قراءات وتوقعات مع بدء الأزمة عامها الثالث

الحرب الروسية الأوكرانية.. مآلات وسيناريوهات

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخلت الحرب في أوكرانيا - أو كما تُطلق عليها روسيا: العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا - عامها الثالث، دون مؤشرات تلوح في الأفق حول تسوية محتملة يمكن من خلالها وضع أوزار الحرب التي بلغت أصداؤها العالم برمته، رشحت عنها جملة ضغوطات اقتصادية، وتداعيات متنامية، على صعد عدة، شكلت أوضاعاً خانقة، لا سيما للاقتصادات الناشئة حول العالم. أطلقت أوكرانيا الصيف الماضي «الهجوم المضاد»، الذي لم يؤت نتائج مرجوة منه، ما أفشل «رهان الغرب» على إلحاق الهزيمة بروسيا، بعدما أخفق مسلسل «حزم العقوبات» الأوروبية والأمريكية، المتعاقبة، على روسيا، في ليّ ذراع الكرملين في موسكو، أو إجباره على اتخاذ خطوات للوراء.

كما لم تجدِ المساعدات الأوروبية والأمريكية، والدعم المتصل والمتواصل لأوكرانيا، في تحريك الوضع القائم، بخلاف تغييره، ما خلق «إحباطاً» لدى حلفاء أوكرانيا الغربيين، فضلاً عن شعوب أوروبية «مثقلة»، جراء الدعم الاقتصادي لأوكرانيا، على مدار عامين، زاد وطأة ما تعانيه من ضغوطات محلية.

بلغت حزم المساعدات (المالية، والإنسانية، والعسكرية) المقدمة من الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا، 85 مليار يورو منذ اندلاع الحرب، طبقاً لبيانات كشف عنها رئيس الوزراء الأوكراني، دينيس شميهال.

وتظهر إحصاءات معهد «كيل»، المتخصص في رصد حجم هذه المساعدات، أن واشنطن منحت كييف مساعدات «عسكرية» بقيمة 44 مليار دولار. فيما تصدرت ألمانيا قائمة الدول الأوروبية، المانحة لأوكرانيا، بمساعدات وصلت إلى 18 مليار دولار.

وفيما لا تزال الإحصاءات متضاربة بشأن حصيلة ضحايا وخسائر الحرب للطرفين، فإن الأمم المتحدة وصفت حجم الخسائر في أحدث تقاريرها بـ«المروع». بينما قدّر صندوق النقد خسائر الاقتصاد العالمي، جراء الحرب الروسية الأوكرانية بـ2.5 % من الناتج المحلي الإجمالي.

وهنا يرصد محللون في تصريحات متفرقة لـ«البيان» أبرز السيناريوهات التي تنتظرها الحرب في عامها الثالث، ومدى إمكانية الجلوس إلى طاولة المفاوضات بعد إنهاك جميع الأطراف. وكذلك مدى تأثير التطورات السياسية المرتقبة - الناجمة عن نتائج الانتخابات المنتظرة في عدد من الدول - على الحرب والتعامل معها، خاصة في حالة ما إن فاز الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية، نوفمبر المقبل.

 

توقعات بالاستمرار

يقول المحلل السياسي الروسي، أندريه أنتيكوف: «حالياً لا توجد مؤشرات تؤكد أن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا ستنتهي في وقت قريب»، مبرراً ذلك بموقف كييف الرافض لفكرة الحوار مع موسكو، المتقبلة له، والمنفتحة عليه، لدرجة أن أوكرانيا تبنت قانوناً يمنع إجراء أي مفاوضات مع الجانب الروسي.

وتطرقت تقارير إلى ضغوطات أوروبية، في الكواليس، على أوكرانيا، للقبول بالمفاوضات مع روسيا، للتوصل إلى حلول وسط، إلا أن الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، نفى سابقاً وجود ضغوطات أوروبية أو أمريكية على بلاده، للانخراط في مفاوضات أو التنازل عن شيء ما، على حد تعبيره. كما لا يزال حلفاء كييف مستمرين في دعمها.

ويفسر أنتيكوف في حديثه مع «البيان»، ذلك بوجود مطالب أوكرانية، ملحة، من روسيا بضرورة تخليها عن المناطق الأربع التي سيطرت عليها موسكو في أعقاب الحرب، وهي: لوهانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون. كذلك عن شبه جزيرة القرم، وهو شرط مرفوض روسياً، إذ تصر موسكو على أن تكون المفاوضات مع كييف قائمة على الواقع الحالي، القائم في ساحات القتال.

