تحدّي الطاقة النوويّة في البلدان العربيّة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس الملفّ النوويّ الإيرانيّ مهمّاً من وجهة نظر مخاطر انتشار السلاح النوويّ وحسب، بل له أيضاً أهميّة استراتيجيّة فيما يخصّ ملفّ الطاقة وإنتاجها واستهلاكها في المنطقة. إذ تحتاج المنطقة إلى استخدام الطاقة النوويّة لغرضٍ سلميّ أساسيّ هو إنتاج الكهرباء لاستهلاكها الخاصّ.

وكثيراً ما تغيب هذه الحاجة وراء صورة شرق أوسط يعيش على بحرٍ من النفط والغاز. بل وصل الأمر إلى وجود طروحات حول إنتاج طاقة خضراء شمسيّة متوفّرة بشكلٍ كثيف، بغية تصديرها لا استهلاكها محليّاً.

جميع سكّان الدول العربيّة، والشرق الأوسط بشكلٍ أعمّ، يعيشون بشكلٍ أو بآخر حالات تقنين وانقطاع في الكهرباء. حتّى في الدول المصدّرة للنفط والغاز. وقد كان إيصال الكهرباء والماء النظيف إلى كلّ منزل وقرية هو المهمّة التنموية الأسمى، وسيبقى.

لكنّ استهلاك الطاقة تسارع مع تزايد عدد السكّان ومع تطوّر الاحتياجات عبر الهجرة من الريف إلى المدينة. هكذا سيزداد الاستهلاك المحليّ في المنطقة إلى أكثر من الضعف من الآن وحتّى 2050، أي بوتيرة أسرع من أيّ منطقة أخرى من العالم.

جزءٌ من التسارع الكبير في الاستهلاك يعود لعدم الفعاليّة في الاستعمال. حيث إنّ الطاقة اللازمة لإنتاج مقدارٍ معيّنٍ من الناتج المحليّ الإجمالي أعلى بثلاث مرّات في المنطقة من المتوسّط العالميّ. ما يعني أنّ استهلاك الطاقة يزداد بوتيرة أسرع من نموّ الناتج، وأنّ المنطقة تحتاج إلى نموذج تنمية أكثر فعاليّة في استهلاك الطاقة للصعود اقتصادياً.

فاستمرار سبل الإنتاج والاستهلاك الحاليّة سواء في الدول الكثيفة السكّان أو تلك المصدّرة للنفط والغاز غير مستدام.

إذ حتّى هذه الأخيرة تعيش أزمة تحوّل في استخدام الطاقة على المدى المنظور، وتقف أمام تحدّي انخفاض صادراتها بشكلٍ ملحوظ.

معظم إنتاج المنطقة الحالي للكهرباء يعتمد على النفط ومشتقاته. ما يمتصّ بسرعة زيادة الإنتاج النفطيّ. لكنّ الاعتماد على الغاز قد أصبح كبيراً، خاصّة منذ الصدمة النفطيّة في سبعينيات القرن الماضي، بحيث أضحت معظم المحطّات التي تشيّد اليوم تقام على الغاز.

لكنّ عوائق تعترض هذا التحوّل، خاصّة لناحية استثمارات إنتاج الغاز ونقله، والاستقرار الجيوسياسيّ الضروريّ لربط بلدان المنطقة بشبكة غازٍ مستدامة. ومثال ذلك الكبير هو اعتماد المغرب على الفحم في حين تفيض الجزائر غازاً يصدَّر إلى أوروبا، جزءٌ منه عبر أراضيها.

والمثال الآخر هو تبدّد آمال الأردن ولبنان في الاعتماد على الغاز المصريّ، في حين تعيش مصر أصلاً أزمة إنتاج وتسارعٍ في الاستهلاك.

بالطبع ما زالت هناك إمكانيّات كبرى لتطوير الطاقات المتجدّدة والمستدامة. وفعلاً تبقى الشمس مصدراً متجدّداً أساسيّاً، حيث بدأت دولٌ مثل مصر والمغرب في إنشاء محطّات شمسيّة كبرى. إلاّ أنّ تطوير الطاقات المستدامة ما زال بطيئاً مقارنة مع تزايد الاحتياجات.

في حين تكمن الإمكانيّة الأكبر في إنتاج الطاقّة الشمسيّة على المستوى المنزليّ وفي ترشيد استهلاك الكهرباء وفي تغيير الأنماط العمرانيّة نحو مساكن أكثر ذكاءً وأقلّ هدراً للطاقة. وهذا يعني نموذج تنمية مختلفاً لا يكون فيه تشييد السكن بمستوى العشوائيّة التي شهدتها المنطقة في العقود الأخيرة.

