الحرب في أوكرانيا.. مآلات متوقعة في 2024

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

سجلت سنة 2023 عديداً من المحطات البارزة في مسار الحرب في أوكرانيا، والممتدة من الرابع والعشرين من شهر فبراير من سنة 2022، وهي محطات ألقت بظلال وخيمة أثقلت كاهل «جميع الأطراف» المنخرطة فيها، مع استمرار تداعياتها الأوسع في أنحاء العالم، بينما لا تلوح في الأفق بوادر تسوية سياسية يُمكنها أن تخمد نيران الحرب التي تهدد بتوسعها وامتدادها على نطاقات أوسع.

وعلى الرغم من حالة الجمود النسبي التي شهدتها ميادين وجبهات الحرب الرئيسة، لجهة مناطق السيطرة وفرض النفوذ الرئيسة، إلا أن سنة 2023 التي تشارف على نهايتها حفلت بالعديد من التطورات على صعد مختلفة، ومنها الميداني ولعل النقطة الأبرز على الأرض كانت الهجوم الأوكراني المضاد.

في منتصف العام بدأت كييف هجومها المضاد بهدف استعادة الأراضي التي تمكنت القوات الروسية من السيطرة عليها، وسعت أوكرانيا لاختراق الخطوط الروسية الدفاعية بطول 800 كم، وهي منطقة حصنتها روسيا بالحواجز والخنادق ومواقع إطلاق النار والمدفعية، كما سعت كييف من الهجوم المضاد إلى قطع خطوط الإمداد الروسية إلى شبه جزيرة القرم.

وعلى الرغم من الدعاية الواسعة التي حظي بها الهجوم في الأشهر التالية لانطلاقه، والأنباء الواردة من الجبهات في ما يخص حالة التقدم، فإنه تعرض لانتكاسات واضحة أفضت في الأخير إلى اعترافات أوكرانية بعدم تحقيق أهدافه، وهو ما شكّل خيبة أمل واسعة في الغرب.

وبالنسبة لحلفاء أوكرانيا الغربيين، كان الرهان كبيراً على الهجوم المضاد في إمكان أن يغير المشهد على الأرض، وكانوا قدّموا لكييف في بداية العام مساعدات عسكرية نوعية وطرزاً جديدة شكلت تحولاً في حجم وطبيعة المساعدات العسكرية منذ بداية الحرب، ومن بينها مد أوكرانيا بالمزيد من دبابات ليوبارد الألمانية وأبرامز الأمريكية، وأنظمة صاروخية متطورة (ومنها أنظمة بعيدة المدى استخدمتها أوكرانيا المرة الأولى) علاوة على دعم تصنيع المسيرات في أوكرانيا، من أجل موازنة القوى.

تراجع الدعم

غير أن معادلة الدعم «اللامحدود» شهدت انعطافة مفصلية، في ضوء تصاعد الأصوات داخل بلدان أوروبية - تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية وما تفرضه الضغوط التضخمية من أزمات تثقل كاهل الأوروبيين - إلى إعادة النظر في تمويل أوكرانيا، وهو ما تجلى أخيراً في موقف رئيس الوزراء المجري على سبيل المثال (الذي أعاق صدور قرار بمساعدة أوروبية لأوكرانيا بقيمة 50 مليار يورو)، وكذلك الحال بالنسبة للكونغرس الأمريكي الذي لم يستطع بعد حسم اتفاق جديد بخصوص تمويل أوكرانيا في وقت تنفد مخصصات هذا الدعم التي تمت الموافقة عليها سابقاً.

وتبعاً لتلك المعطيات، تتباين سيناريوهات الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وسط تأثيرات دولية متزايدة تثير عديداً من التساؤلات عن مستقبل هذا الصراع المعقد، بينما يشهد العالم حالة من الترقب والقلق حيال الأحداث الجارية، مع تأثيرات محتملة في السياسات الدولية والاقتصاد العالمي.

وتحظى أوكرانيا بدعم الولايات المتحدة وحلفائها في الاتحاد الأوروبي - الذي فتح الباب أمام عضوية كييف في ناتو أخيراً- والذين يرون في دعمهم لكييف فرصة للدفاع عن النظام الدولي ومواجهة محاولات التوسع الروسي، وبذلك فإن استمرار الحرب في أوكرانيا يعد تحدياً كبيراً للمجتمع الدولي، وهو ما يستدعي استمرار الدعم الدولي لأوكرانيا في تقدير داعمي كييف.

