بعد رحلة استغرقت نحو ست ساعات ونصف الساعة، هبطت الطائرة في مطار كيغالي (عاصمة رواندا)، ولم نجد أي تعقيدات في إجراءات الدخول، بل وجدنا أنفسنا أمام ترحيب وتسهيلات من موظفي المطار لتنتهي إجراءات التأشيرة والدخول في وقت مريح.
استلمنا حقائبنا، وأثناء خروجنا أوقفنا موظف في المطار، وطلب منا التخلّص من الأكياس البلاستيكية التي نحملها، وتلك الموجودة داخل الحقائب المغلقة. كان من الواضح أن أحداً من المسافرين لم يكن يتوقع أن يقابل في هذا البلد الأفريقي قواعد بيئية صارمة.
ولكن هذه هي الحقيقة؛ في رواندا نظام صارم يمنع استخدام الأكياس البلاستيكية، حفاظاً على البيئة. وهكذا أضطررنا إلى استبدال أكياسنا البلاستيكية بأخرى ورقية اشتريناها من المطار.
كنا مجموعة من الصحافيين استضافهم منتجع «ون آند أونلي لي نيونغوي هاوس» بعد افتتاحه في قلب الطبيعة الجبلية الساحرة جنوب غرب رواندا.
عندما خرجنا من صالة المطار وجدنا موظفين اثنين ينتظراننا، وانقسمنا إلى مجموعتين، وقادانا إلى سيارات ذات دفع رباعي فارهة خاصة بالمنتجع. ولمدة تقارب خمس ساعات، هي زمن الرحلة من المطار إلى المنتجع، رأيت وسمعت قصصاً وأموراً ومشاهد لم أكن أتوقعها.
كنا في ساعات الصباح الأولى عند انطلاقنا ولم نر كثيراً من العاصمة، لا سيما أن السائق استعجل سلوك طريق خارجية، ولكن كان لافتاً نظافة الشوارع والنظام العام على نحو مدهش، لا يتوقعه أحد من بلد عصفت به قبل 24 عاماً حرب أهلية عرقية شردت الآلاف وقتلت نحو مليون شخص، ناهيك عن تعرض ربع مليون امرأة للاغتصاب لأسباب عنصرية.
على طول الطريق المكونة من مسارين فقط في الاتجاهين وتشق جبالاً وتلالاً، كنا كلّما مررنا بقرية وجدنا أفواجاً من الأطفال على جانبي الطريق يقطعون كيلومترات عدة سيراً على الأقدام للوصول إلى مدارسهم.
وفي كثير من الأحيان أشعر بالخوف وأنا أراهم يسيرون على الطريق الجبلية، التي تنحدر على جانبها هاوية سحيقة لا قرار لها، ولو سقط أحدهم، فلن يعلم أحد ما هي المسافة التي سيتدحرجها حتى يصل إلى القاع، ما لم تتلقاه شجرة من الأشجار على السفح شديد الانحدار.
كان ذلك ببساطة عناء وخطورة يعكسان الحرص على التعلم وبناء الإنسان.
لفتت انتباهي على جوانب الطريق بعض النساء، اللواتي ظننت في البداية أنهن يقمن بقطف الزهور أو ما شابه ذلك. ولكن عندما تكرر الأمر في أكثر من قرية مررنا بها سألت السائق عن الأمر، فأخبرني أنه يتم اختيار مجموعة من النساء من كل قرية ليقمن بأعمال التنظيف والتنظيم.
كما هو الحال أيضاً بالنسبة للأمن، حيث تجد في القرى دوريات راجلة مكونة من رجال المنطقة مهمتهم حفظ الأمن إلى جانب قوات الشرطة المنتشرة بشكل ملحوظ .
