تنوعت وفقاً للبيئة والمكانة الاجتماعية والمادية

منازل الأوّلين أساسها المودّة وسقفها القناعة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في كل مرة نطرق فيها باب الذاكرة لتحدثنا عن الماضي، وزمان الأولين وكيف كانوا يعيشون قبل نحو نصف قرن من الزمن أو يزيد، وكيف كانوا يبنون بيوتهم، فإن أول كلمة تأتي في فاتحة حديثها هي البساطة، البساطة في كل شيء، في المأكل، والمشرب، والمسكن، والمرزَق، والعلاقات الاجتماعية، وأجمل ما في البساطة أنها رديف للقناعة، فهما مفهومان صنوان، لا يفتكان عن بعضهما إلا بقوة التغيير الذي طرأ ويطرأ على المجتمعات، في كل شؤون حياتهم، حتى غدا زمن الطيبين يسكن في كتب التاريخ والتراث، إلا من بعض المناطق، أو ربما الأشخاص الذين مازالوا «مخلصين» لتراثهم وبداوتهم وعلاقاتهم بكل ما فيها من مفردات.

ذاكرة مؤثَّثة

قد لا يتسع صدر هذه المساحة من الكتابة للحديث عن حياة الأولين، بكل تفاصيلها وألوانها، وربما نحتاج الى مداد من الشرح والتفصيل، لكن سالم هلال، الباحث التراثي والموظف في مكتب ملتقى زايد بن محمد العائلي في الخوانيج، سيصطحبنا بجولة سريعة بين أزقة ذاكرته ليعرفنا على مخططات وتقسيمات بيوت أهل الإمارات التقليدية قبل بضعة عقود، وطرق وأدوات بنائها والمواد المستخدمة في تشييدها وعمارتها، وستوقف بنا عند أبرز احتياجاتهم، عطفاً على أصناف الطعام التي كانت لديهم، ثم كيف كانت علاقاتهم الاجتماعية المتبادلة، وكيف كانوا يتدبرون شؤون حياتهم في فصلي الشتاء والصيف، ومواضيع اخرى سنمر عليها في سياق هذه الجولة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المستوى المعيشي كان وما انفك في وقتنا الحاضر مربوطاً بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للناس، والمنزل بما فيه من أثاث يعتلي قائمة أبرز العلامات أو الدلالات على غنى أو فقر ساكنه في المجمل العام.

مخطط

يشير الباحث هلال إلى أن هيكلية البيت التقليدي عكست حالة الاستجابة للظروف البيئة والاقتصادية والاجتماعية السائدة آنذاك، حيث كانت تضم المدخل والفناء (الحوش أو الحوي) والليوان والحجرات (الغرف) الخاصة بالمجلس والمعيشة والطبخ والبخار (المستودع) والهوش.

ويذكر لنا المجلس حظي باهتمام ورعاية أصحابه في الماضي كما الحاضر، فهو بالنسبة اليهم واجهة المنزل، وهو المكان الذي يستقبل فيه صاحب البيت (المعزب) ضيوفه، وهو كذلك حجرة نوم الضيوف الذين كانوا يأتون ديرة بعيدة.

ولأن عادات وتقاليد أهل الإمارات المستمدة من الدين تحث على الخصوصية، فقد حرص الأولون على عزل المجلس عن بقية حجرات البيت بالرَّدَّة، وعادة ما يكون عند المدخل الرئيسي، ثم إن مساحته، ونوعية الأثاث الموجود فيه، والمعلقات التي كانت على جدرانه، تختلف بحسب الوضع المادي لصاحبه، فالفقير في ذاك الوقت كان يفرش أرضية مجلسه بالسجاد المصنوع من شجر السل، وربما بالحصير المصنوع من سعف النخيل، بعكس الإنسان الميسور الذي كان يفرشه بالزولية (الموكيت) المستوردة، والتي كانت توضع فوق سجادة السل.

كما كان المجلس يحتوي على التكي (المساند) المزخرفة نقشاً بالورود، الى جانب تعليق لوحات وأدوات للزينة على الجدران مثل المذياع (الراديو) والمنظرة.

أما موقع المطبخ «فكان يعتمد على مساحة الأرض المبني عليها البيت، فإذا كانت كبيرة، بني المطبخ بعيداً عن حجرات النوم والمجلس تجنباً للروائح والأدخنة الناتجة عن الطبخ، وإذا كان صغيراً بني قريباً أو ملتصقاً».

المطبخ

ويذكرنا الباحث هلال بأشهر محتويات وأدوات الطبخ مثل «الجدور» النحاسية والفخارية والصحون الصينية المصنوعة من الزجاج والمعدت والتنك، ثم السحارة ( صندوق) لحفظ المواد المستخدمة في الطبخ وبعض أدواته، والمرفاع لحمل الأطعمة عالياً داخل المطبخ الذي كانت تطهى فيها الأطعمة على «التشولة» أو بابور الكاز.

ويعتبر البخار (مستودع) جزءاً أصيلاً من بناء البيت، وهو مخصص لحفظ العيش والتمر والطحين وحوائج البيت، فيما كانت تخصص ساحة للعب الأطفال وربما كانت تزرع فيها أشجار، الى جانب «زرب» الهوش الذي كان يوجد بالعادة في نهاية الحوي.

ولأن حياتهم خلقت من رحم البساطة والقناعة والرضا بالقليل، فقد كانت علاقات «الأولين» مترابطة ومتينة بقوة المحبة والتآخي والجيرة، يقول الباحث هلال: إن بيوتهم كانت كذلك قريبة من بعضها البعض، لا يفصلها سوى سكة صغيرة، بالكاد تكفي لمرور شخص أو دابة.

التواصل الاجتماعي

من أجلِّ صور التآخي والمحبة والتواصل الاجتماعي في ذاك الوقت هو تبادل كل ما يخبز أو يحضر أو يطبخ في البيت ما بين الجيران من فوق السور الفاصل بينهم، وهي عادة ربما نفتقدها كثيراً في هذه اليوم، يقول هلال، بحكم التغيرات التي طرأت على النسيج الاجتماعي من باب ان «لكل زمان دولة ورجالاً»، كما اعتاد الرجال في ذاك الحين على التجمع بشكل يومي سواء أمام المسجد دبر كل صلاة عصر، أو على شاطئ البحر، أو يتزاورون في مجالسهم بعد صلاة المغرب.

Email