شروط موسكو

ويعدد أنتيكوف قائمة شروط موسكو، قائلاً: «تطالب روسيا بتحديد عدد الأسلحة المستخدمة في أوكرانيا، وحيادها بعدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو»، أو الاتحاد الأوروبي، وحظر الأحزاب، والحركات القومية»، مسلطاً الضوء على موقف كل منهما عسكرياً، حيث يضيف: «في ساحة القتال، تم تحرير أفدييفكا، المدينة الواقعة إلى الشمال من عاصمة إقليم دونيتسك، وهو إنجاز كبير للجيش الروسي، وبذلك موسكو أكثر استعداداً لتحقيق مزيد من التقدم في ساحات القتال».

ويفيد بأن ما عزز معنويات الجيش الروسي، هو فشل أوكرانيا في «الهجوم المضاد» الصيف الماضي، رغم التجهيزات التي أعدت له، و«رهانات الغرب» على كسر التفوق العسكري الروسي، وإجبار القوات على التراجع، ما رسّخ قوة موسكو على الأرض، وبعث «رسائل واضحة» إلى كييف وحلفائها الغربيين.

تباهى المسؤولون الروس، في غير مناسبة، بالتقدم المتحقق في الميدان، مؤكدين تكبّد الاتحاد الأوروبي لخسائر كبيرة، جراء دعمها القائم لأوكرانيا، في طليعتهم، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عندما صرح يناير الماضي، أن «الغرب أراد هزيمة بلاده من خلال العقوبات، ودعم أوكرانيا، غير أنه هو الذي تضرر جراء ذلك».

كما سبق ووصف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الولايات المتحدة بأنها «دمّرت أوروبا»، وقال إن أمريكا تضر بمن وصفهم بـ«أتباعها الأوروبيين»، كما أن واشنطن تعرّضهم للإفلاس، مستفيدة على الجانب الآخر في تحقيق مكاسب اقتصادية واسعة جراء ذلك (في إشارة للصادرات الأمريكية من الغاز المسال إلى أوروبا).

ويتابع أنتيكوف أنه وفق تقارير رسمية تعاني أوكرانيا نقصاً حاداً في الأسلحة والجنود، ذلك يدفعها إلى تبني قانون جديد للتعبئة، وتجنيد 500 ألف جندي إضافي، للمشاركة في القتال.

ويؤكد أنه حال موافقة الولايات المتحدة على ضخ المزيد من المساعدات، عسكرية أو مالية، لأوكرانيا، فإن أمد الحرب سيطول، لكن حالما قطعت هذه المساعدات حينها ستكون الطريق مفتوحة أمام الجيش الروسي في حصد المزيد من التقدم على الأرض، بالتالي سيقرب موعد المفاوضات.

ويعتقد أنتيكوف بأنه حال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، سيقترب مصير حسم الحرب، أما حال كسب الديمقراطيون وبقوا في البيت الأبيض، فسوف يطول أمد الحرب، ولن تنتهي في القريب المنظور.

 

سيناريوهات متوقعة

يصرح الباحث ومدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ديمتري بريجع، لـ«البيان»، إن «التوقعات لأوضاع أوكرانيا في العام الثالث من الحرب محل تشدد وتحسنات محتملة، وهو سيناريو يعكس الدوران المستمر للأحداث في المنطقة.. من الممكن أن يزداد التصعيد خلال الأشهر المقبلة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في روسيا، حيث يرى بعض الفاعلين السياسيين في روسيا فرصة لاستخدام التوتر في أوكرانيا لتعزيز مواقعهم».

لكنه عاد وتوقع حدوث «تغييرات سياسية دولية تسهم في تخفيف التوترات، وربما يكون هناك توجه نحو سياسة جديدة في أوكرانيا. ومع ذلك، يبدو أن حلولاً شاملة للمشاكل الدائرة حول أوكرانيا، بما في ذلك النزاع في المناطق الشرقية التي ضمتها روسيا، ليست قريبة المنال في المستقبل القريب». ويضيف: «يتعين علينا الاستعداد لاستمرار الوضع المعقد في المنطقة، مع الأمل في أن تتجه الأحداث نحو الاستقرار والحوار في الفترة الزمنية المتوسطة إلى الطويلة».

ويحلل الباحث في مركز الدراسات العربية الأوراسية الموقف، قائلاً: «الغرب قد يفرض المزيد من العقوبات على روسيا بسبب وفاة المعارض الروسي، ألكسي نافالني، وفي نفس الوقت الدعم الحالي المقدم منهم لأوكرانيا غير كافٍ، إذا ما أضفنا إلى ذلك قرب الانتخابات الرئاسية الروسية، فقد تكون هي الأخرى عاملاً لمزيد من اشتعال الحرب! لذا، المعركة طويلة الأمد وليست بالسهلة».

