تفاقم فاتورة الحرب هل يعجّل بـ«مفاوضات سلام» روسية أوكرانية؟

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما تتسارع المخاطر الجيوسياسية في بقع مشتعلة حول العالم، وفي خضم تفاقم فاتورة الحرب الأوكرانية، تطفو إلى السطح أنباء متصلة بمدى إسهام هذه التطورات في التعجيل بمفاوضات سلام تنهي الحرب في أوكرانيا، لاسيما في ظل كلفة الدعم الباهظة التي يقدمها الغرب، الأوروبي، والأمريكي، لكييف، فيما لم تستطع الأخيرة، عملياً، تحقيق انتصار ملموس في الميدان، تعيد من خلاله السيطرة على الأراضي التي فقدتها.

تتزامن فاتورة الدعم الغربي، المكلفة، مع أوضاع اقتصادية داخلية ضاغطة، في خط متوازٍ مع الضغوطات التضخمية التي تواجهها الاقتصادات الأوروبية، وغيرها من الأزمات ذات الصلة، في ظل حالة عدم اليقين، المسيطرة على الاقتصاد العالمي، فضلاً عن العديد من التطورات التي تفرض مشهداً ضبابياً، يثقل كاهل الأوروبيين، ويعزز الأصوات المنادية لإعادة النظر في المساعدات السخية إلى أوكرانيا.

فيما ينبّه محللون إلى أن تصاعد المخاطر الجيوسياسية، ينذر بمقاربات جديدة، مرجّح لها أن تمثل «انفراجة» مأمولة في الحرب، لكن التفاصيل تحتوي على «أسئلة جدلية»، لامتناهية، بشأن ماهية التنازلات التي يمكن أن يقدمها كل طرف؟ وهل تقبل روسيا بوقف إطلاق النار دون تحقيق كامل أهدافها العسكرية في العملية العسكرية؟ وغيرها من الأسئلة التي تفرض نفسها كلما طرحت مسألة المفاوضات بشكل أو بآخر.

في خط متوازٍ مع الأنباء المتواترة بخصوص ضغط الغرب على الأوكرانيين، للقبول بالجلوس على طاولة المفاوضات مع الروس، وبحث أنماط التنازلات المختلفة التي يمكن مناقشتها، وبالتالي تقديمها.

طبقاً لما نقلته شبكة «إن.بي.سي»، الأسبوع الماضي، عن مصادر أمريكية، فإنّ مسؤولين أوروبيين وأمريكيين، ناقشوا وأوكرانيا، سيناريوهات مختلفة مفاوضات سلام محتملة مع روسيا؛ بغية إنهاء الحرب المستعرة، المستمرة منذ 24 فبراير 2022.

تضمنت المحادثات، طبقاً للأنباء المتواترة، وضع خطوط عريضة لما يمكن أن تتخلى كييف عنه في سبيل التوصل لاتفاق سلام ينهي الحرب مع روسيا، ذلك في وقت تثار فيه مخاوف غربية من أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، مع عدم قدرة الأوروبيين والأمريكيين على مواصلة دعم أوكرانيا (لاسيما في ظل الكلفة الباهظة التي تتكبدها بروكسل في سياق دعمها لأوكرانيا، في وقت تعاني الاقتصادات الأوروبية ضغوطات واسعة، لها تأثيرات اجتماعية، وسياسية أوسع).

كما يعاني الأوروبيون أزمات اقتصادية واسعة المدى، وسط تنامي الضغوطات التضخمية، التي خلفت حالات متعددة من الحنق الشعبي. في وقت أنهكت القارة العجوز نتيجة دعمها لأوكرانيا. وإذ تقر كييف بحقيقة أن «دعم أوكرانيا تحوّل إلى عبء على الغرب»، فإن الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، الذي عادة ما يستجدي الدعم في عديد من اللقاءات، والخطابات، يتمسك بأنه «لا بديل عن مواصلة دعم بلاده».

كذلك نفى الرئيس الأوكراني، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في كييف، الأسبوع الماضي، وجود ضغوطات أوروبية وأمريكية على بلاده؛ للانخراط في مفاوضات أو «التنازل عن شيء ما».

بينما لا ينذر المشهد السياسي الراهن، وكذلك الواقع الميداني على الأرض، بإمكانية التوصل، على المدى القصير، وربما المتوسط، إلى اتفاق ينهي الحرب القائمة. لكن طول أمد الحرب، وعدم تحقيق أوكرانيا تقدم ملموس، ربما يدعم سيناريو المفاوضات.