وفيما يرى الداعمون لأوكرانيا تحدياً حاسماً يمكن أن يؤثر في مستقبل النظام الدولي، ويبرزون أن الاستمرار في دعم أوكرانيا يبرز استمرار الالتزام بالقيم والمبادئ الدولية، ويعد تصعيد الأزمة أمراً فاصلاً وحاسماً في هذا السياق، غير أنه على الجانب الآخر تثار اضطرابات في تلك المواقف ونذر تخلٍّ عن دعم كييف من جانب بعض القوى الغربية، لدواعٍ اقتصادية مرتبطة بفاتورة الحرب التي أنهكت تلك البلدان وتشكل عبئاً.

وتشكل هذه المعضلة (ما بين الرغبة في مواصلة دعم أوكرانيا، والأصوات المنادية بالتوقف عن دعمها بسبب الفاتورة الاقتصادية الباهظة لذلك الدعم) المحك الرئيس الذي يحدد مدى قدرة أوكرانيا على الاستمرار في المواجهة بدعم من حلفائها.

النظام الدولي

ويقول عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، الدكتور أشرف سنجر، لـ«البيان» من القاهرة، إن من المرجح أن يستمر الوضع (في ما يخص الحرب في أوكرانيا) في الاستنزاف بين الطرفين، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن الولايات المتحدة والغرب لا يمكن أن يتوقفا عن دعم كييف، إذ يريدانها ألّا تستسلم.

في تحليل سنجر، فإن الأزمة في أوكرانيا ترتبط بشكل أساسي بالنسبة للولايات المتحدة وحلف ناتو والدول الأوروبية بشكل وطبيعة النظام الدولي القائم، وترى واشنطن أنه بإعطاء موسكو الفرصة لهزيمة كييف فإن ذلك يعني فتح المجال أمام من تصفهم الولايات المتحدة بالدول المارقة لأن تحذو حذو موسكو، وبذلك فإن احتساب الحرب في أوكرانيا «أزمة فاصلة وحاسمة» في مستقبل النظام الدولي، يدفع حلفاء كييف إلى مواصلة دعمها، على الرغم من الأصوات الداخلية المناوئة لذلك الدعم.

وكذلك لا يعتقد عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية بأن أي رئيس أمريكي قادم - وحتى لو كان ترامب - يُمكنه أن يتخذ موقفاً آخر غير الموقف الداعم لأوكرانيا، مستشهداً في الوقت نفسه بطرح الكونغرس مشروعاً يحد من صلاحيات وقدرة الرئيس على الانسحاب من ناتو، وهو ما يعني الكثير بالنسبة لحرب أوكرانيا حال تولي ترامب الرئاسة في الانتخابات المقبلة.

ويشدد سنجر على أن «الولايات المتحدة (التي أنفقت أكثر من 100 مليار دولار على دعم أوكرانيا) تنظر إلى أن انكسار كييف وهزيمتها يعنيان انكسار تايوان أمام الصين، ويعنيان إعطاء المساحة للدول المارقة - وفق التصنيف الأمريكي - كروسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، والتي لا تتماشى مع النظام الدولي الذي تهمين عليه واشنطن.. وبذلك يبقى دعم أوكرانيا ملفاً جوهرياً بالنسبة لها».

وتواجه روسيا عديداً من التحديات الداخلية، في وقت سجلت سنة 2023 واحداً من أبرز التطورات المثيرة للجدل، والمرتبطة بـ«تمرد مجموعة فاغنر»، غير أن مراقبين يحذرون من أن العوامل الداخلية في روسيا تضغط على الكرملين بشكل كبير، وعلى الرغم من الأداء المتماسك نسبياً للاقتصاد، فإن هذا الضغط من شأنه أن يلقي بمزيدٍ من التحديات على بوتين لحسم الحرب.

تصعيد محتمل

ولا يعتقد مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، الباحث في جامعة الصداقة بين الشعوب بموسكو، ديمتري بريغع، بأن الحرب يُمكن أن تنتهي بسرعة، واصفاً - في تصريحات لـ«البيان» - هذه الحرب بـ«المفصلية».

وعلى الرغم من الجمود النسبي على الجبهات في الفترات الأخيرة من سنة 2023، فإن ثمة تصعيداً محتملاً في تقدير بريغع، الذي يشير إلى المقاطعات الأربع (لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون)، وهي ليست تحت سيطرة كاملة للقوات الروسية، وبذلك «إذا ما بقيت القوات الأوكرانية في جزء من هذه المناطق، فإن ذلك سيسبب حرجاً للرئيس فلاديمير بوتين.. وتبعاً لذلك، فإن موسكو تتجه نحو التصعيد لبسط السيطرة على هذه المناطق، وبعدها يمكن الحديث عن مفاوضات».