ويطرح الباحث في الشأن الروسي عدة أسئلة حال الإجابة عنها سيتضح الموقف: «هل سيتم قبول وجود بوتين في السلطة أم لا حال الموافقة على التفاوض؟ هل سيتم الضغط على أوكرانيا للتفاوض مع روسيا؟ هل سيستمر الدعم الغربي لكييف لمواصلة حربها ضد موسكو؟».

ويواصل: «الانتخابات الأوكرانية المقبلة ستكون على صفيح ساخن بين زيلينسكي، والقائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوجني، الذي استقال من منصبه، وهو يمتلك شعبية ضخمة تصل إلى 80 % (مقابل زيلينسكي 60 %). هذا يعني أن سياسة زيلينسكي تسببت في خسارة له في الداخل الأوكراني».

مخاوف غربية

رصدت تقارير، نهاية العام الماضي، معلومات حول لقاءات ومحادثات جمعت مسؤولين أوروبيين وأمريكيين، تضمنت مفاوضات سلام محتملة بين أوكرانيا وروسيا، بهدف إنهاء الحرب المستمرة منذ 24 فبراير 2022.

وطبقاً لما كشفت عنه تلك التقارير، فإن المحادثات تضمنت وضع خطوط عريضة لما يمكن أن تتخلى عنه كييف في سبيل التوصل إلى «اتفاق سلام» ينهي الحرب مع موسكو، في وقت تثار مخاوف غربية من بلوغ الحرب طريقاً مسدوداً، في ظل عدم قدرة الأوروبيين والأمريكيين على مواصلة دعم أوكرانيا (جراء الكلفة الباهظة التي تتكبدها بروكسل في سياق دعمها لكييف، في ظل ما تعانيه الاقتصادات الأوروبية من ضغوطات واسعة، تحمل في طياتها تأثيرات اجتماعية، وتداعيات سياسية أوسع).

بيد أن محللين استبعدوا هذا السيناريو على المدى المنظور، خاصة مع تعنّت جميع الأطراف، وتمسكهم الثابت بمواقفهم، رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون، المثقلون بـ«فاتورة اقتصادية باهظة»، جراء الدعم، علاوة على «فاتورة بدائل الغاز الروسي» بعدما فطمت أوروبا نفسها عنه، أول الحرب، وتوجهها لمصادر بديلة - على رأسها الغاز المسال الوارد من الولايات المتحدة - أغلى في تكلفته من الغاز الروسي.

بينما يعتقد مراقبون أن الوضع مرشّح للاستمرار على ما هو عليه، لجهة حرب «استنزاف» طويلة، لا غالب فيها حالياً، فيما يرجّحون أن تؤثر التطورات السياسية والانتخابات المرتقبة، مثل: الانتخابات الرئاسية الروسية ونظيرتها الأمريكية، على مجرى الحرب، ومسارها المحتمل، مع إمعان النظر في احتمالات تغيير اتجاهات السياسات وفق نتائج الانتخابات.

 

تسوية غير مطروحة

إلى ذلك يقدّر المحلل السياسي، الأستاذ في مدرسة الاقتصاد العليا الروسية، رامي القليوبي، أن العام الثالث للحرب ستتواصل فيه عملية الاستنزاف العسكري والاقتصادي لأوكرانيا مع تحقيق روسيا بعض الانتصارات التكتيكية كالسيطرة على بعض البلدات والمدن.

ويقول: «هذه الانتصارات ستكون تكتيكية، وليست استراتيجية، فمن الواضح أن روسيا غير قادرة على إحكام السيطرة على المدن الكبرى، مثل: كييف أو أودسيا، إذ تدور المعارك في محيط المناطق التي ضمتها إلى سيادتها».

ويؤكد القليوبي أن «حدوث تسوية أمر مستبعد، لأن الوضع في أوكرانيا أصبح يشبه شمال قبرص، أو جزر الكوريل، المتنازع عليها بين روسيا واليابان، فحسب القانون الدولي لا يجوز تجزئة الدول، لكن في نفس الوقت، الشعوب لها حق تقرير المصير».

ويتوقع الأستاذ في مدرسة الاقتصاد العليا الروسية أن «السيناريو الأقرب هو تجميد النزاع مع الاعتراف الغربي الضمني بالوجود الروسي في مناطق شرق أوكرانيا دون وجود اعتراف دولي رسمي».

Email