تطور المجتمعات أشعل فتيل الظاهرة

تأخير الزواج.. قضية خلافية في مهب الحداثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شرع الاسلام الزواج، لمقاصد سامية، وغايات عظيمة، تتجلى في بقاء النوع البشري، واستمرار الحياة، وهو من أطهر وأقدس النظم التي تصنع الاجيال، وتحفظ امن واستقرار المجتمع، لا سيما وأن الاسرة النووية هي الخلية الاولى لبناء ونمو نسيجه.

كما حث ديننا على تبكير الزواج - بعد النضج الجسمي والفكري-، من باب انه "وجاء" وراحة وسكينة للأزواج، مثلما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أمر بذلك امتثالا لسنته، وسترة من الفتن والمعاصي، واتقاء للمغريات التي باتت تشكل تحديا خطيرا امام الشباب والفتيات في ظل الثورة التكنولوجية والفضائية، وتعدد الثقافات والجنسيات التي تعيش في الدولة، وتبدل بعض العادات والتقاليد والموروثات الاجتماعية التي نشأ عليها الآباء والاجداد.

ولأن المجتمعات بشكل عام، والمحلي بشكل خاص، طرأت عليها تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية بفعل الحداثة والتطور، ظهرت مشكلات اجتماعية لم تكن موجودة قبل هذا التغيير، من بينها ظاهرة تأخر الزواج لدى الشباب والفتيات، وهو الامر الذي يضع المجتمع، بكل افراده ومؤسساته امام مسؤولياته، للبحث بعمق عن اسباب هذه الظاهرة "الدخيلة" التي توصف بالمهلة الضارة، واقتراح الحلول الكفيلة بعلاجها، قبل توسع دائرتها بصفة أخطر.

وبالرغم من اهتمام القيادة الرشيدة بفئة الشباب، وحرصها على تزويجهم، ومساعدتهم على بناء أسر مستقرة، عبر توفير المسكن المناسب لهم، ودعمهم بمنح مادية للزواج، وتسخير كل الامكانات من اجل اسعادهم، الا ان "مشكلة" او "ظاهرة" تأخر الزواج ما زالت ترمي بثقلها على كاهل المجتمع، وتتسبب بتفشي مشكلات وأمراض اجتماعية ونفسية لا تنسجم مع مبادئ المجتمع الدينية والأخلاقية.

تأثير سلبي

ناعمة الشامسي مدير قسم التوافق المجتمعي في هيئة تنمية المجتمع بدبي، ليست مع تحديد سن معين يظهر فيما اذا كان الشاب متأخرا في الزواج أم لا، وقالت ان من شأن ذلك التأثير سلبيا على نفسية ذلك الشاب، وتجعله يشعر بالحرج من المجتمع، وربما يدفعه ذلك لاختيار غير موفق لشريكة حياته، او الحصول على قرض بنكي من اجل تسريع زواجه تجنبا لتلك النظرة المجتمعية.

وانتقدت الشامسي بعض وسائل الاعلام التي تروج للزواج على انه "ورطة" ومضيعة للمال، وهمٌّ، وقلق يخنق رقاب الرجال، في وقت قللت فيه من وطأة هذه المشكلة، وتأثيرها الخطير على المجتمع، مقابل تحميلها الاسرة جانبا كبيرا من المسؤولية تجاه عدم توعية ابنائهم بأهمية الاقتصاد في الانفاق، وادارة الميزانية.

غياب الاحصائيات

حبيبة الحوسني مدير عام صندوق الزواج بالإنابة، تختلف جزئيا مع ناعمة الشامسي، وترى ان ثمة ضرورة لتحديد السن الذي اذا بلغه الشاب يصبح متأخرا عن الزواج، وقالت انه لا يمكن قياس مستوى خطورة هذه المشكلة، ما لم يكن هناك تحديد، وما لم يُحصر عدد هؤلاء "المتأخرين"، وتُحدد نسبتهم من العدد الاجمالي للمواطنين.

