«الحرام» ليوسف إدريس .. ملحمة المكافح من أجل الحياة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تعتبر رواية الحرام ليوسف إدريس، نموذجاً مثالياً للكشف عن زاوية تميز رؤيته ومقاصده الفكرية التي تنحاز إلى الفقراء والفئات الاجتماعية المهمّشة، وبخاصة فئة الفلاّحين، الذين عانوا من ظلم واضطهاد لا مثيل لهما في زمن الملَكية والباشوات. وهذا فضلاً عن أسلوبه وجملة التقنيات التي وظّفها في رائعته تلك، لتتبوّأ مكانة راقية بين أهم مئة رواية عربية، بحسب تصنيف اتحاد الكتّاب العرب.

الفيلم

قدّمت السينما من أعمال يوسف إدريس، وإلى جانب رواية الحرام، الروايات التالية: «العيب»، «قاع المدينة» «الندّاهة»، «حلاوة الروح»، «العسكري شبراوي». فضلاً عن عدد الأفلام القصيرة والمسلسلات الدرامية، وفيما يبدو لنا أن فيلم «الحرام» يأتي في مقدّمها جميعاً، نظراً لأن هنري بركات مخرجه، ولأن الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة، أعدّ السيناريو..

فضلاً عن الإبداع الأدائي لفاتن حمامة والفنان الكبير زكي رستم.. إلى جانب عبد الله غيث وغيره الكثير، ولكنهم ليسوا وحدهم بطبيعة الحال، وإنما فريق العمل بكامله يستحق الإشادة: التصوير في رحاب الريف المصري، الموسيقى المختارة بعناية، والفلكلور الفلاحي المصري، سواء في الأغاني أو الخلفية العامة للفيلم والإدارة الناجحة لبركات.

الحرام

اسم الرواية يمنح قارئه مفتاحاً أوّلياً للدخول في أحداثها والكشف عمّا تخبئه، لا سيّما أن مفهوم «الحرام» في الوعي الشعبي مستمد من الشريعة الإسلامية..

وهو كلّ فعل يتجاوز فيه فاعله حدود الحلال البيّن، الذي شرّعه الله، ومن هنا، فإن هذا التجاوز في الرواية تمّ بعدما اغتصب أحد أبناء القرية «عزيزة» (المرأة الفقيرة المتزوجة وأم لطفلين، وزوجة رجل مريض) كذئب بشري، والنتيجة، بطبيعة الحال، كارثية، حيث تحمل منه وتبدأ معاناتها الجحيمية.

تبدأ أحداث الرواية والفيلم، عندما يعثر الخفير عبد المطلب على جنين حديث الولادة مرميّاً جانب شجرة كبيرة، وسرعان ما توقّع أنه ابن سفاح أو حرام، لأن الأجنة الوليدة لا ترمى إلاّ لسبب كبير..

وهو «الحرام»، غير أن يوسف إدريس لم يكن في اختياره هذا العنوان قاصداً إدانة المرأة المغتصبة، بمقدار سعيه إلى إدانة الثقافة الاجتماعية التي تنسى الجاني، وتتهم المجني عليه، فضلاً عن العلاقات الطبقية الظالمة لمجتمع «باشوات» ذلك الزمان، الذين لا تراهم في الصورة، لكنهم موجودون في الخلفية، عبر ممثّليهم الذين مارسوا كلّ أصناف القهر على تلك الفئة المسمّاة عمّال «التراحيل»..

بؤساء ذلك الزمن، الذين يشكّل العمل الموسمي في قطاف القطن، مصدر رزقهم الأساسي، فتلتمسهم يعملون من الصباح وحتّى المساء باستسلام كلّي لكلّ ذلك الجبروت والاضطهاد الذي يمارس عليهم، لأجل أن يحصلوا على القروش القليلة التي ستعيل أسرهم بخبز مغمس بالدم.

اشتباك الفقراء

«الغرابوة» هو الاسم الذي سيطلق على عمّال التراحيل من قبل أبناء القرية التي جاؤوا إليها، وهم في ذلك متّهمون، حتّى ولو يفعلوا أي فعل يؤذي حياتهم المستريحة نسبياً، وبذلك فإنهم يضاعفون هذا الاضطهاد، لا سيّما إذا حدث حادث جلل، مثل: العثور على جنين مخنوق في قريتهم، فتشتعل الحمّى الانتقامية في اجتماعهم، ويطالبون بإبعاد عمّال التراحيل الذين جلبوا العار لقريتهم.

وسط هذا الاشتباك العنيف، تأتي الحكومة، ممثلة بالبوليس، لتأكل وتحمل ما أمكنها من دجاج وأرزاق الفلاحين، ثمّ تسجل الحادثة ضدّ مجهول، وتمضي مولية ظهرها للمشكلة الكبيرة، ألا وهي مشكلة اغتصاب المرأة والبحث في أسبابها ومعاقبة الجاني، فما يبقى أمام المجتمع حلّ مشكلته بعيداً عنها.

