أوراق ضغط متفاوتة يمتلكها الطرفان

روسيا والغرب.. حرب «النفس الأطول»

Untitled-design-92

ت + ت - الحجم الطبيعي

«إن إحدى المعجزات الكبرى، والحقائق غير المبررة، هي المرونة التي يتمتع بها الاقتصاد الروسي.. عندما فرض الغرب عقوبات على موسكو، مباشرة بعد الهجوم الشامل على الأراضي الأوكرانية، كان الأمل هو أن العقوبات ستؤدي إلى إلحاق الضرر بروسيا (..) وبما يؤثر على قرارات الكرملين وربما يوقف الحرب.. لكن ذلك لم يتحقق أبداً».

هذا الاقتباس من مقدمة مدير مركز «كارنيغي موسكو»، ألكسندر غابويف، لحلقة إذاعية بعنوان: «ما سر مرونة الاقتصاد الروسي؟» تناولت تبعات الحرب في أوكرانيا على روسيا، وكيف بدت موسكو «صامدة» في مواجهة التحديات؟

هذا «الصمود» الذي يستخدمه المسؤولون الروس في الدعاية السياسية، والاستهلاك المحلي، على رأسهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي قال في تصريحات سابقة له، فبراير الجاري، إن الغرب أراد انهيار بلاده اقتصادياً، لكنه فشل في ذلك، منوّهاً في الوقت نفسه بالتداعيات الاقتصادية التي يعاني منها الغرب ذاته، جرّاء سياساته!

لا يقتصر الأمر على الداخل الروسي فحسب، بل تبرز تقارير غربية عدّة هذا «الصمود»، أو «المرونة»، فتحلل العوامل الأساسية المحركة له، لاسيما أن 12 حزمة من العقوبات الغربية - تشمل نحو 1800 فرد وكيان - لم تكن كفيلة بإجبار روسيا على تغيير موقفها، أو حتى لهجتها.

بينما على الجانب الآخر، تسمع أصوات المجتمعات الغربية تئن تحت وطأة ضغوطات اقتصادية، ومخاوف مختلفة، مردّها الرئيس تداعيات الحرب الأوكرانية، حتى أن بعض تلك الأصوات، تؤيد التوقف عن دعم كييف، لاسيما بعد إخفاقها في «الهجوم المضاد»، العام الماضي، وتحقيق أهدافه التي كان يعوّل عليها، بشكل أو بآخر، في إحراز تقدّم يغيّر المعادلة على الأرض. بعد عامين من الحرب، يأتي المشهد معاكساً تماماً، لما كان يأمله الأوروبيون، ويسعون إليه، فيما لا تزال هناك جملة أوراق يلوّحون باستخدامها على سبيل التصعيد أمام موسكو، التي تمتلك من جانبها «كروت» ضغط موازية، تمكّنها من المواجهة في حرب «النفس الأطول».

وبينما تدنو الحرب من إتمام عامها الثاني، بما لها من تداعيات واسعة على جميع الأطراف المنخرطة فيها، لا يبدو التصعيد بين روسيا والغرب مرشحاً للتهدئة، أو الوصول إلى حلول وسط، حتى مع الآثار الوخيمة التي تركها الصراع على قطاع الطاقة لدى الجانبين، بصورة أو بأخرى.

يعدّ ما يمكن وصفه بـ«صراع الأصول» ضمن حلقات التصعيد المستعرة بين الجانبين، فبعد تهديدات روسية - أوردتها وسائل إعلام في العاصمة موسكو- بخسارة الغرب زهاء 288 مليار دولار، حال أقدم على مصادرة أصول روسية مجمدة (تقدّر بـ300 مليار دولار)، للمساعدة في إعادة إعمار أوكرانيا، مع قيام روسيا بـ«الرد بالمثل» على تلك الخطوة.

يأتي ذلك في إطار سياسة «شدّ الحبل» بين الجانبين، والتلويح بالتصعيد المباشر، وبعد «حزم عقوبات» أوروبية، واسعة النطاق، غير مسبوقة، تم تطبيقها على روسيا، فيما يعدّ مراقبون أن الغرب كمن أطلق النيران على قدميه، في إشارة لتضرره من تبعات «العقوبات الأوروبية» أيضاً! بما في ذلك، اضطراره لتحمل كلفة أعلى لواردات الغاز المسال بديلاً عن الغاز الروسي الأرخص، والأسرع.

