قصيدة غنية بدرّ المعاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله: عِمْ صباحاً وعِمْ مساءً.

لا يسعني في مقامك إلا أن أقول ما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في مدح الشعراء: "هم أمراء الكلام يصرفونه أنى شاؤوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن مد مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته".

إنني اليوم أمام قصيدة من قصائدكم التي مازلت حائراً في فهم معناها وإدراك كنهها ومغزاها، واستيعاب مقاصدها ومحتواها، وأنىّ لي أن أفهم وبضاعتي مزجاة؟

ومما يروى أن الفرزدق كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خالياً منفرداً وحده في شعاب الجبل وبطون الأودية، والأماكن الخربة الخالية، فيعطيه الكلام قياده.

نعم.. إنني أفكر كثيراً في مثل ذلك كلما جلست كي أقرأ قصيدة أو فكرة أو فلسفة لسموكم، لكن سرعان ما يملي علي عقلي الباطن قائلاً: كان البر في زمن الشعراء قديماً يوحي، لأن البر كان أوسع وأنصع من ذاكرة الإنسان، وكان البر يستولي على مشاعره لأنه كان مصدر الصفاء والنقاء.

أما اليوم، والإنسان استولى على البر والبحر بفضل إبداعاته وتأثيراته في مجرياتهما، فلم يعد البر موحياً بإرادته، لأنه تحت تأثير من يستخدمه ويوجهه، وقلما تجد براً خالياً من ألغام زرعها البشر لقتل البشر، أو قلما تجد براً لم تصله مخلفات الديزل، حيث جعلته أسود قاتماً بعد أن كان ناصعاً كالثلج، ومن جانب آخر فقد أصبح كل شيء في ذاكرة ممغنطة قدر حبة عدس يحملها هذا الإنسان في جيبه.

هذه هي حال الإنسان العادي، فما بال هذا الإنسان إذا كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي حرث البحر قبل البر، وتوجه بمسبار طموحاته إلى السماء، ولم يقف عند حدود القمر، بل أخذ طريقه إلى العلياء نحو الصعود ثم الصعود منذ الوهلة الأولى إلى المريخ، أتريد أن أفهم شعره بهذه البساطة؟ كلا.

أقول، لكن مع ذلك فإنني لا أرضخ للاستسلام، وسموه علّمنا أن لا نيأس، فلنقرأ معاً قصيدة «الضربة القاضية»، وأملي ألا ترجع دلاؤنا فاضية.

نصيب كبير

في بادئ الأمر، يبدو شاعرنا كسائر الشعراء الكبار في العصور الخالية، حيث إن الليل يوحي له بأشياء، وأن قصائده ينظمها تحت ستار الظلام أكثر، ففي الليل الهدوء أكثر، وفي الليل الأوجاع أكثر، وربما في الليل التجليات أكثر أيضاً، لأن الليل ليس للشعراء فقط، بل حتى الزهاد والعباد والربانيون يناجون ربهم في الليل.

ومما روي أن الجنيد البغدادي رؤي في المنام، فقيل له يا أبا عبدالله ماذا فعل الله بك؟

قال لقد ذهبت تلك العبارات، واختفت تلك الإشارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم فلم ينفعنا إلا ركيعات كنا نركعها وقت السحر.

إذن، مرحباً بالليل إذا كان يوحي للشعراء بالقصائد والقوافي الرنانة، ويفتح أبواب السماء أمام المحبين والعاشقين والعارفين.

ويبدو أن لشاعرنا الكبير الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نصيباً كبيراً من موائد الليل وإلهامات الأسحار، لذلك يقول:

إتـجـمِّعَوْا فــي ظـلامْ الـليلْ جـنْدْ الـقصيدْ

                  وتـقـدًّمـتـهمْ تــقــودْ الــمـوكـبْ الـقـافِـيَهْ

وأنــا كـلِّـما لـيـلي ضــوا أشِــبِّ الـنِّـشيدْ

                  ويـبـيِّحْ الـشُّـوقْ أســرارْ الـهـويَ الـخـافيَهْ

لكن عجبي من سموه كيف يتفرغ للشعر ليلاً، في حين أنني أعرف أن الكثير من لقاءاته الثمينة واجتماعاته المهمة مع المسؤولين في الداخل والخارج، تكون بالليل أيضاً، لدرجة أن بعضهم يكون لقاؤه معه قبيل الفجر، أي أن ليله عمل ونهاره عمل، ومع ذلك فإن الشعر له حظه الأوفر من وقته الثمين.

 

تفاؤل

ثم يقول الشاعر الكبير:

طــالْ إنـتـظاري لـظبيٍ عـازبٍ فـي الـوريدْ

                  يــوردْ عـلـىَ الـقلبْ يـشرَبْ يـعلِهْ الـعافيَهْ

مــنِّــهْ إذا مـالـفـانـي بــعــدْ عـــامٍ بــريـدْ

                 آحـسِّـهـا مِـــنْ رضـايِـهْ بــهْ تــرىَ كـافـيَهْ

وهـبـتـهْ الـــرِّوحْ مـكـلـوفَهْ عـلـىَ مـايـريدْ

                ووهـبـتـهْ الـقَـلـبْ والأنـفـاسْ لــهْ جـاريَـهْ

نستوحي من أبيات سموه أن باله مشغول بأمور مهمة جداً، لها بداية ولم تظهر له نهايتها حتى الآن، وقد استولت تبعاتها على مساحة كبيرة من فكره وقلبه، فهو مرة ينشغل بها بفكره وعقله كحاكم، ومرة أخرى بقلبه وعاطفته كشاعر. ومثلما يشعر بمراراتها بين حين وآخر، فإنه يجد برد رضاها ويحس بقليل من عاطفتها في حين آخر، ولكن ذلك القليل هو بصيص أمل يجعله يتفاءل بالمستقبل. وقد قال الشاعر قديماً:

قليل منك يكفيني ولكن

                قليلك لا يقال له قليل

نعم.. وتوحي الأبيات أيضاً بأن هناك صراعاً بين الخير والشر والعقل والمنطق، وبين القلب والعاطفة، والروح والنفس، ونستذكر هنا ما يقوله عنها البوصيري:

مَن لي بردّ جماح من غوايتها

                   كما يرد جماح الخيل باللُجم

فلا ترُم بالمعاصي كسر شهوتها

                   إن الطعام يقوّي شهوة النهم

والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على

                   حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فاصرف هواها وحاذر أن تولّيه

                   إن الهوى ما تولّى يُصم أو يَصم

ويقول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في رائعته الشعرية الجديدة، بعد ذلك:

وأغـضيتْ عَنْ طولْ ظِلمَهْ والعذابْ الشِّديدْ

                   ورجَـعتْ والـنَفسْ مِـنْ ظـلمَهْ تـرىَ راضيَهْ

لا شَـكْ أنِّـي قـبِلْ شـوفَهْ بـحياتي سعيدْ

                   عــرفـتْ مــعْـهْ الـحـيـاهْ الـمـرَّهْ الـقـاسيَهْ

نعم... ويبدو أن الجروح عميقة والأسقام مزمنة، ولم يكن الشاعر قبل هذا يعاني من ظلم حبيب، لذلك فإن صبر سموه على هذه البلوى من صبر أيوب، لكن من شدة ما لاقى وعانى من الطرف الآخر يكاد يفصح عن كل مستور، على حد قول الشاعر:

شكوت وما الشكوى لمثلي عادة

                  ولكن تفيض الكأس عند امتلائها

 

برد وسلام

وسموه مرة يشكو من قسوة الحبيب وظلمه، ومرة يبدو وكأنه لم يحصل شيء، وما لاقاه من ظلم منه يجده برداً وسلاماً على قلبه، وهذه هي حال من يحب بصدق وإخلاص، ويعرف معنى الوفاء وقيمة الأمانة، وما أجمل ما قال أحد شعراء التصوف:

أخاطر في محبتكم بروحي

                وأركب بحركم إمّا وإمّا

وأسلك كل فجّ في هواكم

               وأشرب كأسكم لو كان سمّا

ولا أصغي إلى من قد نهاني

              ولي أذن عن العُذّال صَمّا

أخاطر بالخواطر في هواكم

              وأترك في رضاكم أباً وأمّا

وهذه التجليات الصوفية الجميلة التي احتوتها الأبيات السابقة، هي نفسها أو القريبة منها، تقرأها في أبيات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في «الضربة القاضية»، والتي تقول:

مهما جرىَ لهْ مسامحْ بالقضا شا آستفيدْ

                       طـيفهْ مـحاصرنيْ بـكِلْ شـارعْ وكـلْ زاويَهْ

هـروبـي مـنِّـهْ إلـيـهْ وهــوُ الـملاذْ الـوحيدْ

                      وكــيَّــةْ الــنَّــارْ بـيـديـنهْ أحِـــسْ شـافـيَـهْ

قلت لكم إن سموه كاد أن يصرح بما يريد وبالذي يقصد، لكن في الوقت نفسه قدّر أنت ألف احتمال واحتمال، فهو قد يقصد خلاً مرافقاً أو حبيباً موافقاً أو جاراً منافقاً أو متذبذباً مراهقاً، وفي كل الأحوال هو لا يريد أن يخسره، لأن الذي من جلدتك أنت لا ينفك عنك كالظفر التي تلازمك، والظفر لا تستقر إلا في إصبعك أنت، والبعيد مهما يتودد لك ويظهر لك المحبة فإنه يظل بعيداً، لأنه لم يقربه منك إلا المصلحة، أما القريب فبينك وبينه نسب وصهر وتاريخ.

ويختم الشاعر قصيدته ببيت هو قفلة القصيدة، وهو بيت القصيد الذي يلخص كل ما أراد الشاعر من قصيدته، وهو:

آقــولْ لــهْ خَــلْ هـجـركْ وإسـتمعْ يـاعنيدْ

                    الـهَـجْـرْ لأهــلْ الـغـرامْ الـضَّـربَهْ الـقـاضيَهْ

نعم، هكذا يصرح بأن صاحبه عنيد، والعناد ليس من العقل في شيء، لأن الحكماء يمدحون سياسة معاوية التي عرفت بـ"شعرة معاوية"، وقد قيل له كيف تعامل خصومك فقال: "إذا أرخوا شددت وإذا شدوا أرخيت".

أما صاحبنا فهو عنيد لا يعرف شيئاً عن شعرة معاوية، وبالمناسبة، فإن هذا العناد ربما لم يكن من طبعه هو، إذ قد يكون مفروضاً عليه كالذي له قرين من الجن لكن القرين الذي لم يسلم، فهو يملي عليه إغواءاته، وصاحبنا في المقابل بدلاً من أن يعرضها على عقله يعرضها على قلبه وهواه.

الخلاصة، أن القصيدة ذات بُعد أدبي وأسري واجتماعي وفلسفي، تنبئ عن مدى إخلاص الشاعر لأهل وده، وكم هو متنغص من القطيعة والهجر اللذين بينه وبين صاحبه أو بين صاحبه وبين الأسرة الواحدة، فلا يريد الشاعر أن تنفصم تلك العرى.

المهم أن روح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم التفاؤلية، تبعث فينا نحن أيضاً روح التفاؤل بانقشاع الضباب، وأن يمر الهجر مرّ السحاب، وأن يعود كل خلّ إلى خليله، والشاعر يقول:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

                 يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

Email