فيما تظهر استطلاعات أن نسبة كبيرة من الأوروبيين يوافقون على إجراءات الدعم لأوكرانيا في مواجهة روسيا، إلا أن فاتورة الدعم تلك لا تزال تشكل حملاً ثقيلاً على اقتصادات عديد من هذه الدول، ربما تثير خلافات داخلية تهدد الإجماع الأوروبي.

تغير الاستراتيجيات

يقول الصحافي والباحث في جامعة «الصداقة بين الشعوب»، ديمتري بريجع، من موسكو، لـ«البيان»، إن الولايات المتحدة بدأت تدرك أن استمرار التصعيد - في أوكرانيا- لن يغير أي شيء، كما لن يعود بالإيجاب على المنطقة، وإن كييف لن تستطيع بشكل أو بآخر، استرجاع المناطق التي فقدتها، وإن المعركة سوف تستمر لسنوات.

بالتالي، من المهم أن يكون هناك تغيير فعلي، لاسيما أن هناك توجهات سياسية عديدة داخل الولايات المتحدة، لديها نظرة سلبية بخصوص دعم أوكرانيا، خاصة أن هذا الدعم لم يجنِ أي ثمار، وعلى افتراض أن استمرار الحرب ليس في مصلحة الغرب ولا أوكرانيا نفسها.

واعتبر بريجع أن الانتخابات التالية في كل من روسيا وأوكرانيا، فضلاً عن الانتخابات المرتقبة في الولايات المتحدة، عوامل تحدد طبيعة التغييرات التي يمكن أن تحدث في هذا الملف، بحسب نتائج الانتخابات وسياقاتها (..).

ويشدد على «أن المفاوضات قادمة لا محالة»، ملمحاً في الوقت ذاته، إلى أن الحرب في غزة لها تداعياتها الكبيرة على الحرب الأوكرانية، لاسيما أن الأولى أسهمت في «نسيان الملف الأوكراني»، رغم تطمينات وتأكيدات واشنطن عكس ذلك، لكن في نهاية المطاف، ثمة ترتيبات مغايرة بالنسبة للولايات المتحدة، تفرضها «الحرب في غزة»، على البيت الأبيض لـ«رسم استراتيجية جديدة».

ويختتم بريجع حديثه مع «البيان» بالإشارة إلى أن «استراتيجية الولايات المتحدة لم تعطِ أي نتيجة في أوكرانيا.. ويمكن، بعد الانتخابات الرئاسية، أن يحدث نوع من المفاوضات في تقديري».

ووفق البيانات التي كشف عنها مفوّض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الشهر الماضي، فإن التكتل خصص 80 مليار يورو لدعم أوكرانيا (منذ 2022)، كما يتم إنفاق هذا المبلغ أيضاً على المساعدات العسكرية.

تشكل هذه الفاتورة - جنباً إلى جنب وكلفة الخسائر التي تكبدتها أوروبا؛ جراء العقوبات وارتداداتها -، جانباً مظلماً يكشف حجم المعضلة الأوروبية.

التخلي عن كييف

يصرح مؤسس مركز «بروجن» للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، رضوان قاسم، من برلين، لـ«البيان» أن «الحديث عن مفاوضات سلام محتملة في أوكرانيا يطفو إلى السطح منذ تنامي التطورات السريعة «الحرب في غزة»، والهرولة الغربية، لاسيما الأمريكية إلى دعم إسرائيل».

ورجّح أن «الولايات المتحدة تسعى إلى إيجاد أوكرانيا ثانية، بعد هزيمة كييف الكبيرة - وإن لم تعترف الأخيرة بذلك -، إذ وجدت واشنطن في حيثيات «الحرب في غزة»، أمراً موائماً، لتسليط الضوء على منطقة الشرق الأوسط أكثر منه على موضوع أوكرانيا، رغم استمرار دعم كييف».

ويستطرد: حالما نقرأ خطاب الرئيس الأوكراني، نجد أنه يستجدي الغرب من أجل عدم نسيانه، حتى أنه قال إن أوكرانيا أصبحت من المنسيات بعد «الحرب في غزة»، وطالب أكثر عن مرة باستمرار المساعدات. ونوّه زيلينسكي برفض الكونغرس أو تجاهله تقديم مساعدات إضافية لكييف في الآونة الأخيرة، واعتبارها عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الأمريكي دون جدوى.

وتحدث قاسم عن الضغوطات التي تواجهها الدول الأوروبية (لاسيما ألمانيا، وفرنسا). أما فيما يخص تقديم المساعدات لأوكرانيا، ومدى جدوى ذلك، فإنه يلفت إلى أن «الأيام المقبلة سوف تكشف عن تخلي الولايات المتحدة، وحلفائها في حلف «الناتو»، عن أوكرانيا، رويداً رويداً»، مشدداً على تداعيات التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط على هذا التوجه الغربي.

