قدمت فيها الروائية الفنلندية إيمي إيتورانتا نظرة فلسفية لموارد الطبيعة

«حرّاس الماء» لغة شفافة عن حروب المستقبل الزرقاء

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كتبت الروائية الفنلندية إيمي إيتورانتا تقول: «الماء هو الأكثر طلاقة بين كل العناصر، فهو يماشي القمر ويحضن الأرض، لا يخشى الموت في النار ولا العيش في الهواء، إذا خطوت داخلاً فيه برفق كان أشبه لك بجلدك، لكنك إن ضربته بقوة يمزقك».

وتمتاز فنلندا بوجود أكبر عدد من البحيرات العذبة في العالم. نشرت رواية «حرّاس الماء» باللغتين الفنلندية والإنجليزية سنة 2012، وجاءت بعنوان «ذاكرة الماء»، بينما حملت النسخة العربية، والتي ترجمتها دار المنى السويدية إلى اللغة العربية سنة 2014 عنوان «حرّاس الماء».

طقوس ومعالم

فمن الماء كل شيء حي، وشحه على كوكبنا لا يضاهيه شح أو أزمة، لأنه ليس هناك بديل عنه، رغم أن الماء متوفر بكثرة اليوم ويغطي ثلثي كوكبنا، ولكنه لا ينتمي لأحد بعينه.

وتقدم رواية «حراس الماء» حروب المستقبل الزرقاء، والتي ستكون على أساس البحث عن مصادر المياه، كما سيشكل شحها تحديات جمة، من خلال دمار وصراع مفترض ليس له مثيل تصوره عالم الرواية السردي، والعالم الافتراضي الذي بنته إيمي إيتورانتا في محله، خاصة في زمن الحروب، والقتل وجنون التوحش، وتقسم الروائية إيمي روايتها إلى ثلاثة أقسام، وهي:

حراس الماء، الفضاء الأخرس، والدائرة الزرقاء. وفي الجزء الأول تقتطع جزءاً من كتاب مفترض «طريق الشاي» بما يعرف أنه من القرن السابع من عصر تشيان القديمة، حيث يفترض إعداد الشاي طقوسا خاصة، كما يتطلب زياً خاصاً، وله معلموه ومريدوه، والحفاظ على طقوس شرب الشاي تمثل قمة المتعة. ولهذا، فمعلمو الشاي لهم مكانتهم الخاصة.

ينابيع الأسرار

الروائية الفنلندية إيمي إيتورانتا قدمت نظرة فلسفية لموارد الطبيعة، فبطلة الرواية نوريا تلتزم بتعويذة الشاي: «أنا حارس الماء، أنا خادم الشاي، أنا راعي التغيير، لن أقيّد ما ينمو، لن أتمسك بما ينبغي أن ينهار. طريق الشاي طريقي»، يقابل كل ذلك صراعاً للسيطرة على منابع الماء العذب، وتتدخل القوى المسلحة لتوزيع كميات قليلة منه بالكاد تحافظ على حياة الناس.

لتبقى الحاجة ماسة له. وتعلـّـمت نوريا صنعة الشاي من والدها كيشو، وكانت أول فتاة تتقن هذه الصنعة بالرغم من أنها امتياز خاص بالرجال، ويدلها والدها قبل وفاته على سر كبير حين يقودها إلى مكان عبر أحد الكهوف إلى ينبوع ماء عذب ويطلب منها الحفاظ على السر.

حفل الشاي

كان المعلم كيشو ينعم باستهلاك الماء العذب سراً من الينبوع، وهو ما أثار شكوك القائد تارو حتى أنه قال: «لا أستطيع سوى الإعراب عن دهشتي من استطاعة معلم الشاي في مثل هذه القرية النائية إنفاق الماء بكل هذا السخاء»، ثم أضاف موجهاً كلامه إلى الرائد بولين:

«إن حفل الشاي بكل أشكاله في العالم الحالي ليس أكثر من مجرد أثر قديم غير أصيل ومرتبك لأشكال العالـَـم الماضي التي طواها النسيان. لذلك سيكون من الطيش الزعم بأن الحفاظ على التقاليد يتطلب إهدار الماء».

ودافع كيشو عن مهنته التي نقلها لابنته قائلاً للقائد تارو: «سيدي، أؤكد لكم أنني أمارس مراسم الشاي تماماً كما تم تمريرها عبر عشرة أجيال منذ انتقل أول معلـّـم شاي إلى هذا البيت.

لم يتغير فيه أدنى تفصيل». حدث هذا بينما لا يزال كثيرون يعتقدون أن جعل المرأة معلم شاي هو شيء يخالف التعاليم وخاصة المقدسة منها. بينما والد نوريا يريد ألا تنقطع سلسلة الأسرة من معلمي الشاي، مخالفاً لرأي أم نوريا التي تطمح أن تدرس ابنتها اللغات أو الرياضيات.

دروس الماء

ما يوزع من حصص الماء بالكاد يحافظ على بقاء الناس أحياء، مع صرامة في تطبيق القانون، ومَن يخفي سراً حول الماء سرعان ما تلطخ بابه بدائرة زرقاء ويتم بعدها إعدامه، والخوف مطبق على الجميع، وحين شكوا ببيت معلم الشاي كيشو داهموه واستبقوا ستة جنود لمدة أسبوعين حتى مع عدم وجود أدلة على وجود مياه خارج الحصص وهم يفحصون كل جزء من البيت بآلاتهم وطرقهم، بل ويبحثون حتى في كتب إعداد الشاي لعلهم يعرفون سراً عن الماء مخبأ بين سطورها. قالت نوريا عن ذلك:

«حضور الجنود أقام جدرانا غير مرئية بيننا، لم تكن لدينا الشجاعة لتحطيمها.. في أحلامي كنت أشاهد الماء المخبأ في الصخر، وفي منتصف الليل أستيقظ على الشعور الخانق في صدري بأن صوت الينبوع انتقل بطريقة ما، مستحيلة، وقطع الطريق من التل إلى البيت. كنت أستمع إلى الصمت الساكن وقتاً طويلاً، حتى يغرقني النعاس مرة أخرى».