واعربت الحوسني عن اسفها لعدم وجود احصائيات موثوقة او دقيقة، بشأن الكثير من القضايا المجتمعية التي من بينها تأخر سن الزواج، وقالت ان أي حلول ستبقى ناقصة ما لم تبن على نِسَب وارقام واضحة تعين متخذي القرار على التشخيص الصحيح لأي مشكلة، وايجاد الحلول المناسبة لها.

وعزت عدم استعجال بعض الشباب والفتيات للزواج، الى رغبتهم في اكمال تعليمهم الجامعي والحصول على شهادات عليا، ومن ثم الالتحاق ببعض المناصب والوظائف المرموقة، جنبا الى جنب مع تخوف بعض آخر من تبعات القروض البنكية الخاصة بالأفراح التي باتت تكلف نحو نصف مليون درهم، في وقت لفتت فيه الى أن "الصندوق" حدد عمر المستفيدين من مِنَحه ب21 عاما للحد من الزواج المبكر، وضمان نضجهم فكريا واجتماعيا وثقافيا، وتجنب وقوع حالات طلاق ما لم يتحقق ذلك، فيما لفتت الى أن اكبر شريحة مستفيدة من تلك المنح خلال الثلاث سنوات الماضية، تتراوح اعمار افرادها بين21-26 عاما.

مشكلة مقلقة

فوزية طارش مديرة إدارة التنمية الأسرية في وزارة الشؤون الاجتماعية، تقر بأن تأخر زواج الشباب والفتيات في الامارات امر مقلق، يستوجب مناقشة جماعية اكثر عمقا وجدية من ذي قبل، مضيفة ان المحاولات السابقة على مدار السنوات الفائتة، لم تفلح في انجاب حلول معافاة من المعيقات والمسببات التي ما انفكت تفرض نفسها في واقع الحال، وتبقي على المشكلة على ما هي عليه الان، وتحول دون "التبكير"، في وقت أكدت فيه أن جميع المؤسسات ذات العلاقة، والشباب والفتيات ومعهم اهاليهم، مقصرون تجاه خنق هذه المشكلة التي تفتك بنسيج المجتمع.

طارش ترى ان الاعراس الجماعية حلت جزءا يسيرا من المشكلة "بالرغم من اهميتها"، فتحت نافذة للأمل بإمكانية الحد من اتساع دائرتها، واقترحت تشكيل لجنة وطنية مدعومة بقرارات من القيادة العليا، لدراسة الجوانب المتعلقة بها، بالاستعانة بإحصائيات دقيقة تظهر الحجم الفعلي لها، واقتراح الحلول الجذرية المناسبة، بالتوازي مع الخروج بقرارات تلزم المقبلين على الزواج بعدم الاسراف على الحفلات، مع نقل جزء من ثقل المسؤولية الى القطاع الخاص ليشارك بقية الجهات في الحل، ويسهم في تخفيف الاعباء والتكاليف المترتبة على الازواج.

كما دعت الى تنفيذ حملة اعلامية غير تقليدية، كفيلة بالوصول الى الشباب والفتيات و اهاليهم، وتوعيتهم بمخاطر تأخير الزواج "لأسباب غير مقنعة"، كما وصفتها، مشيرة الى أن ظاهرة التأخير تتغذى من الحبال السُّرية لمشكلات اخرى مثل ارتفاع تكلفة الحفلات، والقروض البنكية، وثقافة "البرستيج" والمباهاة في الإسراف على احتياجات الاعراس، والهروب نحو الزواج من اجنبيات لتجنب التورط بالديون.

وختمت حديثها في هذا الشأن قائلة:" في بيوتنا كثير من البنات المتعلمات والمثقفات، الجديرات بالزواج، والقادرات على تحمل مسؤولية الزوج والبيت، وتكوين اسرة ناجحة، لكنهن متضررات من افرازات بعض العادات المجتمعية البائسة التي تذكي نار ظاهرة العزوف والعنوسة".