الشخصيات

الشخصيات، بطبيعة الحال، منتقاة بعناية، لتشير إلى هذا الواقع القاسي، وتأتي «عزيزة»، التي مثّلت دورها فاتن حمامة بإبداع آسر، ويمكننا اعتبارها رمزاً للفلاحة المصرية، وللأمومة بعامة لجملة التضحيات التي قدّمتها في سبيل أسرتها، وهي بذلك رمزٌ إحيائي دأبت المرأة على تعزيزه، بالرغم من جملة الضغوط الممارسة عليها، بجعل مكانتها في مرتبة أدني، ومطالبتها على الدوام للرضوخ للشرط الذكوري المتناقض تجاهها.

وبذلك سيعبر الفيلم عن هذا الانكسار التاريخي للمرأة، في ظلّ العلاقات الجائرة والجاهلة لموقعها ومكانتها، ومجاميع النساء العاملات في الحقل، إلى جانب الرجال وسياط المراقبين تلسع ظهورهنّ، وتحمّلهن لكلّ هذه المشاق، إنما نتيجة طبيعية للروح الإحيائية التي يحملنها، ربّما في الجينات، فتجدهنّ في الليل تصدح أناشيدهنّ في الحقول، يصفّقن ويغنين ويرقصن، ليروّحن عن أنفسهنّ ويستعددنّ لليوم المقبل.

الزوج عبد الله، الذي مثل دوره الفنان عبد الله غيث، نموذج مشرّف للفلاح المصري المحبّ لأسرته، والمغلوب على أمره، نتيجة للعلاقات الظالمة الجائرة، فهو عامل يومية، وعمله يتطلّب صحّة وقوّة، لكي يواظب على إعالة أسرته، لكنه يصاب بـ «البلهارسيا»، المرض القاتل والشائع في الريف المصري، فيقعده عن العمل، لتنهض زوجته عزيزة بحياة الأسرة..

وهذا الإخلاص المتبادل بين الزوجين، نموذج يقدّمه يوسف إدريس لما يمكن تسميته بوحدة المشاعر، واستيقاظ الضمائر التي تظهر عفوياً عند الأخطار، وأبلغ مثال على ذلك التعاطف الشعوري الكبير مع «عزيزة»، عندما بدأ فلاحو القرية يطالبون بطرد «الغرابوة»، والنموذج الأبرز لهؤلاء المهمّشين هو «المعلّم عرفة»، الذي مثّل دوره الفنان عبد العليم خطّاب ببراعة عكست جانب الشهامة فيه.

غير أنّ شخصيّة مأمور الزراعة، فكري أفندي، ستوازي بطلة الرواية والفيلم «عزيزة»، ومثّل دوره باقتدار الفنان الكبير زكي رستم، باعتباره المأمور أو الناظر المسؤول عن أملاك الباشا، إلاّ أنه سطّر موقفاً فردياً مشرفاً في التستر على عزيزة، ووقف بقوّة أمام رغبة الباشكاتب إبلاغ النيابة، وربّما لخبرته الطويلة، أو لعدم رغيته في مزيد من الفضائح التي ربما تجر أهل القرية إلى مشكلة كبيرة لا نهاية لها.

الرمزية

تحتفي الرواية بالتفاصيل، إضافة إلى جانب مضمونها الإنساني، وعبّر الفيلم عنها بدقّة تستجلب الدهشة والإعجاب، ولا سيّما تركيز الكاميرا على عالم القرية الفقيرة، ببيوتها الطينينة والثياب المهلهلة والأطفال الجائعين..

والفلاّح المنهمك في العمل الشاق، والنساء المستلبات في صورة انحناء جماعي، تكررت مرات عدّة. وكأنّ هذا التفصيل رمز لانكسارها أمام الذكورة الممثلة في النظام المهترئ وقوانينه الجائرة التي مضت بعد قيام ثورة يوليو ..

وحررت المجتمع من هذا الاضطهاد الذي دام زمناً طويلاً، ما يؤكّد انعطافة الوعي لدى يوسف إدريس نحو قيم الاشتراكية الاجتماعية التي أشار إليها نقّاده ودارسوه مراراً، وفضلاً عن ذلك، تعزيزه للقيم الإنسانية، فالحرام، هو أن تبقى هذه الشريحة من المجتمع في مثل هذا الوضع البائس، والحرمان من الرعاية الصحّية والتعليم..

والتقدير السليم في إيصال هذه الرسالة دونما خطابية تقريرية، اتّصفت بها بعض كتابات ذلك الزمان، وبخاصة الموقف الكبير من قضايا المرأة، والدعوة إلى إنصافها وتعزيز موقعها في المجتمع. وبدوره، تمكّن هنري بركات من الإمساك بخيوط الحبكة التراجيدية، ومضى يعزز مسيرته الفنية بإبداع مواز بالصورة والصوت، في فضاء ريفي حقيقي.

Ⅶرؤية تنحاز إلى الفقراء و المهمّشين وتناهض الظلم

Ⅶ اسم الرواية يمنح القارئ مفتاحاً أوّلياً للدخول في أحداثها

Ⅶ عمّال «التراحيل» بؤساء ذلك الزمن.. محور رئيس في العمل

Ⅶ تفاصيل وسرديات شائقة فياضة بالرموز والدلالات الغنية

Email