صندوق زجاجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما زلت أسترق النظر إلى ذلك الصندوق الزجاجي الذي يتوسط الساحة الفاصلة بين مقهى «ستاربكس» ومبنى المسرح البلدي في مدينة إسن الألمانية، حيث يتوقف المارة أمام الصندوق الذي يماثلهم في الطول ويفتحون أحد أبوابه، ويتناولون من أرفّه كتاباً أو يعيدون إليها كتاباً، فقد كان الصندوق مكتبة عامة تضعها البلدية في أماكن عامة، كالساحات والمحطات والمطارات أو غيرها لتشجيع الناس على القراءة، ولتسهل لهم الحصول على ما يفيد ويسلي خلال انتظارهم القطار أو الحافلة أو خلال جلوسهم في الحدائق، مدركين أن فائدة القراءة تماثل فائدة الفيتامين «دال» تحت شمس النهار.

لفت نظري سيدة عجوز أخرجت كتاباً من حقيبتها، وأعادته برفق إلى رف علوي، ثم دارت حول الصندوق دورة كاملة وتناولت كتاباً آخر، مطّت قامتها الدقيقة ـ هكذاـ حتى وصلت إليه، ركزت نظارتها الصغيرة فوق أرنبة أنفها دفعتها إلى الأعلى - هكذا - وتفحصت العنوان، يبدو أنه استهواها، دسته في الحقيبة، ثم أغلقت باب الصندوق الزجاجي، وراحت تجر نفسها نحو الساحة العامة.

مشهد مستل من فيلم شديد الخصوصية، كأن المخرج أعطاه شحنة وجدانية توازي عشاق الحياة الذين يطلقون العنان لأصواتهم في البراري، كنت أراقب المشهد خائفاً من انزلاق كتاب على المرأة المسنة، فيصير حالها حال الجاحظ الذي قتلته كتبه، كانت حذرة، مدربة، وكأنها مالكة الصندوق.

هذا الصندوق ملك لهم، لهؤلاء الذين لا يجدون سبيلاً إلى المكتبة، أو الذين حالت صحتهم دون الوصول إليها، فكرة بسيطة تحميها أخلاق المؤسسة الاجتماعية التي تعمم الفائدة على الجميع، ويكفي أن يجد المرء أمامه صندوقاً زجاجياً عاماً للكتب ليدرك قيمة التحول الاجتماعي وليعرف الطريقة التي تشق بها الأمم طريقها، طريق سهلة يعرفها الجميع، لكن قلة من يسلكها.

Email