«السقا مات».. لا لم يمت! ما بين الفيلم السينمائيّ والرواية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«السقا مات» حكاية رمزية عن علاقة الإنسان بالموت وما يتركه من أثر في النفس، لا سيّما إذا كان الميت قريباً أو حبيباً، وهذه بالضبط فكرة العمل الروائيّ الذي ألّفه الكاتب ووزير الثقافة المصري السابق يوسف السباعي، وصاحب الأعمال المشهورة: أرض النفاق، ردّ قلبي، نحن لا نزرع الشوك، بين الأطلال. وقد اعتبر النقّاد أن روايته «السقا مات» من أهم أعماله الروائية، وإحدى روائع الأدب المصري بما تميّزت به من حكمة وتبصّر في الحياة وشؤونها.

وقد ازدادت الرواية أهمية مع تصدّي المخرج المبدع صلاح أبو سيف لإخراجها في عمل سينمائيّ برعاية وإنتاج العلامة البارزة يوسف شاهين، ومع اختيار موفّق لطاقم التمثيل: فريد شوقي بدور شحاته، عزّت العلايلي بدور شوشه السقا، شويكار بدور عزيزة، أمينة رزق حماة -شوشه، ناهد جبر- الزوجة المتوفاة أمينة، تحية كاريوكا -المعلّمة، شريف صلاح الدين -الطفل سيّد ابن شوشه.

وكسائر أفلام الحياة الشعبية المصرية تدور الأحداث عام 1921 في حي شبه مغلق اسمه حيّ الحسينية يتزوّد أهله بالماء وفق نظام توزيع حكومي، حيث كلّ صباح تجتمع النسوة و«السقاؤون» للتزوّد بالماء من الصنبور الحكومي الذي يعمل عليه موظّف جلف وشرير يعاملهم معاملة قاسية لمجرد أنه يفتح ويغلق الصنبور..

ويعمل عزت العلايلي على توزيع الماء بالقرب للبيوت المجاورة بما في ذلك القصر أو الفيلا الكبيرة التي تعرّف فيها على زوجته التي أحبّ أمينة، فتزوجا ولكنها في ظلّ تلك الظروف الصعبة ماتت أثناء الولادة مخلّفة ابنه الوحيد سيّد.

جوانب وكشف

بمقدار ما تبدو الأحداث واقعية في الحيّ حيث المآذن ترفع اسم الله ويستيقظ الناس للوضوء والصلاة وتناول الفطور قبل الانطلاق إلى العمل، ومن خلال دور شوشه السقا في توزيع الماء، تكشف الكاميرا جانباً من العلاقات الاجتماعية لأسر ومجتمع الحيّ، إلاّ أنّ ما استعرضناه للتوّ هو السطح الظاهر للعلاقات والأشياء التي وعبر تشابكاتها المختلفة ستؤسس البنية العامّة للعمل والتي ستبدو لنا رمزية وتنطوي على دلالات تبتعد عن الظاهر بمقدار..

وذلك بدءاً من العنوان الإخباري «السقّا مات» بما تستنبطه العبارة من تضاد ما بين الريّ كفعل إحيائي والموت، ومن خلال الشخصيتين الأساسيتين: شوشه السقّاء وشحاته الحانوتي (المطيباتي)، فالأوّل يوزع المياه ولكنه نموذج للكائن الميت العواطف والمشاعر، فهو مذ غادرت زوجته الحياة يعيش بالخيال معها، ولم ينقطع لحظة عن تذكّرها، وبالتالي فإنه لا يأبه للعالم من حوله ولا يفكّر بالنساء بالرغم من أنه يبدو محبوباً دائماً.

لحظة ومفارقات

الروايات العالمية التي تناولت هذه اللحظة المفارقة من موت الحبيب وأثره في الشخصية كثيرة، ونذكر منها رواية «الجهل» لميلان كونديرا، حيث يتابع القارئ جوزيف الطبيب البيطري الذي ماتت زوجته، ولكنه ظلّ وفياً لها، بل إنه قرر ألاّ يدعها تدخل دائرة النسيان، فاختار أن يعايش الميتة وكأنها لم تغب عنه، فها هو كلّ يوم يستعيد تفاصيل حياته معها ويعايشها كما لو كانت حيّة..