 

آثار سلبية

 

يرى الدكتور عبدالعزيز الحمادي رئيس قسم الإصلاح الأسري في محاكم دبي، أن الإسلام يحض على الزواج، ويشجع على العفاف، وتكوين الأسر القوية التي تعد الأساس الأول في بناء المجتمع القوي المتماسك، و نهى عن تركه عمداً .

ولفت إلى أن "التأخير" يترتب عليه آثار سلبية تهدد المجتمعات كالعنوسة وانتشار الجرائم الجنسية وتفكك الأسر، وأكد أن المسببات متصلة بالنظرة السيئة للزواج، والتي عززها الاعلام، ثم غلاء المهور ومتطلبات الزواج التي تعيق تسريع ارتباط الشباب بالفتيات، وتأخر توظيف الشباب، واختلاف الأولويات لديهم، وكذا تجارب البعض "الفاشلة".

شروط

تباين اتجاه سن الزواج

 

اتفق عدد من الشباب، المواطنين، على ان المجتمع الاماراتي، يشهد تأخرا في الزواج، نتيجة عدة اسباب، اختصروها بغلاء تكاليف المعيشة والمهور، مشيرين الى انه بات ينظر الى الشاب الذي يتزوج في سن الخامسة والعشرين على انه مبكر في الزواج، بعكس ما كان عليه الحال قبل عدة سنوات، حينما كان ينظر الى هذا السن على انه "متأخر".

محمد صالح، موظف حكومي، وخميس راشد سالم طالب جامعي، متفقان ان اكثر ما يؤخر الشباب عن الزواج ، هي المبالغة في طلبات واشتراطات اهالي الفتيات، وارتفاع تكاليف حفلات الاعراس، زيادة على غلاء المهور الذي "يصل الى نحو 100 الف درهم على اقل تقدير".

ولفتا الى ان هذا الغلاء في مصروفات الزواج بكل تفاصيلها، دفع بعض الشباب الى الزواج من غير المواطنات، لا سيما من آسيويات، لاختصار قيمة التكاليف، كما دفع البعض الاخر الى الخروج من دائرة القيم والاخلاق، وقضاء الشهوات بصفة محرمة، في وقت اجمعا فيه ان التعليم، والوظيفة، ليسا عائقا امام "التبكير".

عادات وتقاليد

سارة حميدان ، وفاطمة عبد الله اكدتا ان تأخير زواج الشباب يقابله ارتفاع في نسب العنوسة، وله انعكاسات نفسية واجتماعية على الفتيات، في ظل عادات وتقاليد المجتمع الذي ينظر الى البنت التي تجاوزت 28 عاما على انها عانس، وانها فقدت فرصتها في الزواج، اضافة الى اصرار بعض الفتيات على الزواج من مستويات اجتماعية معينة.

وأضافتا ان العادات والتقاليد سبب رئيسي في تأخر زواج الفتيات لجهة انها حددت زواج الشباب من ابناء العمومة او من الاقارب، وقللت فرص زواج الفتيات من غير الاقارب.

برنامج

مقترحات «للنزول عن الشجرة»

قدم المتحدثون، مجموعة من الحلول والمقترحات بشأن تضييق دائرة ظاهرة تأخر الزواج بين الشباب والفتيات، المواطنين، كان من ابرزها:

- صياغة برامج لمساعدة الشباب على ايجاد سكن، واخرى لتوعية افراد المجتمع بحجم المشكلة وآثارها، وبفوائد الزواج، وتجميل صور تكوين أسرة وأولاد ومنزل.

- التخفيف من المهور حسب قدرات وإمكانيات الشباب.

- تشجيع فكرة الاعراس الجماعية.

- تفعيل دور المرأة الأم وتثقيفها وتوعيتها دينيا، تربويا، واجتماعيا، بأهمية صحة علاقاتها الأسرية السليمة مع زوجها وأبنائها.

- إنشاء نواد للمتأخرات في الزواج لتسيير خطبتهن.

- مواصلة الفتاة لتعليمها وهي متزوجة.

- ضرورة متابعة الجامعة لقضايا المجتمع ودراستها واقتراح والحلول لها عبر توجيه البحوث العلمية والأكاديمية.