الطاقة النوويّة إذاً خيار حقيقيّ في المنطقة، خاصّة منذ أن أضحى الاحتباس الحراريّ موضوعاً رئيساً. لكنّ ليس الأمر جديداً. إذ تمّ طرحه منذ سبعينيات القرن الماضي بعد الصدمة النفطيّة الكبرى. إلاّ أنّ قليلاً من دول المنطقة انطلقت بجديّة في هذا الخيار.

فإذا أخذنا جانباً حالة الدولة العبريّة التي نهضت بمشروعها في الخمسينيات، وحدها إيران كانت قبل الثورة قد انخرطت في مجال المحطّات الكهرنوويّة. لكنّ تشييد مفاعليها في بوشهر قد توقّف عام 1979. ولم يعد إحياء المشروع سوى في عام 1995. أمّا تركيا فلم تذهب إليه وانشغلت بمشاريع السدود الكهرمائيّة على الفرات ودجلة لسدّ حاجاتها.

في حين أهملت جميع الدول العربيّة هذا الخيار لأسبابٍ مختلفة. ذهب العراق نحو النوويّ كخيارٍ عسكريّ وليس لأغراضٍ سلميّة، ودفع باهظاً ثمن هذه المغامرة التي كان واضحاً أنّ القوى العظمى لن تسمح باستكمالها. أمّا بقيّة الدول فيبدو وكأنّ الفوائض النفطيّة والغازيّة قد أعطت الانطباع بأنّ نموذج النموّ القائم لا نهاية له.

لا يُمكن إرجاع الامتناع الطوعيّ عن هذا الخيار إلى أسبابٍ تتعلّق بالأمان النوويّ، إذ لم تأتِ كارثة تشرنوبيل وتداعياتها على الرأي العام سوى في عام 1986. وفعلاً توقّفت بعدها الكثير من الدول الغربيّة عن تشييد المفاعلات، بل أقفلت بعضها مفاعلاتها القائمة.

إلاّ أنّ الاهتمام العالميّ عاد مجدّداً، حتّى بعد الكارثة الكبرى الثانية في فوكوشيما في اليابان عام 2011. وما زالت بلدٌ مثل فرنسا تنتج أكثر من 70% من كهربائها عبر المفاعلات النوويّة.

والاهتمام بهذا الأمان لم يكن حقّاً كبيراً، بدليل اختيار مواقع لمشاريع تشييد المفاعلات مباشرةً على الفالق الجيولوجيّ الرئيسي في المنطقة، أي على البحر الأحمر، في حين هناك كثير من المواقع المناسبة البديلة غير المأهولة.

الأمان النوويّ شيء أساسيّ في مشاريع المحطّات الكهرنوويّة، وهو يخصّ أموراً كثيرة تتطلّب من البلد المعنيّ أن يصل بتطوّره التقنيّ إلى مستوى معيّن في مجالات متعدّدة في المعادن والميكانيك والكهربائيّات وأجهزة التحكّم عدا المواد الانشطاريّة.

أي أن يمتلك البلد قدرات على المستوى الصناعيّ، كما أنّ معاهدة حظر انتشار الأسلحة النوويّة فرضت إطاراً للتعامل الدوليّ فيما يخصّ هذا المجال. إطار معقّد يضع محدّدات يتطلّب العمل ضمنها قدرات دبلوماسيّة كبيرة، لأنّها تفرض علاقات استراتيجيّة مستدامة مع القوى العظمى لضبط دورة الوقود والنفايات النوويّة التي يُمكن استغلالها لأغراضٍ غير سلميّة.

هكذا تكرّس اتفاقية النوويّ الإيرانيّ شكلاً من أشكال العلاقة الاستراتيجيّة المستدامة بين إيران والقوى العظمى. ممّا يفتح المجال لإعادة تنشيط برامج الطاقّة النوويّة في البلدان العربيّة. تنشيطٌ كانت الإمارات قد استبقته عبر انطلاق تشييد مفاعلها الأوّل عام 2012، سابقة تركيا إلى النادي النوويّ.

في حين تخطّط السعودية ومصر والأردن وغيرها للانطلاق بمشاريعها الخاصّة. ما يعني أنّ هناك إمكانيّة حقيقيّة لضبط العلاقات الاستراتيجيّة بين دول المنطقة بين بعضها البعض، وبينها وبين الدول العظمى، وربّما ستخرج المنطقة من حالة عدم الاستقرار والعبث التي تعيشها أساساً لتأمين الكهرباء لمواطنيها.

 

* رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Email