لم يكن ذلك فقط ما لفت انتباهي، بل احترام الروانديين لتعليمات الأمن وللنظام والقانون. وما أدهشني أكثر بعد ساعات عدة من الرحلة رؤية مجموعات كبيرة من الأشخاص يعملون في الحقول الزراعية، وعلى امتداد كيلومترات عدة وجميعهم يرتدون الزي نفسه ويعملون بكد واجتهاد. التفتّ إلى السائق وبشكل تلقائي سألته: لماذا يرتدون جميعهم هذا الزي البرتقالي، هل هم سجناء؟
كانت المفاجأة بالرد الإيجابي رغم أنني كنت على يقين أنهم كذلك من قبل أن أسأل، ولكنني كنت أبحث عن الحرّاس، الذين يفترض أن يكونوا كثاراً ليحرسوا السجناء في تلك المساحات الشاسعة والمفتوحة، ولأن السجناء جميعهم كانوا يعملون بكد دون الحاجة إلى حملهم على ذلك. عندها أدركت كيف ولماذا نهضت هذه الدولة، ولماذا هي مستمرة في التقدم. ولم أحر طويلاً في المر.
فالعمل على بناء الإنسان هو أساس ما أنجز، بدءاً من التعليم، والمشاركة، والتنظيم، وتحمل المسؤولية، والفرص المتساوية للجميع.إحدى السياسات التي تتبعها رواندا، هذا البلد الذي لا تتجاوز مساحته 27 ألف كيلومتر مربّع، ويقترب عدد سكانه من 12 مليون نسمة، هي مشاركة مواطنيها في صناعة الإنجاز ليتولّد لديهم الإحساس الدائم بالمسؤولية تجاهه والحافز الذي يدفعهم للمحافظة عليه.
حدثنا السائق عن أشياء أخرى، فأخبرنا كيف يتم تقسيم العمل في الأماكن السياحية بالتساوي بين سكان المنطقة، بحيث يحظى الجميع بفرصة عمل، لوقت محدد. وفي المنتجع الذي توجهنا إليه «ون آند أونلي لي نيونغوي هاوس» أبلغنا أحد هؤلاء العمال إنه يتم استبدالهم خلال فترات محددة، قد تكون 10 أيام، بآخرين من المنطقة نفسها،.
وذلك لمنح الجميع فرصة في العمل، ومن هنا يشعر السكان بالرضا، كما يتنبهون إلى أهمية المشاريع السياحية التي تعود عوائدها الضريبية إليهم، باعتبارهم سكان المنطقة التي تستضيف تلك المشاريع.
بعد أربع ساعات وصلنا إلى حديقة نيونغوي الوطنية، التي هي إحدى أقدم الغابات المطيرة في أفريقيا، وتعيش فيها حيوانات برية. استغرقنا نحو ساعة ونحن نستمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة وحالفنا الحظ برؤية بعض القردة على جانبي الطريق، حتى خرجنا من الغابة لنجد أمامنا مساحات شاسعة من مزارع الشاي، التي تشتهر رواندا بزراعته إلى جانب البن.
وهذه الزراعات يقوم عليها الاقتصاد الرواندي بشكل رئيسي إلى جانب السياحة أخيراً.
وكما أكّد السائق، كانت التعاونيات الزراعية حلاً لمشكلة إيجاد فرص عمل في مناطق مختلفة في البلاد، وتستفيد منها مجموعات السكان الأكثر فقراً في تلك المناطق، فيقوم السكان بقطف أوراق الشاي ووضعها بكميات كبيرة في غرف خاصة معروفة، ليتم فيما بعد نقلها إلى المصانع عبر سيارات نقل كبيرة، وتمر بمراحل صناعة الشاي بأنواعه المختلفة قبل تصديره.
الانتقال من مكان إلى آخر ليس هو التغيير الوحيد الذي شعرنا به، فالطقس أحد أوجه التغيّر السريع في هذه البلاد المتنوّعة.
يكون الجو لطيفاً أو دافئاً، ثم يتحوّل بشكل مفاجئ إلى بارد أو ماطر خلال دقائق. وفي غمرة هذا التغيّر المدهش والخوف الجميل من طقس متقلّب، خرجنا عن الطريق العام ودخلنا في طريق فرعي غير مُعبّد وسط أشجار الشاي، حتى وصلنا إلى مبنى الاستقبال في الفندق لنجد قارعي الطبول يرحّبون بنا بطريقتهم.