 

أصول روسية

من لندن، يقول خبير الاقتصاد الدولي، محمد يسلم ولد الفيلالي، لـ«البيان»، إنه فيما يخص التصرّف في الأصول المالية الروسية المجمدة، هناك وجهتا نظر في هذا الموضوع، الأولى: هي أنه يمكن تطبيق العقوبات، لكن بشروط عدم خرق القانون الدولي، ما يبرز إشكالية الفرق بين تجميد الأصول والتصرف فيها. بمعنى آخر، يسمح القانون الدولي بتجميد الأصول، لكنه لا يسمح بتحويلها أو التصرف فيها، ويعرف هذا بـ«نموذج العقوبات - Sanctions Paradigm»، وهو موقف القانونيين في الاتحاد الأوروبي. فيما وجهة النظر الثانية: تلمّح إلى «تجربة العراق»، استناداً لما يعرف في القانون الدولي بـ«التدابير المضادة».

ويضيف الفيلالي: «أعتقد بأن الموقف الأول أكثر ترجيحاً، كونه يأخذ بعين الاعتبار أهمية الحصانة في القانون الدولي، وما لذلك من أهمية للبنية التحتية المالية العالمية في السياق الحالي».

تتصاعد الأصوات الغربية، خاصةً الأمريكية، في الآونة الأخيرة، للدفع صوب «مصادرة أصول روسية» في عواصم أوروبية، واستعمالها في «إعادة إعمار أوكرانيا»، في خطٍ متوازٍ مع الكلفة الباهظة التي تتكبدها الاقتصادات الأوروبية، جرّاء المساعدات المقدمة لكييف.

غير أن روسيا تعد ذلك الأمر - حال حدوثه - «عملاً عدوانياً»، يستوجب رداً بالمثل، من شأنه أن يكلّف أوروبا 288 مليار دولار خسائر محتملة، حال جاء رد موسكو على نفس النهج. كما تم تقدير قيمة تلك الخسائر بحساب حجم الأصول المرتبطة بدول أوروبية في روسيا، التي تلوّح بها موسكو كـ«ورقة ضغط موازية»، حال اتخاذ الغرب، القرار الأكثر خطورة في التصعيد بين الجانبين.

وتبنى الاتحاد الأوروبي، مطلع الأسبوع الماضي، قانوناً يحجز أرباح «أصول مجمّدة»، يملكها البنك المركزي الروسي، في أول خطوة ملموسة نحو هدف التكتل المتمثل في استخدام الأموال لتمويل مشروع «إعادة إعمار أوكرانيا». بينما علقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بالقول حينها: «هذه سرقة، إنها استيلاء على شيء لا يخصك»، بحسب ما نقل عنها «راديو سبوتنيك»، محذرة من رد قاسٍ، لأن «روسيا تشعر أنها تتعامل في الواقع مع لصوص»، وفق تعبيرها.

يأتي ذلك في وقت تلوّح روسيا إلى سياق «الرد بالمثل» عبر مصادرة أصول أوروبية وأمريكية.

الاقتصاد الروسي

أما ما يتعلق بوضع الاقتصاد الروسي عموماً، يلفت الفيلالي إلى أنه من المتوقع أن يشهد نمواً أسرع من اقتصادات مجموعة السبع خلال العام الجاري. يعزى هذا النمو، جزئياً، إلى الزيادة الكبيرة في الإنتاج الصناعي، خاصة في مجالات الأسلحة، والطائرات، والمركبات.. إلخ، ما يزيد فرص العمل، ودعم استقرار التوظيف. ويتابع: «بقيت الآثار أخف مما اعتقده الكثيرون، ذلك لأسباب، منها: جهود روسيا التراكمية في مواجهة التوترات «الجيواقتصادية»، حيث اتخذت إجراءات استراتيجية وقائية (على غرار الصين).

تتضمن الإجراءات الوقائية نظام تسوية، لتفادي نظيره «سويفت SWIFT»، ونظاماً للدفع، لتفادي أنظمة الدفع المحسوبة على الغرب (بمقتضى الضرورة)، وتشكيل شراكات تجارية استراتيجية مع الصين، والهند، ودول أخرى، فضلاً عن المشاركة في أسواق خارج «الحيّز الغربي».

جدير بالذكر أن هذه الأنظمة كانت جاهزة للاستخدام حتى قبل الأزمة الأوكرانية، نظراً لأنها كانت تعد وسائل أو أدوات وقائية، لمواجهة أي تحديات «جيواقتصادية» محتملة في المستقبل.

اقتصاد حرب

بالتالي، ووفق الفيلالي، انتقل الاقتصاد الروسي، تدريجياً، نحو اقتصاد الحرب، والاكتفاء الذاتي الصناعي الجزئي، مدعوماً بالصادرات الاستخراجية، والواردات من الشركاء الاستراتيجيين، مثل: الصين، والهند.

من ناحية أخرى، ورغم النمو الاقتصادي في روسيا، إلا أن التغيير الذي شهدته تركيبة الاقتصاد الروسي، خلال العامين الأخيرين، كـ«رد فعل» على العقوبات الغربية، غالباً يمثل تحدياً، على المديين المتوسط والبعيد.

