«الفن والاستشراق» النسغ العربي جذوة التشكيل الأوروبي الحديث

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان موضوع «الشرق والاستشراق»، ولا يزال، الشغل الشاغل لعدد كبير من الفنانين التشكيليين والنقاد والمؤرخين والباحثين الجماليين في الشرق والغرب، كما كانت النتاجات الفنيّة التشكيليّة التي أفرزتها ظاهرة الاستشراق، موضع تحليل وبحث وتقييم، كون غالبيتها جاءت من وحي الخيال والأساطير وعالم «ألف ليلة وليلة»..

حيث الحياة التي صوّرتها مكرسة لملك يتمتع بالسلطان المطلق على شعبه القائم على خدمته. ونتبين، حسب توصيف الدكتور عفيف البهنسي، أحد البحاثة الجماليين المعروفين، في سوريا والعالم العربي، أنه وبناءً على هذه الصورة، نسج الخيال الغربي حكايات وقصصاً أقرب لعوالم مشتهاة منها إلى الواقع، ووضع لوحات ساحرة عن الشرق الذي يعني الأرض السعيدة.

كما رأى آخرون أن هذا الشرق هو مهد الحضارات ومنبت الفكر. يشدد الدكتور البهنسي في جملة مؤلفاته، خاصة «الفن والاستشراق»، على تميز هذه المساهمة العربية والإسلامية في فنون العالم وحضارته. ويتوقف في كتابه، مطولاً، عند الشرق الممتزج بالأساطير والأوهام،..

ولكنه يراه أيضاً، الشرق الساطع، الذي أمدَّ الإنسانيّة بحضاراته بالكثير من العطايا التي تبقى موضع العرفان والتقدير، ومن بينها: الحضارة العربيّة التي يرى غوستاف لوبون، أنها تمتلك أصالة لا سابق لها، وأنه ما من شعب استطاع مجاراة العرب بالوقت القصير الذي أنجزوا به هذه الحضارة، ولا بالوفرة الهائلة لأعمالهم واكتشافاتهم العلميّة التي ازدادت وتيرتها بعد ظهور الإسلام الذي أكد أن من سعى إلى العلم، سار في طريق الله.

يقول البهنسي إن العرب اتصلوا بالحضارات العالميّة الكبرى التي كانت موجودة، كالإغريقيّة، ثم أصبحوا الوسطاء الذين نقلوا هذه الحضارات إلى العالم الغربي، في العصور الوسطى، موسعين بذلك الأفق الثقافي للغربيين الذين مارسوا حرفة النقل عنهم، كما تأثروا كثيراً بكتبهم، لاسيّما: «ألف ليلة وليلة»، مقامات الحريري، رسالة الغفران.

إذ اندفع الفنانون والشعراء والفلاسفة والأدباء الغربيون وراء الشرق، فكتب شاتوبريان عن عبقريّة المسيحيّة. وتحدث لامارتين عن رحلته إلى الشرق. وظهر فيكتور هيغو في مشرقياته شديد الالتصاق بهذا العالم الساحر. إلا أن أعظم الذين تأثروا بالشرق كان غوته. وتبدى ذلك في ديوان شعره الشهير (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) وجعل عنوانه باللغة العربيّة على الغلاف.

يشير البهنسي إلى أنه بدأت أسرار الشرق تتكشف للغربيين، تباعاً، وهو شرق المعرفة المكدسة منذ حمورابي وايمحوتب وامرئ القيس وابن سينا... إلخ. ومع تكشف هذه الأسرار، ظهر مستشرقون في الفقه الإسلامي والأدب والفن، تواصلوا مع الشرق العربي عن طريق المبادلات التجاريّة أو الثقافيّة، أو الدبلوماسية، وعن طريق الحروب أيضاً.

