فَراسِهْ.. لامية الشعر النبطي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يكتملُ الشعر عادة إلا بصوره الضاربة في عمق الخيال والموروث والحكمة والمأثور من الكلام، ويكون أبلغ ما يكون حين يجترح من تلك الصور ما يلامس شغاف النفوس، فيأسر المتلقي أو المستمع، وفي قصيدة حملت تلك المعاني، أهدى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، يوم أمس قُراءه، قصيدة نبطية حملت من عنوانها «فَراسِهْ» القول والخطاب، وفي متنها جوهر الفكر والفعل. القصيدة الجديدة التي حملت عنوان «فَراسِهْ» خاطب فيها الشاعر القصيدة، فكان مطلع القافية أنشودة للبوح الشعري، واستدعاء لينابيع العذوبة، من نقشها الأول في توثب الشعر وراء المعنى، وهو يروم الجديد المُبدع والغريب المُختلف والمُغاير، وذاك مطمح لأي شاعر يريد أن يقدم بناء شعرياً كامل المعاني مُصفى السبك.

اسـجـعي يــا الـقـصايدْ بـالجديدْ الـغريبْ

                                   مــنْ شـريـفْ الـمـعاني واصـلـهْ لـلكمالْ

مــنْ عـجـيبٍ مـصـفَّىَ مـا لـمثلهْ ضـريبْ

                                   فــوقْ حــدِّ الـظـنونْ وفــوقْ حَـدْ الـخيالْ

لامية نبطية

هذه القصيدة ذات الروي اللامي، بمثابة «لامية نبطية»، فقد اشتهرت في مدونة الأشعار العربية لاميات عديدة.

وهذه اللامية النبطية جوهر النفس والكلمات، الذي لا يقدر بمكاييل ولو ثقُلت موازينها، لقيمته المعنوية والنفسية والاعتبارية، وما ذاك السمتُ في كبريائه الشهي، إلا روح الشعر النبيل، ومكنون جوهره الخالص، الذي لا تغيره الشوائب، ولا يطمس بريقه أمام عاديات الزمن، وهنا يشبه هذا الاختلاف في فرادة المعاني، وما خطت الأيادي من كتابة، تنأى عن فهم أبلغ الخطباء، مستحضراً قس بن ساعدة الأيادي (متوفى 23 ق هـ)، الذي كان يضرب به المثل في البلاغة والفصاحة عن العرب:

لــولـوٍ فـــي مـغـاصَهْ مـظـلماتْ الـغـبيبْ

                               جــوهَــرَهْ مـايـثـمَّـنْ بــالــوزونْ الــثِّـقـالْ

وإكـتـبي مــنْ حــروفٍ مـاوعـاها خـطيبْ

                               لـوْ (لِ قِـسْ الإيادي) لي بهْ ضَرْبْ المثالْ

مُخاض القصيدة

فالقصيدة المُبتغاة دائماً عصية مُتمنعة صعبة المنال، يسري نبضها في العروق، وتسير في شرايينها مُريبة الخطوات، ليس لظلها زوال ولا انطفاء، يأخذ الشاعر في ساحاته عبر أحوال عديدة ومتغيرة، فلحظة ميلاد القصيدة، نوع من القبض على شعاع الضوء أو الجمر، تنبجسُ حروفه من بين الأصابع، لا يكاد يقر لها قرار، وتختفي في متاهات الظلال:

نَـبـضْ يَـسـري بـدَمِّي ويـحتويني مِـريبْ

                              مــــنْ صـبـايِـهْ مـعـايـهْ مـــا لـظـلِّـهْ زوالْ

وإنْ تـفَـكَّرتْ فــي حـالـهْ تَـرَكني عـطيبْ

                               يـبـتدي بــي بـحـالْ ويـنـتهي بـي بـحالْ

وإنْ قـبضتهْ شـعاعهْ وصرتْ أحسِّهْ قريبْ

                               فَــرْ بـيـنْ الأصـابعْ وإخـتفىَ فـي الـظِّلالْ

وتكاد تكون هذه التشبيهات التي وظف محمد بن راشد، في صورها البلاغية واستعاراتها، أن تقدمُ تعريفاً جديداً للشعر في فورته الخالدة، وانبجاس خيوله لحظة الإلهام والكتابة.