ويضيف: «لا أعتقد بأن الرئيس بوتين سوف يستسلم ويترك المعركة من دون تغيير، أو يتنازل بخصوص هذه المناطق التي هي مرتبطة بمستقبل سياساته ونجاحه في المستقبل وحفاظه على السلطة والوضع الداخلي في روسيا والنظام السياسي الحالي.. وأعتقد بأن الرئيس الروسي سيستخدم استراتيجية خاصة للاحتفاظ بهذه المناطق عبر هجوم واسع النطاق على جبهات متعددة، ولا سيما إذا شعر بأن الطرف الأوكراني يخسر ولا يحصل على دعم من حلفائه».

ويتحدث هنا الباحث في جامعة الصداقة بين الشعوب بموسكو، عن المعضلة التي يواجهها الجانب الأوكراني، والمتمثلة في أن بعض الدول (الأوروبية) بدأت تتنازل أو تريد التخلص من الملف الأوكراني، باحتسابه يضرب اقتصادها ويسبب لها مشكلات اقتصادية كبيرة، ومن ذلك مشكلات مرتبطة بسلاسل التصدير والاستيراد «ولذلك أعتقد بأنه في نهاية الأمر سيتم حل الأزمة عبر المفاوضات».

وكان البيت الأبيض حذر الكونغرس، في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، من نفاد المال والوقت لمساعدة أوكرانيا في حربها، ذلك أن ملف تمويل أوكرانيا يخضع للتجاذبات بين الديمقراطيين والجمهوريين، وسط انقسامات واسعة، ولا سيما أن الديمقراطيين يرهنون الموافقة على تمرير حزمة جديدة من التمويلات لأوكرانيا بتنازلات من جانب الديمقراطيين في ما يتعلق بملفات الهجرة غير الشرعية وأمن الحدود.

وتبحث مجموعة السبع عن أدوات بديلة لتمويل كييف، ومن بينها مصادرة أصول البنك المركزي الروسي لتمويل أوكرانيا في حربها، ولا سيما مع تمدد الخلافات الأوروبية، وكذلك الانقسامات الأمريكية في الكونغرس حيال ملف تمويل أوكرانيا.

انتخابات 2024

في ما يتعلق بتأثير الانتخابات المرتقبة في كلٍ من روسيا والولايات المتحدة (في سنة 2024)، يقول بريغع إنه في موسكو، الأمر شبه محسوم للرئيس بوتين، ولا سيما أن نظام التصويت الإلكتروني يساعده على بسط السيطرة، بينما في ما يتعلق بالانتخابات الأمريكية، فنتائجها ذات تأثير في الحرب، باحتساب أن الديمقراطيين يدعمون استمرار الحرب، بينما هناك جزء من الجمهوريين يريدون أن يكون هناك تفاوض لإنهائها.

يأتي ذلك في وقتٍ يعتقد مراقبون بأن تفاقم فاتورة وخسائر الحرب ربما يدفع في نهاية المطاف إلى مفاوضات حاسمة تُنهي الأزمة بين البلدين، قد تشهد بعضاً من التنازلات الأوكرانية، وهي المفاوضات التي تسعى إلى دعمها بعض البلدان الأوروبية، ولا سيما أن أوروبا تدرك حقيقة أنها من بين الأطراف الخاسرة، سواء الخسائر المتمثلة في تكلفة دعم وتمويل أوكرانيا أو الخسائر المرتبطة بأثر العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على مدى العامين الماضيين في روسيا، وبذلك فإن أوروبا تدفع فاتورتها إلى جانب كل من روسيا وأوكرانيا.

استفادة أمريكية

تظل الولايات المتحدة الأمريكية، المستفيد من هذا المشهد - طبقاً لوصف الأكاديمي والباحث السياسي، رامي القليوبي في تصريحات سابقة لـ«البيان» - ولا سيما لجهة استفادتها من تصدير الغاز المسال وبأسعار مرتفعة، بما يجعلها الطرف الأقل تضرراً من استمرار الحرب بشكل عملي، بينما تواجه أوروبا ضغوطاً اقتصادية ومخاوف متصلة بأزمة الطاقة وتوفير الإمدادات الملائمة، ولا سيما أنها كانت تعتمد بشكل أساسي على واردات الغاز من روسيا عبر الأنابيب.

وتبعاً لذلك، يعول مراقبون على دول أوروبية يمكن أن تكون حاسمة في الدفع بملف المفاوضات إلى الواجهة وإقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ببعض التنازلات، وهو سيناريو مرفوض من الأخير الذي لا يزال يحشد الرأي العام الأوروبي لمصلحة مواقف بلاده، ويدعو لمزيد من المساعدات من أجل دعم كييف في حربها.

Email