- اعداد طاقم متخصص من المرشدين الاجتماعيين المواطنين لتقديم دروس وبرامج في التوعية ذات الصلة.

- توظيف الاعلام لبث برامج ومسلسلات هادفة تحث على الزواج وقيم القناعة و التواضع والاعتدال في الاسراف.

تحقيق

الإمارات الأعلى نسبة في العزوبة والعنوسة خليجياً

قال المستشار الاسري الدكتور عارف الشيخ إن العوامل "الاقتصادية والاجتماعية والحضارية" المتسببة بتأخير سن زواج الشباب مفتعلة، وبإمكان ولاة الأمور وأولياء أمور الأبناء والبنات أن يعالجوها في خمس دقائق" ، مشيرا الى أن الزواج المبكّر كان السائد في المجتمع الخليجي بل العربي إلى وقت قريب، وان خيوطه بدأت تهترئ بفعل تلك العوامل.

واستشفع المستشار الشيخ بإحصاءات، للتأكيد على ان "تأخر سن الزواج" ظاهرة مقلقة، تستدعي تعليق اجراس مؤسسات المجتمع العمومية والخاصة، واشعال الاضواء الحمر للتحذير من افرازات هذه الظاهرة. وقال:" نسبة عزوبة الشباب وعنوسة الفتيات في السعودية 50%، وفي الكويت 30% ، وفي البحرين 20%، وفي قطر 20% ،وفي سلطنة عمان 10%، وفي الإمارات 60% .

وأضاف:" سواء ارتفعت هذه النسب او انخفضت، او لم تجانب الدقة كثيرا ، فإنها تكفي للقول بأن هذه الظاهرة عامة، ومقلقة، ومتفاقمة، إذا بقيت من غير علاج" . كما أكد أن الحلّ بعيد عن الندوات والكلام التنظيري ، و" يجب أن نعترف بأننا أمام هجمة شرسة قادمة من بلاد الغرب "المنفتحة"، تسببت في تصدير الشهوات الى مجتمعاتنا، واستمراء بعض السلوكيات الملتوية التي قد يشبع بها البعض شهواته التي يحصل عليها من الزواج الشرعي.

وقال :"ثمة ظاهرة اخرى تقض مضجعنا، قد لا تقل ضررا عن مسألة التأخر، وهي أن الهدف من الزواج لم يَعُد من اجل الانجاب وتكوين الاسرة ، بل هوساً يعيش في قلبه أو قلبها يوماً أو شهراً أو سنة ، ثم يشتهي التغيير ، أو لا يرتبط أصلاً، طالما أن إشباع الجوع وحاجاته العاطفية والجنسية يمكن أن يتحقق بطرق متعددة وبأقل تكلفة".

دراسة

الغلاء سيد مسببات التأخير

أظهرت دراسة ميدانية أجرتها هيئة تنمية المجتمع في دبي على عينة من نحو 2460 شابا وفتاة من طلبة الجامعة المواطنين، للتعرف الى اسباب تأخر الزواج لدى الشباب والفتيات، ان غلاء المعيشة تصدر قائمة العوامل التي تغذي نمو هذه الظاهرة، محتلا نسبة 67.2%، تلاه عدم توافر المسكن بنسبة 66%، فغلاء المهور بنسبة 3 .63% .

كما جاء من بين الاسباب، عدم الرغبة في تحمل الأعباء المالية للزواج بنسبة 53,3%، فالعادات والتقاليد التي تفرض التزامات "ثقيلة" على الزواج وكانت نسبتها 49,4%، تلتها الصورة السلبية التي يعكسها الإعلام عن الزواج، وتقديمه للجمهور على انه عبء مالي واجتماعي، وحاز نسبة 40,3%، ومثلها لعدم الرغبة في تحمل مسؤولية الأبناء، فيما احتل عامل الخوف من الفشل نسبة 35,8%، ثم تدخل الوالدين 35,7%، واخيرا الانشغال بالتعليم بنسبة 3.32%.

Email