«التفكير بالعين» ومعايير الجمال الواقعية والمُدركة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحلل كتاب «التفكير بالعين»، لمؤلفه سعيد العفاسي، مدى تأثير الفنون بتنويعاتها على تفكيرنا ومشاعرنا. ويحكي عن ذلك في أربعة فصول: التفكير بالعين، فن جمالية التفكير، تفكيك بصري للغائب، الظاهر المرئي للعمل الفني.

إنَّ تفقداً سريعاً للنتاجات التي يدرسها العفاسي في كتابه، الغزير مادةً وصورة، يفيد أنَّه توقَّف واقعاً عند نوع بعينه من التصوير بوجه غالب؛ هو الفن التشبيهي: «figurative» سواء في الفن الأوروبي أو في غيره، بدليل عدم ذكره للفنانين التجريديين عموماً.

وهو ما يفسِّر في تناولٍ آخر لهذا الكتاب تجنبه لدرس الفن الإسلامي، فيما خلا ذكر طفيف للسجاد منه تحديداً، وهو ما يفسِّر في الوقت عينه انكبابه الشديد على فنون أخرى قديمة، فرعونية أو آسيوية جعلت من الشبيه والنظير أساساً لفنها. ثمَّ يناقش المؤلِّف كتاب مارلو بونتي «العين والروح»... وفي حال رسَّام المنمنمة، يجد انه يمكن الحديث عن وجوب رؤية أخرى على أنَّها برهانية.

وهناك عين كتابية تصوِّر ما لا تراه بالضرورة، وإنما ما تعرفه في صورة لازمة، وهناك عين كلامية من علم الكلام تأتي من الماوراء بما لا يعرفه غيرها وبما لا يصل إليه غيرها، وبما تصل إليه وتبلغه انطلاقاً من مكان الكشف، وهما عينان تتوليان بالتالي فضاء المعرفة والبرهان.

ولكي نفهم جيداً كيف تفكِّر العين أكثر، علينا أن نقترب إلى ما تراه العين، ونحاول دراسة ما يتبدى للعين، وهي مجموعة من الرموز والعلامات والأشكال والأحجام والألوان.

ويُسهب العفاسي في قراءة المنجز الفني -الغائب- للفنانة التشكيلية الفلسطينية رانية عقل.

ويعتني المؤلف بدراسة الظاهر المرئي للعمل الفني، ويعتبر أنَّ انفصال الواقعية عن التجريدية هي عملية اعتبارية نقدية، ولا يمكن قبولها لأسباب عديدة فكرية اجتماعية، ذلك أن الواقعية تتداخل مع التجريدية في كل عمل مهما كان، ولأنَّ الواقعية وحدها لا تكفي للحكم على القيمة، بل القيمة تأتي من إضافة الواقعية إلى مفهوم اجتماعي نقدِّمه إلى هذه الكلمة حتى لا تتحوَّل إلى شكل يسقط إذا لم يكن يسنده الموقف الاجتماعي الواعي الذي يوجهه على شكل صحيح، والفنان القادر على التعبير بأصالة ومراس، والقدرة على الصياغة المتميزة للواقع حتى يصبح فناً.

وعملية التحول التي نتحدث عنها الآن بدأت في بداية القرن العشرين، حين بدأ الفنان يدرك أنَّ ثمة خلافاً كبيراً وجوهرياً بين الواقع المرئي والواقع المُدرك، واكتشف أنَّ الظاهر المرئي لا يعكس قوام الواقع، بل أعراضه الخاضعة للتبدل والتغيير، وهنا بدأ يحطِّم المظهر الخارجي بحثاً عن الأعماق المستمرة رغم التبدلات الظاهرة، وبدأت تنهار نظريات الزمان والمكان، في العمل الواحد، ونظرية التشابه الظاهري بين الظاهر المرئي والعمل الفني، واستفاد الفنان من هذه الثورة ليحقق ثورة أخرى على مستوى المضمون، ليقدِّم العمل الفني المتطوِّر شكلاً والمعبِّر مضموناً عن العصر كشاهد عليه.

Email