ومنذ بداية القرن التاسع عشر، تهافت الفنانون التشكيليون الغربيون على زيارة شمالي إفريقيّا، مدفوعين بهاجس البحث عن طبيعة وحضارة جديدتين، ما أن تكشفتا لهم على حقيقتهما، حتى انعكس ذلك على الاتجاهات الفنيّة التي كانت سائدة آنذاك، ومنها الانطباعيّة التي زار عدد من روادها البارزين (أمثال: مونيه، بازي، ديغا)، بعض الدول العربيّة.

هذا التحوّل الفني الغربي نحو الشرق، حدث بتأثير عوامل عدة، منها: مدرسة الفنان دولاكروا العربيّة. أما مظاهر هذا التحوّل فتبدت في مقومات ضمن العمل الفني الغربي: في الرسم (الخط) واللون والرمز وبعض المفردات والعناصر المستلهمة من الفن الإسلامي، البيئة العربيّة التي تواصل معها الفنانون الغربيون.

الروابط الروحيّة

يلفت د. البهنسي إلى أن العديد ممن ساهموا في تأسيس مدرسة فنيّة، أكدوا وجود أواصر راسخة بين هذه المدرسة والمفهوم العربي الشرقي للفن. بل ذهب البعض إلى اعتبار أن هذه المدرسة كانت اتجاهاً شرقيّاً محضاً. إذ عاش الفنانون جميع ظروف الفكر الوحداني الذي ظهر في العالم العربي، والذي يقوم على تعرية الإنسان من وجوده المادي، والاتصال بالمطلق عن طريق الرياضة الروحيّة التي تمر عند الصوفيين بمراحل، منها:

التحرر من شهوات الجسد المادية، التأمل، العلم الذاتي المباشر، الوجد، اتحاد النفس بالله الواحد اتحاداً تاماً. من جانب آخر، كان الحنين يخفق في قلوب فئة بارزة من الفنانين لزيارة الأراضي المقدسة.. وزار أكثرهم البلاد العربيّة (خاصة فلسطين) مهد السيد المسيح..

حيث تفاعلوا مع واقع الحياة التي كانوا يتصورونها في خلواتهم وأحاديثهم، وحيث الطقوس والمظاهر التي ربما تتجاوز طقوسهم ورموزهم. وفي السياق، زار مصر وفلسطين وسوريّا الفنانان إميل برنارد وموريس دوني. وأتقن بول سيروزيه العربيّة، واهتم بالفلسفة الشرقيّة، كما زار تونس والجزائر: بييرونارد، أحد رواد المدرسة.

يرى البهنسي أنه كانت زيارة ماتيس للبلاد العربيّة، واستشرافه على معالم الحياة فيها: من نقاط التحوّل الفني الغربي نحو الشرق، والذي تابعه من بعده الفنانان: بول كلي وبابلو بيكاسو. إذ بحث ماتيس في البلاد العربيّة عن السحر والنقاوة والهدوء، وتأثر بقوة بالمناخ العربي وتقاليد العرب.

وعاش بعمق حالات انجذاب نحو مظاهر وآثار الفن الإسلامي الذي استمد منه نسغ فنه الذي سعى من خلاله إلى التعبير عن المطلق والسرمدي، لهذا كان ماتيس السبّاق لفهم الفن العربي وكشفه وتطويره وتعميمه والتعريف به في العالم أجمع، متخطياً بذلك جميع العصبيات، وظل فنه يتغذى من الفن العربي حتى آخر يوم في حياته.

بيكاسو العربي فناً وجذوراً

يوضح البهنسي أنه لا يزال الجو العربي مخيماً حتى اليوم على إسبانيا. ففي (ملقا) تبدو الآثار والصناعات العربيّة قائمة حتى الوقت الحالي. وبالقرب من (القصبة) (وهي قلعة عربيّة باقية حتى اليوم فيها)، ولد بابلو رويث بيكاسو عام 1880، ونشأ حاملاً معه بذرة الأجداد، شأنه شأن سلفادور دالي وجوان غري اللذين يفتخران بنسبهما إلى الحضارة العربيّة.

