صور من الحياة

جزاءٌ من جنس العمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان الوقت ظهراً، ودرجات الحرارة في أوجها، وقد ركن الجميع إلى الراحة لأخذ قيلولة بعد تناول الغداء، وفي الأثناء نما إلى مسامع أهل الحي صراخ الناس والنسوة، فقام الجميع يجري نحو بيت بو سعيد، وتبين أن من فيه كادوا أن ينهوا حياة خادمهم «عنتر»، بعد محاولته الاعتداء على ابن العائلة الصغير «محمد»، إلا أن المندفعين نحو البيت تمكنوا من التدخل وفض الاشتباك، وتخليص عنتر من بين أيدي ساكني البيت، وعلامات الضرب والركل والرفس بادية على كافة أنحاء جسده الهزيل، وقد تمزقت كندورته الصفراء ولم يتبق منها شيء.

بقيت تلك الحادثة حديث الحي لأيام، بين مصدق للرواية ومشكك في صدقها، والقول إن تلك الحادثة ليست أكثر من تهمة حاول البعض إلصاقها بعنتر وربما غيرة الخدم كانت سبباً في ذلك، كما توقف الصغار لأيام من اللعب خارج البيوت، أو حتى الخروج، وهم يتداولون بينهم قصة «حمود» الذي أراد «عنترو» أن يفترسه.

مرت الأيام والسنوات، وتزوج عنتر بفتاة عربية، لم تلبث أن تمكث معه سوى وقت قصير، فطلقها وجاء بثانية وثالثة، ورابعة وهي التي استقرت معه وطاب لها العيش هنا.

سنة واثنتان وعشر، وإذا بالناس في الحي يتحدثون عن شاب على علاقة غير مشروعة بزوجة عنتر. هذا الشاب لا يكتفي بلقاء الزوجة في بيت عنتر، بل إنه يتصرف داخل البيت كما لو أنه هو صاحب البيت دون أدنى مراعاة لمشاعر عنتر الرجل الطاعن في السن، أكثر من ذلك؛ كان عنتر يتعرض لصنوف الضرب والعنف على يدي الشاب كلما اعترض على وجوده أو خروج زوجته معه، حتى اعتاد العيش وأصبح في بيته لا يرى لا يسمع لا يتكلم، وقد أخذ المرض منه ما أخذ، إذ أنه لم يعد قادراً على كسب لقمة عيشه، فأصبح جليس البيت أو زاوية في الحي، يستظل بفيء شجرة أو جدار.

المفاجأة كانت، حينما أدرك الناس وعلامات الاستغراب تعم الجميع، أن ما يتعرض له عنتر على يد هذا الشاب بمعاونة زوجته التي أنجبت عدداً من الأولاد والبنات، هو بالمعنى العام «رد صاع الطفولة»، إذ أن هذا الشاب هو «حمود» الصغير الذي قيل أن عنتر قد تحرش به، في تلك الحادثة التي لم يستطع أحد من الأهالي تأكيدها أو نفيها، وبقيت طي الكتمان طوال تلك السنوات.

شواهد الواقع تؤكد أنه لن يقدر تأثير الجرح، إلا مَن عانى من جراح الحادثة ودفع الثمن، وربما تلك الحادثة العابرة في الحي، بقيت عالقة في ذهن الصغير ولم تبرح مخيلته وتفكيره رغم مضي السنوات.. كبر فانتقم لنفسه وربما لغيره، لا شك أن انتقامه كان شديداً ومؤثراً، وكأنه يقول: كنت صغيراً واعتديت عليّ، ولم أتمكن من حماية نفسي أو حتى مجرد الدفاع، لكني اليوم كبرت، وصار بإمكاني أن أفعل ما لم أقوَ عليه وأنا طفل.. آويناك في بيتنا، وحسبناك واحداً منا، فعضضت اليد التي امتدت إليك، وخنت الأمانة التي اؤتمنت، ولعل ما فعلته بك وبأسرتك هو الجزاء العادل لما فعلته أنت بي حينما كنت صغيراً، «العين بالعين.. والبادي أظلم»، والجزاء من جنس العمل.. هي كلمات تصف ببساطة عنفوان البراءة حينما تخدش.

 

Email