حنين تردده قوافي الحب والفروسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مُخطئٌ مَن يظنُّ أنّ الفرسان الشجعان لا يبحثون عن لحظة شوق في حياتهم، فهم على الرغم من شجاعتهم وثبات قلوبهم، يجدون متعة لا تَعدِلها متعة حين يقفون على باب الحبيبة الهاجرة عن ثقةٍ ودلال، ويفتخرون بهذا الوقوف الطويل في باب الحبيبة ويرون فيه العزّ والشرف حتى قال قائلُهم:

ذُلُّ الفتى في الحبّ مَكرمةٌ

             وخضوعهُ لحبيبه شَرفُ

في هذه القصيدة المنسابة مثل جدول ماء رقيق يعلو خريره رويداً رويداً، يتنفّس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، من كبدٍ برّح بها الشوق والحنين، ويترنّم من قلب أضناه الوجد والهجر والغياب، ويتقلّب على جمر الانتظار لهذه الحبيبة الواثقة بمكانتها العالية في القلب، والتي تمارس الظلم اللذيذ على قلب العاشق فلا يجدُ في هدأة الليل سوى القصيدة ينوح بها على حسرات قلبه المسكون بطيف الحبيبة، ويستنجد بأحبابه (جند القصيد) فيلبون النداء، وتحضر القافية تتقدم هذا الجمع الشهم النبيل الذي لا يخذل قلب صاحبه المكلوم الموجوع.

إتـجـمِّعَوْا فــي ظـلامْ الـليلْ جـنْدْ الـقصيدْ

            وتـقـدًّمـتـهمْ تــقــودْ الــمـوكـبْ الـقـافِـيَهْ

وهذا تشبيه بديع ليس مطروقاً بسهولة في الشعر، فربما كان من مبتكرات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ويبدو أنّ روح القيادة والفروسية عند سموه، وكونه عقيداً لقومه قد جعله يبني هذه الصورة الجميلة المتفردة، والقافية هنا هي حرف الهاء الساكنة وما أجملها من قافية تصلح للغناء والترويد.

و(جند القصيد) هم معاني الشوق والحنين التي يغلي بها قلب الشاعر، وربما كان الاهتداء للقافية من أصعب ما يعانيه الشاعر، فإذا اهتدى إليها ببصيرته وحنينه انثالت عليه المعاني، وكأن القافية فعلاً هي القائد الذي يتبعه الجنود، ومَنْ مِثْلُ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، خبرةً بفنون القيادة والشجاعة، ولكنه القلب له حكمٌ آخر، ولا تثريب عليه، فقد كان فقيه المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام - عبيدالله بن مسعود الهذلي، من أرقّ الناس حاشية وشعراً، وإنّ شعره الغزلي الرقيق ما زال واحداً من أروع الشواهد على سماحة الإسلام واستيعابه لحنين الإنسان ومشاعره الراقية، ومَنْ مِنّا لا يحفظ تلك الأبيات الرقيقة العذبة التي قالها في حبيبته عَثْمة التي أذابت قلبه، وجعلته يخرج عن سَمْت الفقهاء وطريقتهم، حين قال:

تغلغل حبُّ عثمةَ في فؤادي

              فباديه مع الخافي يسيرُ

أكادُ إذا ذكرتُ العهدَ منها

             أطيرُ لو إنساناً يطيرُ

غنيّ النفس أنْ أزدادَ حُبّاً

             ولكني إلى صِلةٍ فقيرُ

وانفذَ جارِحاكِ سوادَ قلبي

            فأنتِ عليّ ما عشنا أميرُ

وكما رفع فقيه المدينة المنوّرة راية السلم أمام جبروت الحبيبة المتدللة رفع عُشاق الجمال وطرّادو الظباء راياتهم أيضاً، وصاحب السموّ رجل شباب القلب، أخضر الروح، في عينيه بريق السعادة، وبين يديه سهام القنيص، لا يعرف الفشل ولا التراجع، ولا يخضع قلبه إلا في هذا الموطن الذي هو عِزٌّ كله ولو كان مُسربلاً في ثوب التحنّن.

بوح فارس

أما البيتُ الثاني فهو جمرة متوقدة من جمر الشوق والحنين، يبوح فيه سموّه بأوجاع القلب في سكون الليل، فكلما أقبل الليل ارتفع صوته بالنشيد والحنين، وانظر معي إلى كلمة (أشِــبِّ) فهي مما يُستخدم في إشعال النار وزيادة لهيبها، فكـأن قلبه نار متوقدة تزداد توهّجاً مع بوح القلب بأسرار الهوى الخفية التي لا يعرف رموزها إلا الحبيبة الهاجرة.