وبعد أن اتضح أنه لا توجد مياه جارية في المنزل أو الحديقة، غير تلك التي تجري في أنبوب المياه القانوني، غادر الجنود بلا اعتذارات وبلا تعويض، وقالت والدة نورية: «سوف يعودون، لن يستسلموا ولن ييأسوا أبداً».

قوى شافية

بقت نوريا وحيدة بعد وفاة والدها وسفر أمها للدراسة في الجامعة، كان عليها أن ترعى نفسها وتحفظ سرها، ولكنها أطلعت صديقتها المقربة سانيا على سر الماء، واستحمتا بفرح ومرح بالماء الوفير، وأخبرتها عن الينبوع المخبأ مثله مثل الأنبوب المتصل به، ونوريا متقيدة بما تعلمته من أبيها في فن إعداد الشاي الذي أخبرها يوماً قائلاً:

«إن لكل معلم شاي في العالـَـم القديم ينبوعاً يعتني به في أرضه، كانت للينابيع خصائص مختلفة، واحد ينتج ماء بقوى شافية، ماء آخر يهب طول العمر، وماء الينبوع الثالث يعطيك راحة البال. كانت هناك مذاقات مختلفة للماء. كان الناس يأتون من أماكن بعيدة ليستمتعوا بشاي مصنوع من ماء ينبوع زلال. كان واجب معلم الشاي أن يهتم ببقاء الينبوع نظيفاً وغير مبالغ في استغلاله».

ذاكرة الماء

شح المياه دفع الناس إلى شرب المياه الملوثة، مع هوس البحث الدائم عن المياه النظيفة والينابيع العذبة، وهذا خلق معارضة أن يكون الماء تحت سيطرة الجيش، ولهذا أيضاً فإن المراقبة على معلمي الشاي كانت أكبر لأنهم يعرفون ويفهمون ماهية الماء، وأنهم ربما يحتفظون بسجلات عن أماكن تواجده.

ففي كتب معلمي الشاي قصص مثيرة عنه، تقول إحداها: «إن الماء له وعي، إنه يحمل في ذاكرته كل شيء حدث في أي وقت في هذا العالـَـم منذ زمن ما قبل الإنسان حتى هذه اللحظة التي تنقش نفسها في ذاكرته حتى وهو يمر.

الماء يفهم حركات العالـَـم ويعرف متى يكون مطلوباً وأين ثمة حاجة إليه. أحياناً يجف ينبوع أو بئر بلا سبب، بلا تفسير. كما لو أن الماء يهرب من إرادته نفسها، منسحباً إلى غطاء الأرض ليبحث عن قناة أخرى. يعتقد معلمو الشاي أن هناك أوقاتاً لا يرغب فيها الماء بأن يُعثر عليه لأنه يعرف أنه سوف يُقيّد بطرق تذهب ضد طبيعته».

دوائر زرقاء

لم يدم السر طويلاً، فقد تبع يوكارا نوريا وسانيا إلى فم الكهف وكمن لهما هناك ثم فاجأهما، ولم يعد السر كلاّ متماسكا، طلب يوكارا خمس قرب مليئة بالماء.

وسرعان ما تعذر أن يكتم السر عن الآخرين، فكرت نوريا وسانيا بمغادرة القرية وأعدا جوازين مزورين بعد أن أصبحت الحياة في حضن الخوف، اشترتا عربة لحمل متاعهما، فليس هناك ما هو أكثر إلحاحاً من الأمل، ولكن الجيش داهم بيت نوريا قبل مغادرتها، ووضع الدائرة الزرقاء على الباب، وهذا يعني أن ما سيجري لها كما حدث للآخرين قبلها.

كتبت نوريا عن الينبوع المخفي في فترة حصار بيتها في الأوراق الفارغة من أحد كتب الشاي، ولم تستجب لمساومات القائد تارو في أن يمنحها حياة مقابل أن تعمل لديه، وكتبت: «أستطيع أن أختار نهايتي، النهاية التي أريد!!..» بينما تمكنت سانيا من الفرار والوصول إلى أم نوريا لتخبرها بما حلَّ بالقرية وموت نوريا.

خيال علمي

رواية «حراس الماء» تغوص في عوالم من الخيال العلمي، وفق رمزيات تاريخية مبسطة، وتقدم تصوراً لأزمة شح المياه بشكل سردي، وكيف قد يتم التعامل مع هذه الأزمة التي تهدد مستقبل كوكب الأرض، وتتدفق الرواية من خلال روايات بطلتها من خلال متواليات تلمح إلى حروب الماء، بوصفها حروباً للمستقبل، وقد تكون أكثر شراسة من الحروب التي تسبب فيها البحث عن الموارد، وغير ذلك.

إضاءة

الروائية إيمي إيتورانتا كاتبة فنلندية ولها مجموعة من الأعمال الروائية، يتميز سردها بالبساطة والعمق، وفازت أعمالها بالعديد من الجوائز الأدبية الرفيعة.

Email