حقق الاقتصاد الروسي نمواً ٣.٦% في 2023 (الأعلى خلال العقد الماضي)، فيما سجّل الناتج المحلي انكماشاً ١.٢% في 2022، ومن البيانات الإيجابية التي يشهدها الاقتصاد الروسي أيضاً، تراجع معدلات البطالة، العام الماضي، إلى مستوى تاريخي عند ٢.٩%.

سابقة عالمية

من موسكو، يصرح الباحث السياسي، الدكتور رامي القليوبي، لـ«البيان»، بأنه يتعيّن وضع «حرب الأصول» في سياقها، فهي في الأساس أصول روسية، مملوكة للمصرف المركزي الروسي، كانت مودعة لدى الغرب، والأخير وضع يده عليها، فجمدها بداية الحرب الأوكرانية، في سابقة عالمية لتجميد أصول مصرف مركزي لدولة كبرى، بعدما كانت مثل تلك الإجراءات تقتصر على دول ليست بحجم روسيا، مثل: إيران، وسوريا، وليبيا، وفنزويلا، وحتى كوريا الشمالية. لكن الآن يطبّق هكذا إجراء بحق روسيا.

ويضيف: «لا شك أن صورة الغرب في المجمل تتضرر أمام هذه الإجراءات، كونه أظهر أمام العالم، أن دوله عديمة ضمانات الاستثمار، ويتم ربط الملفات الاقتصادية بمثيلتها السياسية، ما دفع دول نحو تعزيز علاقاتها مع روسيا، خوفاً على سلامة أصولها لدى الغرب».

ويرجّح القليوبي، في سياق «حرب الأصول»، أن تقدم الولايات المتحدة على هذه الخطوة، وتسلّم الأموال الروسية إلى أوكرانيا، لإعادة إعمارها، وحتى استثمارها، لكن أمريكا لن تتضرر كأوروبا، نظراً لأنها تمتلك الاقتصاد الأكبر عالمياً، من جهة القيمة الاسمية للناتج المحلي الإجمالي، لذا فهي الأقل تضرراً من التذبذبات الاقتصادية التي تعاني منها أوروبا».

كما نأت روسيا باقتصادها الذي نجا من انكماش ذي تداعيات كارثية على الأوضاع المحلية كافة. عزّز ذلك جزئياً الإيرادات المحققة من قطاع الطاقة على الرغم من العقوبات الغربية، سواء من خلال عمليات «الالتفاف على العقوبات»، وحتى إعادة توجيه الصادرات لأسواق بديلة في آسيا (وإن كانت بأسعار أقل لكل من: الصين والهند)، إيرادات حققت حوالي 8.8 تريليونات روبل في 2023، مثلت مستوى قياسياً في المتوسط خلال عقد، رغم أنها أقل ٢٥% عن 2022.

 

السياسات الغربية

المحلل السياسي الروسي، ديمتري بريجع، يقول لـ«البيان»: «من الواضح أن السياسات الغربية (العقوبات بشكل خاص) فشلت في إحراز أي تقدم بالنسبة لهم، بل إن تلك السياسات تسببت، بشكل واضح، في تعميق المشكلات الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي، والشركات الأوروبية، التي جمدت علاقاتها مع روسيا، بما كبدهم خسائر اقتصادية فادحة، بينما، في المقابل، استفادت من السياسات الغربية دول، مثل: الصين والهند، لجهة رفع تعاملاتها مع روسيا، والاستفادة من صادراتها.

ويلفت بريجع إلى أن «الاقتصاد الروسي منذ 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، استفاد من جملة ركائز أساسية، حدّت من تأثير وفاعلية العقوبات الغربية (12 حزمة)، تتضمن: العلاقات القوية مع «الدول الصديقة» التي لم تفرض من جانبها عقوبات على موسكو، ولم تنحاز إلى السياسات الغربية وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، كما تم استغلال بعض تلك العلاقات من أجل «التحايل على العقوبات» بشكل أو بآخر.

وبين الركائز الأساسية أيضاً، التخطيط الاقتصادي الداخلي، المتمثل في جملة إجراءات وقرارات، لعبت دوراً في تخفيف وطأة العقوبات الغربية، علاوة على التقدم في المجال التكنولوجي، الذي شكّل «حائط صد قوياً»، جنباً إلى جنب و«العملات الرقمية»، التي مكّنت «التحايل على العقوبات»، بحسب بريجع.

وينوّه بأن المؤشرات الاقتصادية تبرهن على صمود الاقتصاد الروسي في مواجهة العقوبات الغربية (ما تؤكده تقديرات صندوق النقد الدولي، التي رفعت معدل النمو المحتمل للاقتصاد الروسي بـ١.٥% إلى ٢.٥%، مقارنة بتقديرات سابقة. كما تتوقع الحكومة الروسية نمواً ٢.٦% خلال (2025-2024).

Email