وبذلك فإنه يشبه شوشه السقّا الذي طالما ركّزت عليه الكاميرا جالساً قرب النافذة ذاهباً في التداعي لتلك اللحظات السعيدة التي عاشها مع أمينة في جملة من المشاهد المدروسة بعناية من قبل المخرج وتقنيي الصورة: التعارف، الحبّ، الزواج، السعادة المشتركة. فهي حاضرة دائماً وكأنها لم تمت، وفضلاً عن ذلك كان بدوره يتهرّب من تذكّر مشهد موتها، ويتهرّب من سيرة الموت عموماً إلى أن اصطدم بشحاته المطيّباتي.

وجه آخر

شحاته الحانوتي أو المطيّباتي الذي هبط الحيّ وعالم شوشه السقّا المغلق سيبدو لنا الوجه الآخر للسقاء شوشه، فهو بالرغم من أن يتعيّش من مهنة دفن الموتى ويعايش الموت كلّ يوم، ولكنه لا يخافه وإنما يسارع إلى الملّذات ويعيش حياة وجودية خالصة، وكأننا بالكاتب يتوغّل بعيداً في ثنائية موت/حياة، الموت الذي شغل الإنسان منذ بداية وجوده، ولا سيّما في التراث الفرعوني المصري وطقوس الموت التي أحيوها على مرّ الزمن.

المفارقة في الفيلم أن شحاته الحانوتي هو الذي يموت، لنتساءل عن معنى هذا الموت؟ فالعنوان يشير إلى موت السقاء ويبقى هذا الانطباع حتّى اللحظة الأخيرة من الفيلم، ولكن صلاح أبو سيف لا يدفع به للموت ليأتي السؤال: ما معنى ذلك إذن؟!

أيريد صلاح أبو سيف أن يقول لنا إن شوشه السقا ميّت من زمان، وأنّ المقصود بالسقّا هو شحاته الحانوتي الذي تفلسف كثيراً حول الموت وتحدّاه مراراً ومات وهو في عزّ تألقه ونشوته وانشراحه، وبذلك فإنه هو (السقاء) الذي يسعد أرواح الناس ويشحذ فيهم الأمل والرغبة في الحياة..

كما فعل في حواراته الطويلة مع شوشه السقّا الذي استجاب أخيراً وغادر موته بخطوة واحدة نحو الحياة، وذلك بعزمه على الزواج مجدداً من بنت الجيران التي تودّه وترغب به زوجاً، وهو أمر قابل للتأويل في الاتجاه الذي ذهبنا إليه بالنسبة لرؤية صلاح أبو سيف، غير أن رؤية السباعي تختلف وفق زاوية رؤيته بأن الإنسان مرشّح للموت منذ ولادته..

وبالتالي فإن من يخافه أو لا يخافه سيلحق به بدليل أن شحاته وشوشه ماتا.

شجرة «التمر حنة» الرمز الضارب في الوجدان الشعبي كشجرة مباركة من أشجار الجنّة، وفوائدها التزيينية وديمومة خضرتها تتموضع بدورها في المكانة ذاتها بالنسبة لشوشه السقا، إذ زرعاها سوية وهو يسقيها الماء كلّ يوم كي تبقى حيّة أو شاهداً على ديمومة الحياة في خضرتها وعطورها، مثلها مثل سيّد ابنه، الطفل الصغير رمز الجيل المقبل الذي سيواصل عملية الفعل الإحيائي عبر الماء الذي هو سرّ الحياة.

منافسة

أمينة هي الزوجة التي مثّلت دورها الفنانة ناهد جبر بأداء محبب ولطيف تكامل مع دور عزّت العلايلي بأدائه الصادق كمحبّ وأب حنون، ولكنّ هذا الأداء سيواجه منافسة كبيرة مع فريد شوقي الذي نعتقد أنه قدّم دوراً قلّما شاهدنا مثيلاً له في تاريخه السينمائي، ومع ذلك كان الفنان عزّت العلايلي ندّاً يستحقّ أداؤه الإشارة والتنويه لجملة المواقف المتناقضة التي أدّاها.

وبطبيعة الحال قدّمت الشخصيات المساندة أفضل أدوارها أيضاً: أمينة رزق- الحماة الضريرة، الطفل سيّد، شريف صلاح الدين الذي قدّم دوراً لا يمكن نسيانه.. فضلاً عن مدى حضور الفنانة تحية كاريوكا بدور المعلّمة، وشويكار وسائر فريق العرض من فنيين ساهموا جميعاً بتقديم هذه التحفة الرائعة بتوقيع صلاح أبو سيف.

Email