السياسات الديمقراطية الحقيقية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تظهر تحليلات بيانات مسح القيم العالمية من قبل المختص في العلوم السياسية من جامعة هارفارد ياشا مونك أنه في العديد من الدول الغربية فإن ثقة الناس في الديمقراطية قد تراجعت منذ بعض الوقت.

ما الذي يفسر هذه الظاهرة؟ الاضطرابات السياسية في سنة 2016 توحي بأن الكثير من الناس أصابهم الإحباط من عدم اتخاذ الديمقراطية للإجراءات المناسبة، حيث يفترض هؤلاء أنه لم يتم التعامل مع تباطؤ نمو الدخل والبطالة وانعدام المساواة والهجرة والإرهاب بشكل حاسم ولقد بدت المؤسسات السياسية في الدول الديمقراطية في حالة سبات دائم مما أشعل مطالب الناخبين بقادة أقوياء قادرين على اقتحام الطرق المسدودة واكتساح المقاومة البيروقراطية للسياسات الجريئة الجديدة.

إن هؤلاء القادة - الذين عادة ما يؤكدون أنهم وحدهم القادرون على حل مشاكل البلاد - عادة ما يتم البحث عنهم وإيجادهم في عالم التجارة والأعمال، فالعديد من الناس يعتبرون أن الرئيس التنفيذي الناجح هو شخص يستطيع تحقيق أهداف محددة بوضوح وعليه فلقد توصلوا لاستنتاج مفاده أن بإمكان رجل الأعمال أن يحل المشاكل الاجتماعية التي لا يستطيع السياسيون حلها.

لكن هذه النظرة مضللة لأن القيادة السياسية مختلفة بشكل أساسي عن القيادة التجارية وفي لغة الاقتصاديين فإنه يمثل الفرق بين تحليل التوازن العام والتوازن الجزئي. يتوجب على قادة قطاع الأعمال عمل إنجازات لما فيه مصلحة المساهمين بالشركة وأن لا يشغلوا أنفسهم بما يحصل لبقية المجتمع.

لو تطلب زيادة الربح تخفيض النفقات وتخفيض العمالة فإن بإمكان رئيس الشركة التخلص من بعض الوظائف وتقديم مخصصات نهاية الخدمة للعمال الذين تم الاستغناء عنهم. ما الذي سيحصل لهؤلاء العمال لاحقاً هو اختصاص شخص آخر ـ أي الدولة.

من ناحية أخرى فإن القادة السياسيين ملزمون بمبدأ «شخص واحد، صوت واحد» ولديهم مسؤولية الاعتناء بالأغنياء والفقراء والعاملين والعاطلين عن العمل على حد سواء، حيث يتوجب على السياسي التحقق من أن العمال العاطلين عن العمل لديهم فرص جديدة أو يخاطرون بخسارة أصواتهم.

إن هذا لا يعني أن وظيفة الرئيس التنفيذي هي أسهل ولكن من المؤكد أنها محددة بشكل أكثر وضوحاً، فالقادة الذين يتعاملون مع مهمة سياسية بعقلية رجال الأعمال من المرجح أن يركزوا بشكل أكبر على الفعالية أكثر من الاندماج والشمولية ولكن لو تجاهلت إصلاحاتهم الكثير من الناخبين فإن من الممكن تغييرها.

كما رأينا سنة 2016 فإن الدول الغربية تحتاج بشكل عاجل لإيجاد وسائل للتعويض أو مساعدة أولئك الذين خسروا في ظل الاقتصاد العالمي الحالي وهذا درس مؤلم تعلمته البلدان في مرحلة ما بعد الشيوعية خلال فترة التسعينات، فطبقاً لتقرير المرحلة الانتقالية الذي أصدره البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية مؤخراً ويدعى «الانتقال للجميع» فإن أولى سنوات إصلاحات السوق أضرت بالأغلبية الساحقة من سكان تلك البلدان.

إن من المثير للاهتمام أن العديد من الناس الذين دعموا تلك الإصلاحات كانوا يفضلون «قادة أقوياء» فلقد جادلوا بأنه نظراً لأن الإصلاحات لم تحظَ بالشعبية فإنه يتوجب فرضها على الناس عوضاً عن تعطيلها من خلال ممارسات ديمقراطية مكثفة ولسوء الحظ فلقد كان لهذا الطرح آثار عكسية، فبينما استطاع بعض القادة الأقوياء تنفيذ الإصلاحات بشكل سريع فإن الإجراءات أفادت فقط أقلية من الناس والعديد منها تم تغييره في نهاية المطاف.

إن من الأمثلة على ذلك هو التخصيص فالشركات التي تملكها الحكومات هي في الغالب شركات غير فعالة وعادة ما توظف عمالة تزيد على الحاجة وعليه عندما يتم تخصيصها تصبح أكثر فعالية ولكنها تتخلص من العمالة كذلك، وهذا يعتبر تطورا إيجابيا على مستوى الشركة، ومن منظور التوازن الجزئي ولكن هذا قد لا يعتبر تطورا إيجابيا لو نظرنا لرفاهية العمال المسرحين وأبعاد التوازن العام على المجتمع.

لو أدى التخصيص لتسريح العديد من العاملين بدون تعويض فإن غالبية المواطنين قد ينظرون إليه كعملية غير شرعية مما قد يؤدي لتقويض دعمهم للملكية الخاصة للمنشآت المنتجة، وهذا بالضبط ما حصل في أماكن لم تقتصر على عدة دول في مرحلة ما بعد الشيوعية حيث أصبحت كلمة التخصيص كلمة قذرة.

إن الضرر الذي تتسبب به إصلاحات غير شعبية مؤكدة دام لفترة أطول بكثير من الإصلاحات نفسها ففي العديد من بلدان مرحلة ما بعد الشيوعية أدى الألم الذي تسببت به تلك الإصلاحات لخلق الظروف السياسية لتولي الرجال الأقوياء الشعبويين مهام القيادة، وعندما قام بعض من هؤلاء القادة الجدد بتغيير إصلاحاتهم قاموا .

كذلك بإزالة ضوابط مؤسساتية على سلطتهم من أجل تصعيب مهمة أولئك الذين يتحدون تلك القرارات وعندما أحكموا سيطرتهم على السلطة قاموا بإعادة توزيع ثروة البلاد على أنصارهم المقربين، وعليه فإن من غير المفاجئ أن انعدام المساواة في العديد من تلك البلدان هو أسوأ اليوم مقارنة بما كان عليه الوضع عندما تم التخلي عن التخصيص والإصلاحات الأخرى.

ولهذا السبب فإن المؤسسات الديمقراطية مهمة للغاية لأنها تمكن أولئك الذين تضرروا من الإصلاحات من الحصول على تعويض وبوجود «شخص واحد، صوت واحد» فإن هذا يعني أن «الخاسرين» هم بنفس أهمية «الرابحين» ولأن السياسات الديمقراطية الحقيقية يجب أن تشمل الجميع بحق فإن تطبيق الإصلاحات في بلد ديمقراطي يحتاج للوقت والجهد ولكن العملية المؤلمة لبناء ائتلافات عريضة مؤيدة للإصلاح ستتحقق من استمرارية تلك السياسات.

على المدى الطويل فإن الإصلاحات التي تشمل الجميع وتهتم بهم سوف تبقى، بينما الإصلاحات السريعة والقذرة سوف تنتهي وسلحفاة الديمقراطية تهزم أرنب الدكتاتورية الخيرة.

* سيرغي غورييف هو كبير الاقتصاديين في البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية

 

Email