وأنــا كـلِّـما لـيـلي ضــوا أشِــبِّ الـنِّـشيدْ

               ويـبـيِّحْ الـشُّـوقْ أســرارْ الـهـويَ الـخـافيَهْ

وما زال الليل هو مُتنفّس العاشقين، يجرّون على ربابة الوجد أحزان قلوبهم، ويتلذذون بجفاء الحبيبة ولسان حالهم يقول:

وأعرف أن أغانيك سوف تمرّ مرور السحابة،

فتحمل جحود الحبيبة وأكتب هواها دموعا

فما خُلقتْ يا أخا الوجد

إلا لتبكي الربابة.

 

دلال وجمال

طــالْ إنـتـظاري لـظبيٍ عـازبٍ فـي الـوريدْ

                   يــوردْ عـلـىَ الـقلبْ يـشرَبْ يـعلِهْ الـعافيَهْ

مــنِّــهْ إذا مـالـفـانـي بــعــدْ عـــامٍ بــريـدْ

                  آحـسِّـهـا مِـــنْ رضـايِـهْ بــهْ تــرىَ كـافـيَهْ

هنا يبدأ الشاعر البوح بأسرار العلة وخفايا الأوجاع، فإذا هو انتظار الحبيبة الظبية النفور التي تعشق تعذيب قلب صيادها، ظبية متغلغلة في مسار الدم وثنايا الوريد، تتقدم بحذر إلى نبع القلب كي تشرب ماءه الزلال، وتتفنّن في الدلال والجمال، ولا يملك (بو راشد).. إلا أن يدعو لها بالعافية، وهذا والله عجبٌ من العجب، أن تتحكّم هذه الظبية الشرود بهذا الفارس الذي يرجُّ الأرض حين يصيح بالفرسان، ويقفز على ظهر الفرس ثم نراه يستنجد بفرسان القصيد كي يخففوا من لوعات قلبه، ولا غرو في ذلك، فقديماً قال جرير واصفاً هذه الثنائية العجيبة بين الفروسية والجمال:

إنّ العيونَ التي في طَرْفها حَوَرٌ

                  قتَلْننا ثم لم يُحيينَ قتلانا

يصرعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حِراكَ به

                وهُنَّ أضعفُ خلق الله إنسانا

ويا لرقّة قلب هذا الفارس العاشق! فهو يكتفي من الحبيبة بأن تُرسل إليه برسالة كل سنة يجد فيها طعم السلوى ولذة العسل من رضاب الحبيبة، فيحصل الشفاء من علة القلب، وهذا لعمر الحق هو الحب، وحين نقرأ هذا الجمال الجليل في المشاعر نتذكّر فرسان العرب وعشاقهم الذين كانوا يكتفون بنسمة الريح من بلاد الحبيبة، وهذه هي العِفّة في الحب والفروسية التي يخطف معها الفارس قلب الحبيبة، وفي هذا الوجد يقول الشاعر الهذلي عبدالله بن مسلم، مصوّراً لوعة القلب واكتفاءه بشمّ رائحة ثوب الحبيبة:

تعالوا أعينوني على الليل إنه

                  على كل عين لا تنام طويل

فويحي وعولي فرّجوا بعض كُربتي

                وإلا فإني ميّتٌ بغليلي

بريقتها أو ريحِ ثوبٍ أشمّهُ

               فتعرف روحي ريح روح خليلي

أما صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، فهو قد وهب روحه وقلبه لهذا الغزال الظالم الذي لا يزداد على الكرم إلا نفوراً ودلالاً، تعبيراً عن ثقته الكاملة بمنزلته العالية في قلب الفارس، ويا لروعة ابن الفارض حين صوّر هذا المعنى البديع بقوله:

إن قُلتُ عندي فيك كلّ صبابةٍ

                قال الملاحةُ لي، وكلّ الحُسْنِ فيّ

وهذا الجبروت الجميل أشهى على قلب العاشق الفارس من الماء البارد على قلب الظمآن، فهو علامة الحب، لذلك جاء البيت التالي في هذه القصيدة الجديدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تصويراً بديعاً للحب المندفع بالروح نحو الحبيب وتقديم القلب والروح والأنفاس هدية على طبق الشوق والوفاء:

وهـبـتـهْ الـــرِّوحْ مـكـلـوفَهْ عـلـىَ مـايـريدْ

                 ووهـبـتـهْ الـقَـلـبْ والأنـفـاسْ لــهْ جـاريَـهْ

 

رضا وعطاء

ولا يكتفي هذا الفارس كريم السجايا بهذا العطاء، بل تراه يُغضي عن ظلم الحبيب وعذابات قلبه، لا بل إنه في تمام الرضا عن هذه الحبيبة الجافية الهاجرة، فرضا الحبيبة هو المطلوب مهما كانت التضحيات، وليس في غير شريعة الحب يرضى المظلوم بظلم الظالم عن طيب خاطر وسرور قلب:

وأغـضيتْ عَنْ طولْ ظِلمَهْ والعذابْ الشِّديدْ

                    ورجَـعتْ والـنَفسْ مِـنْ ظـلمَهْ تـرىَ راضيَهْ

وحين نقرأ هذا الجمال الأخلاقي في التواضع للحبيب، نتذكر تلك الأبيات البديعة لابن الفارض سلطان العاشقين، حيث يقول:

تواضعتُ ذُلّاً وانخفاضاً لعِزّها

                  فشرّف قدري في هواها التواضعُ

فإنْ صرتُ مخفوضَ الجنابِ فحبّها

                لقدر مقامي في المحبّة رافعُ

 

طيف وشوق

ويتذكر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، كيف أنه كان خالياً من الهموم قبل أن يصطاده هذا الظبي الجفول، وأنه كان خالي القلب قبل معرفته، فلما تغلغل الحب في القلب هجمت عليه جيوش الحنين والشوق، وطار من عينيه النوم انتظاراً للحظة وصل من طيف الحبيبة، وهو ما عبّر عنه سموه بقوله:

لا شَـكْ أنِّـي قـبِلْ شـوفَهْ بـحياتي سعيدْ

                   عــرفـتْ مــعْـهْ الـحـيـاهْ الـمـرَّهْ الـقـاسيَهْ

ولكنها المرارة اللذيذة التي تستحليها النفس العاشقة الصادقة، وقديماً عبّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:

وكلُّ مرارات الزمان وجدتُها

                 سوى فُرقةِ الأحباب، هيّنة الخطب

لكن كنز الحبيبة فوق كل كنز، وهي مغفورة الذنب مهما بدر منها، المهمّ ألا تُعرض وتهجر.

وههنا يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بنبرة لا تخلو من الأسى وجرحة القلب:

مهما جرىَ لهْ مسامحْ بالقضا شا آستفيدْ

                    طـيفهْ مـحاصرنيْ بـكِلْ شـارعْ وكـلْ زاويَهْ

(بو راشد) المشهور بالفروسية والحزم والشجاعة نجده ههنا يميل إلى الصبر والتسامح والاعتراف بأن القضاء لن يفيده شيئاً، وما لذلك من سبب سوى الحب الذي يتجلّى في هذا الحصار الجميل الذي تحاصره به الحبيبة أينما حلّ وارتحل، وتجعل المدينة أضيق من ثقب الإبرة، فلا يجد حلّاً لهذا الحصار الرهيب سوى التودّد للحبيبة وطلب رضاها.

ولأنّ الحبّ لا يعرف المناصب، يهرب سيدنا وشيخنا (بو راشد) من الحبيبة إليها، وهذا لعمري هو الحب، حيث يعود أشجعُ الفرسان طفلاً يحتضن حبيبه كطفل باحث عن حضن أُمه، في واحدة من أرقى اللحظات الإنسانية في شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، الأبيّ الشجاع:

هـروبـي مـنِّـهْ إلـيـهْ وهــوُ الـملاذْ الـوحيدْ

                   وكــيَّــةْ الــنَّــارْ بـيـديـنهْ أحِـــسْ شـافـيَـهْ

يا لروعة الحب، ويا لسحر الحبيب! حتى النار تصبح شفاء من يده الجميلة، وهذا هو دأب العشاق من قديم الزمان حتى قال قائلهم:

عذّبْ بما شئتَ غير البُعدِ عنك تجدْ

                أوفى محبٍّ بما يُرضيك مبتهجِ

وخذْ بقيّةَ ما أبقيتَ من رمقٍ

               لا خيرَ في الحبّ إن أبقى على المُهَجِ

ثمّ كانت الخاتمة الرائعة التي هي سرّ القصيدة وعنوانها، استعطافاً لهذا الحبيب العنيد، واسترحاماً لهذه الظبية الشرود أن تترك سلاح الهجر، فهذا السلاح هو القاتل الذي لا يصمد أمامه أشجع الفرسان، هو الضربة القاضية التي لا تقوم بعدها للقلب قائمة:

آقــولْ لــهْ خَــلْ هـجـركْ وإسـتمعْ يـاعنيدْ

               الـهَـجْـرْ لأهــلْ الـغـرامْ الـضَّـربَهْ الـقـاضيَهْ

هنا تبتسم الحبيبة، وتعطف على هذا القلب الفياض بالحب والحنين، وتقبل عليه بدلّها ودلالها، سُنةٌ متّبعة وطريقة مسلوكة في منهج العشق والحنين الصادق العفيف.

Email