسيا وجنوب آسيا.

وزعموا أن الصين لا ينبغي لها أن تسمح بتسرب الاحتياطيات النقدية التي حصلت عليها بشق الأنفس من يدها، ولكن بعد فصل الرنمينبي جزئياً عن الدولار في أغسطس 2015، حاول بنك الشعب الصيني جاهداً عدم التدخل لتعزيز قيمة الرنمينبي. ومع استمرار النمو الاقتصادي الصيني في الانحدار واستمرار التعافي في الولايات المتحدة، واصل سعر صرف الرنمينبي انخفاضه.

ربما تساءل بعض المراقبين ما إذا كان بنك الشعب الصيني سمح عمداً بانخفاض قيمة الرنمينبي لتعزيز القدرة التنافسية التجارية لدى الصين مقدماً تحسباً لاحتمال انتصار ترامب في الولايات المتحدة - وهي النتيجة التي افترض كثيرون أنها كفيلة بإضعاف قيمة الدولار. ولعل هذا هو ما حدث، ولكن ذلك لم يخفض قيمة الرنمينبي بشكل فعّال.

عندما تحدى انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة كل التوقعات وجعل الدولار القوي بالفعل يرتفع إلى مستويات أعلى، اشتدت الضغوط التي دفعت الرنمينبي إلى الانخفاض. وبحلول نهاية العام، كانت قيمة الرنمينبي انخفضت بنحو 15% في مقابل الدولار من صيف 2015، وكان الارتفاع السريع للتوقعات بالمزيد من انخفاض القيمة سبباً في دفع المزيد من المستثمرين إلى إخراج رؤوس أموالهم من الصين.

وكان لزاماً على بنك الشعب الصيني أن يتخذ التدابير اللازمة لاحتواء انخفاض قيمة الرنمينبي. ولتثبيت توقعات سعر الصرف، فَرَض قيوداً أشد صرامة على تدفقات رأس المال القصيرة الأجل.

وفي الوقت نفسه، اتخذ خطوة أخرى على مسار جهوده السابقة لفصل الرنمينبي عن الدولار- التحول من نظام متوسط السعر الثابت إلى حزمة سعر الصرف القائمة على السوق ــ مضيفاً 11 عُملة إلى سلعة العملات المرجعية للرنمينبي.

وبهذا، هدأت عاصفة سعر الصرف في الصين، وأُنشِئ نطاق تذبذب في اتجاهين لسعر صرف الرنمينبي. وقد اتخذ بنك الشعب الصيني هذه الخطوات قبل تنصيب ترامب في يناير.

ونظراً لاتهامات ترامب الموجهة إلى الصين بأنها تتلاعب بالعملة، فقد كان ذلك التوقيت جيداً، بصرف النظر عن حقيقة مفادها أن تدخل بنك الشعب الصيني كان يستهدف تعزيز قوة الرنمينبي وليس إضعافه. ولكن يظل من الممكن أن تُصبِح القيود الدائمة المفروضة على تدفقات رأس المال القصيرة الأجل هدفاً للانتقاد، غير أن هذه الانتقادات أيضاً ستكون غير مبررة.

كان تنظيم الصين لتدفقات رأس المال عبر الحدود موضوعاً مثيراً للجدال لفترة طويلة. وقبل بضع سنوات، أوصى أغلب خبراء الاقتصاد الصين بتحرير حساب رأس المال، وبالتالي إزالة حاجز مؤسسي أساسي يحول دون ترسيخ شنغهاي باعتبارها مركزاً مالياً دولياً والرنمينبي بوصفه عملة احتياطية دولية.

وكما تُظهِر التجارب الأخيرة، فإن استخدام الصين لحصص قابلة للتعديل للمستثمرين المؤسسيين الأجانب والمحليين لإدارة تدفقات رأس المال القصيرة الأجل عبر الحدود يظل يشكل تكتيكاً قيماً لحماية سعر صرف عملتها واحتياطياتها من النقد الأجنبي. وكدولة تتمتع بمدخرات كبيرة ولكن سوقها المالية لا تزال ناقصة النمو، تعلم الصين أنها لا بد أن تكون حريصة.

من المؤكد أن السلطات اتخذت خطوات للحد من القيود المفروضة على تدفقات رأس المال عندما دعا وضع الصين الاقتصادي إلى ذلك. فقبل عشرين عاماً، بدأت الصين تسمح بتحرير سعر الصرف - بل وحتى تشجعه - من أجل اجتذاب تدفقات الاستثمار المباشر الأجنبي إلى قطاع التصنيع وتعزيز الصادرات والنمو الاقتصادي.

ولكن صناع السياسات الصينية - الذين سعوا إلى التعويض عن الضغوط الصعودية التي فرضتها تدفقات رأس المال إلى الداخل على الرنمينبي ــ لم يسمحوا للشركات المحلية بالاستثمار في الخارج حتى عام 2008.

وعلى نحو مماثل، في عام 2013 أنشأت الصين منطقة التجارة الحرة الرائدة في شنغهاي، بهدف استكشاف أساليب تسهيل حركة تدفقات رأس المال القصيرة الأجل وتهدئة المطالبات بالتحرير المالي من جانب الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي. ولكن من أجل تخفيف المخاطر المالية المحتملة، واصلت الصين تطوير إطار تنظيم قابلية حساب رأس المال للتحويل.

وفي عام 2013 أيضاً أطلقت الصين مبادرة «حزام واحد، طريق واحد»، المشروع الضخم الذي من شأنه أن يقيم الهيكل المادي والمؤسسي لعلاقات تجارية واستثمارية أوثق مع دول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وخارجها، وبالتالي يعمل على التعجيل بتدويل الرنمينبي.

في ذلك الوقت، حظيت الاستثمارات وعمليات الاستحواذ في الخارج من قِبَل الشركات الصينية بالتشجيع القوي، من أجل توفير منفذ - شيء أشبه بخطة مارشال الأميركية لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ــ لرؤوس الأموال والقدرة الإنتاجية الزائدة التي نشأت في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008.

كان دنغ حريصاً على تنبيه المسؤولين الصينيين إلى ضرورة «التزام الهدوء، والصمود، والاستجابة»، في مواجهة التحديات الجديدة. وحتى الآن، هذا هو ما فعلته الصين، فقد لاحقت هدف التحرير المالي الحذِر بما يتفق مع احتياجاتها ومنطقها. وأيا كان رأي ترامب، فإن هذا لا يجعل من الصين عدواً لأميركا.

تشانغ جون* أستاذ الاقتصاد ومدير مركز الصين للدراسات الاقتصادية في جامعة فودان

 

Email