وبما أن الوقت أصبح بعد الظهر، طُلب منا تحديد حقائبنا وتسليم جوازات السفر لأحد الموظفين ليتم اصطحابنا إلى المطعم مباشرة، حيث تناولنا وجبة الغداء على شرفة مطلة على مزارع الشاي والغابة المطيرة لنستمتع بالمناظر البانورامية وسحر الطبيعة.
وهنا لا بدّ من ذكر تجربة تناول الطعام التي تعتمد على مبدأ تحضير الأطباق من المكوّنات الطازجة من مزرعة الشيف في قلب المنتجع. انتهينا من الغذاء وتوجهنا إلى الغرف المخصصة لنا مباشرة لحاجتنا إلى الراحة بعد رحلة استغرقت تقريباً 13 ساعة.
وتقع غرف وأجنحة المنتجع في مجمّعات خشبية منفصلة، تنتشر في أرجاء مزارع الشاي وتحيط بالمبنى الرئيسي، منها 19 غرفة أو كوخاً تتسم بتصاميم وألوان نابضة بالحياة تجسيداً للتقاليد الرواندية.
إضافة إلى إمكانية مصادفتك غالباً العديد من القردة بجوار الغرف أو على أسطحها وفي مزارع الشاي. وحتى لو خفت من ترك باب غرفتك مفتوحاً كي لا تعود وتجد قرداً داخلها، يكون خوفك من النوع المشحون بجمالية سيناريو لست معتاداً عليه.
وبما أن المنتجع يقع بين أحضان الطبيعة فإنه يوفر باقة متكاملة من النشاطات، بدءاً من المغامرات التي يمكن الاستمتاع بها بين ربوعه وصولاً إلى رحلات استكشاف غابة نيونغوي، ومنها نشاطات مجانية مثل رمي الرمح في أحد أعلى الأماكن المحيطة بالمنتجع، أو ممارسة الرماية بالسهام عند قمة التلة.
وهي ما اخترنا القيام بها.ثمّة نشاطات أخرى في قلب غابة نيونغوي التي شرح لنا أحد المشرفين عليها أنها تأوي إحدى أكثر المجموعات تنوّعاً من رتبة الرئيسيّات (القرود) في أفريقيا، وتُعَدّ واحدة من أقدم الأنظمة البيئية الجبلية.
مؤكداً أنها تحتضن 13 نوعاً من القرود، بما فيها الشمبانزي، ولكن هذه تتطلب رسوماً إضافية. ولا تتوقّف الخيارات الممتعة هنا، بل تستمر مع تجربة الصعود على جسر أعالي الأشجار التي ستبقى محفورة في ذاكرتي طوال العمر.
تستغرق الرحلة نحو ثلاث ساعات وتتطلب لياقة بدنية وحذاءً خاصاً، لأن رحلة الوصول إلى الجسر تتكون في أغلبها من منحدرات حادة في مسارات برية وبين أشجار الغابات، وأحياناً تهطل الأمطار وتصبح الأرض زلقة، بينما تكون رحلة العودة أغلبها صعوداً.عندما وصلنا الجسر الذي يعلو 60 متراً عن سطح الأرض، وصعدنا عليه بحيث لا نكون على مسافات متقاربة،.
لكن عندما وصلت إلى منتصفه توقّفت ذهولاً وخدمني زميلي الذي لم يجرؤ على التقدم من بعدي لبضع دقائق، ووجدت نفسي معلقاً في الهواء بين أحضان الطبيعة وعظمة الخالق. ولا أعرف كيف تجرأت على إخراج هاتفي من جيبي لالتقاط الصور في تلك اللحظة. كانت في الحقيقة لحظات استمتعنا فيها بالتقاط صور رائعة، ووثّقنا مناظر آسرة في المكان، بالإضافة إلى الشعور الغريب بالخوف الجميل.
1000
جمهورية رواندا وتعني «أرض الألف تل»، هي دولة في شرق أفريقيا بمنطقة البحيرات العظمى الأفريقية لشرق وسط أفريقيا، تحدها تنزانيا شرقاً وأوغندا شمالاً والكونغو الديمقراطية غرباً وبوروندي جنوباً، وهي تعد بالإضافة إلى بوروندي من أقاليم الكونغو الكبير.