ويقول البهنسي إن بيكاسو كلمة تكاد تكون من أصل غير إسباني، ذلك أنه لا يوجد قط في اللغة الإسبانيّة: (SS) مضاعفة. ولذلك فهو يزعم أن هذه التسمية هي اسم أمه سليلة الأندلسيين مُحرّفة عن اسم عربي، ومن المحتمل أن هذا الاسم هو (بي قاسم) لاسيّما وأن اسم (أبو قاسم) أو (أبو القاسم) كان شائعاً جداً لدى العرب الأندلسيين، لأنه كنية الرسول العربي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم).

وترجم الإسبان هذا الاسم دائماً مع بعض التحريف فأصبح (أبولكاسيس): Aboulcasis.

وبمقارنة بسيطة بين بعض أعمال بيكاسو وبعض الرسوم العربيّة، تتضح لنا القرابة المدهشة بين تحريفات بيكاسو وتجريديات الفن الإسلامي. فلوحة (الجاموس) الموجودة في كتاب (عجائب المخلوقات) للقزويني تحمل المبادئ التي نهجها بيكاسو، نفسها، في لوحتي (الصداقة) و(آنسات أفينيون).

بين التجريديّة والرقش العربي

يقول عفيف البهنسي، إن العقيدة الوحدانيّة الراسخة في روحيّة الإنسان العربي، فرضت على الفن العربي مبدأين: الأول هو (تصحيف الواقع). أي تحوير معالمه الخاصة، وتعديل نسبة أبعاده وفق مشيئة الفنان. والمبدأ الثاني هو: إغفال الشكل الواقعي. أي الابتعاد عن تشبيه الشيء بذاته.. ومن هنا تحديداً ولد الرقش العربي الذي هو عبارة عن أشكال تجريديّة لا علاقة لها بالواقع.

والاتجاه نحو الرقش العربي، يرجع إلى عدم الاعتقاد بديمومة الأشياء.. وهو اعتقاد قديم. ولهذا لم يعد من السهل تناول الفن التجريدي بالدراسة والتشخيص دون الارتكاز في ذلك على المبادئ الأساسيّة التي قام عليها الفن العربي. ويخلص البهنسي إلى مجموعة نتائج، يرى فيها أن الشرق بمفهوم الغربيين، كان يمتزج بالأساطير..

ولكنه فعلياً، هو من أمدَّ الإنسانيّة بكثير من العطايا الحضاريّة. وكذا: أصبح العرب وسطاء بين الحضارات القديمة والحضارة الحديثة، رأى غوته أن المولى أنعم على العرب بأربع نِعَم: العمامة والخيمة والحسام البتاّر والقصيد. ويشير الباحث إلى أن التحوّل الغربي نحو الشرق حدث بتأثير مدرسة دولاكروا العربيّة وأزمة الفن الغربي الحديث. كما أن الرقش العربي هو أساس التجريديّة الحديثة، إذ استقى روادها فكراً متطوراً من عالمنا العربي.

المرة الأولى

1779

ظهرت عبارة (استشراق) بالإنجليزيّة.

1799

ظهرت عبارة (استشراق) بالفرنسيّة.

1838

تبنت الأكاديميّة الفرنسيّة كلمة استشراق.

معانٍ

شمل الاستشراق بدلالاته، حضارة وآداب الشرق الإسلامي وكذا لغاته وثقافته.

الاستشراق حركة استكشافيّة واكبت الحملات الاستعماريّة لبلدان الشرق.الشرق في الإنجليزيّة يعني توجيه الحواس نحو اتجاه، أو علامة ما في مجال: الأخلاق، الاجتماع، الفكر، الأدب. ومن ثم توجيهها نحو اهتمامات شخصيّة في المجال الفكري أو الروحي.الشرق في الفرنسيّة يعني: وجّه أو اهتدى أو أرشد.الشرق في اللاتينيّة : يتعلم أو يبحث.

Email