فالشعر صنو الجمال والصمت وبراح الفكر في فلوات التأمل، يصفه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بالصديق القرين، الذي لا يخيب له رجاء، ربيب الخيل والقنص والمجد والمعالي ووصوف الجمال:

مــنْ عـرفتهْ وعـرفني قـالْ لـي لاتـخيبْ

                              وقـلتْ لـهْ مـا بـخَيِّبْ لـكْ مدىَ العمرْ فالْ

ومنْ علىَ الخيلْ سيرهْ بينْ صبحْ ومغيبْ

                              يـحـتـويهْ الـتَّـأمِّـلْ كـلِّـمـا بـــأرضْ جـــالْ

تـملكْ الـخيلْ وجـدي فـي هواها سليبْ

                             والـقَـنَصْ والـقصايدْ فـي وصـوفْ الـجمالْ

إشكالات معرفية

هو الشعر، ذلك العابر بين الكلمات وظلالها، يغتال حرفه وطيفه الغريب الشفافُ نفوسنا بوداعة، يبعث من مراقدها الأسئلة والإشكالات الكبرى، فيترك العقول حائرة أمام تداعيات الأفكار وتوالدها، لا الحكيم الأريب قادر على إدراك جوابٍ شافٍ لها، ولا على حل معضلاتها الكبيرة، وما ذلك إلا تفكر في ملكوت الله وسعة كونه وأجرام سمواته في امتداداتها، من البدء والانتشاء وحتى النهاية:

ســاريٍ وسـطْ ظـلما مـثلْ طـيفٍ غـريبْ

                                مـتـعـبٍ خــيـلْ تـفـكيري أطــاردْ ســؤالْ

وشـفتْ أنِّـي بـعلمٍ مـا إنـكشَفْ لـلأريبْ

                               آتـــقَــرَّبْ لـــحَــلِّ الـمـعـضـلاتْ الــثِّـقـالْ

كـيفْ هـا الـكونْ يـجري في نظامٍ عَجيبْ

                                وكـيـفْ تـسـري الـلِّيالي مـاضياتٍ عـجالْ

وويـنْ مـبداهْ ها الكونْ الفسيحْ الرِّحيبْ؟

                                وويـنْ مـنهْ الـنِّهأيهْ فـي إتِّـساعْ المجالْ؟

يصل إلى بيت حمل منتهى البحث، بكل إحالاته الدينية والمعرفية والفلسفية، وفيه تسليم رباني، حيث تعجز المعرفة الإنسانية عن إدراك كل شيء، وهو ما يدخل في باب المعرفة الممكنة والمعرفة المستحيلة، إذ الإنسان أمام أسئلته يقف عاجزاً عن بلوغ معرفة كل شيء، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً:

عــنْ وجــودٍ بـذاتـهْ مـحـتفي مــا يـغـيبْ

                                وعــنْ وجــودٍ لـذاتـهْ مـخـتفي مــا يـطالْ

شَــفْ حـتَّـى تـظـنِّهْ فـي يـمينكْ نـصيبْ

                                وخَـــفْ حــتَّـى تـظـنِّـهْ ذايــبٍ فــي زلالْ

أرجــوْ الـعـذرْ لأنِّــي كـادْ راسـي يـشيبْ

                                مــنْ طـويـلْ إفـتكاري فـي أمـورْ الـمحالْ

يخلص إلى المعرفة الخالصة، حيث الركون إلى الله في سعة خيره، وبهاء كنوز معرفته التي يودعها قلوب من يشاء من عباده:

وصـرتْ أسـمَعْ لـقلبي مـنْ عـنايهْ وجيبْ

                              وأتـعـبتني الـلِّـيالي مــنْ عـنـا الارتـحـالْ

ومـنْ يـفلسفْ وجـودهْ بـالجدَلْ ما يصيبْ

                               والــجـدَلْ دونْ تـعـريـفْ الـمـعارفْ جــدالْ

وفــي الـمـعارفْ حـيـاةٍ ربِّـهـا مــا يـخيبْ

                               تَـكْسيْ الـعلمْ وأهـلهْ منْ صفاتْ الجَلالْ

وكما أن مهمة الشعر هي رفع النقاب عن الجمال المخبوء وإعادة صياغة رؤيتنا للجماليات، كما قال الشاعر الإنجليزي بيرسي شيلي، ففي هذه القصيدة رفع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد النقاب عن الجمال المخبوء، منتصراً للخير والمعرفة وإعمال الفكر والعقل والخيال، في سبر الدلالات، وبحثه عن إرواء الظمأ الفكري، وتعطش الإنسان الأزلي في بحثه عن مفهوم الحقيقة في رؤاها المتعددة الدلالات:

بـيـنْ شَــرٍّ وخـيـرٍ فــي الـصِّراعْ الـرِّهيبْ

                               نـجـعَـلْ الـخـيـرْ مَـبـدانـا وفــيـهْ الـنِّـضـالْ

وكــلِّ شَــيٍّ بـقـيمهْ وبـاكـرٍ عـلـمْ غـيبْ

                               غــيــرْ أنَّــــا نـشـوفَـهْ بـإفـتـهامْ وخَــيـالْ

والـدَّلالهْ عـلىَ الـمفهومْ مـا هي صعيبْ

                                بــسْ كـيـفْ الـدَّلالـهْ دونْ كـيـفْ ومـثالْ؟

Email