يبرز في هذا السياق، «فشل «الهجوم المضاد» الأوكراني في تحقيق الأهداف المنشودة»، مردفاً: «ثبت للغربيين أن «الهجوم المضاد» لم يأتِ أكله، وأن كل المساعي في هذا الصدد باءت بالفشل، حتى إن الغرب عرّض أمواله وأسلحته للخطر، إذ تم تدمير آليات عسكرية بالكامل بمجرد وصولها إلى أوكرانيا.. من هنا بدأ الغربيون يعيدون التفكير في دعم كييف.. كذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة، التي ليس بجديد عليها التخلي عن الحلفاء عندما تجد أن دعمها لم يعد يجدي نفعاً (..)».

بيد أن السؤال الأهم، في تقدير مؤسس مركز «بروجن» للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، يتعلق بالموقف الروسي، فـ«هل يقبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وقف إطلاق النار دون تحقيق كامل الأهداف التي سعت إليها بلاده؟، قبل أن يجيب بالقول: «أشك في ذلك، خاصة أن الغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، في موقف لا يحسدون عليه»، (في إشارة إلى استثمار روسيا الوضع الراهن لمصلحتها؛ للمضي قدماً في عمليتها الخاصة، وتحقيق كامل الأهداف العسكرية).

هل دمّرت الولايات المتحدة أوروبا؟

بينما تستخدم روسيا ورقة «الخسائر الأوروبية»، ضمن محاولاتها الضغط على دول القارة العجوز، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافرورف، الأربعاء الماضي، في تصريحات نقلتها وكالة أنباء «تاس» الروسية، «الولايات المتحدة دمّرت أوروبا»، وشدد على أن واشنطن تضر بمن وصفهم بـ«أتباعها الأوروبيين»، كما أن واشنطن «تعرّضهم إلى الإفلاس»، مستفيدة على الجانب الآخر بمكاسب اقتصادية واسعة جراء ذلك.

وفيما أدلى الوزير الروسي - خلال تصريحاته - بتقديرات تكبّد الشركات الأوروبية خسائر تصل قيمتها إلى 250 مليار يورو؛ نتيجة العقوبات الأحادية، فإن لافرورف تحدث بموازاة ذلك عن المكاسب التي تجنيها الولايات المتحدة من المشهد الراهن، بما في ذلك «فرض الغاز الطبيعي المسال، الأمريكي، بثمن باهظ على دول الاتحاد الأوروبي».

وزير الخارجية الروسية، تطرّق أيضاً إلى «دفع واشنطن، دول القارة العجوز إلى التخلي عن كل ما هو روسي، فإنها (أي الولايات المتحدة) تشتري المواد الخام واليورانيوم من موسكو، كما وضع لافرورف يده على واحدة من الملفات المثيرة للجدل منذ توسع العقوبات الأوروبية، بشكل متسارع، بعد الحرب الأوكرانية، في وقت يعتقد مراقبون بأن الدول الأوروبية «أطلقت النار على قدميها» من خلال تلك العقوبات.

على الجانب الآخر، اتخذت البلدان الأوروبية خطوات جادّة، على صعيد تعزيز موقفها في مواجهة التداعيات التي أسفرت عنها حرب أوكرانيا، ومساعيها لفطام نفسها عن الغاز الروسي، والتخلي عن موسكو عموماً، بما في ذلك إيجاد بدائل ملائمة تضمن تدفق الغاز، بما في ذلك الغاز القادم من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ اكتسبت أوروبا «مناعة» نسبية (وربما مؤقتة) ضد ارتدادات الحرب.

الموقف الروسي

ويقول الأكاديمي والباحث السياسي، رامي القليوبي، من موسكو، لـ«البيان»، إنه «إذا كان لافروف يتحدث عن تدمير الولايات المتحدة لأوروبا، فهذا فيه مبالغة.. إذ ربما التعبير الأدق يعكس الموقف الروسي بأن أمريكا أخضعت أوروبا عسكرياً، واقتصادياً، وهذا الخضوع مستمر منذ سنوات طويلة، ذلك أن واشنطن كانت تعطل دائماً مشروعات الغاز الروسية؛ لفرض الغاز الطبيعي المسال، الأمريكي، رغم تكلفته العالية، وكذلك تضغط على أوروبا لتشديد العقوبات ضد روسيا (..)».

وينوّه القليوبي بأن «الطرفين: الروسي، والأوروبي، هما الخاسران، بينما الطرف الأمريكي، هو المستفيد نسبياً، ذلك أنه نظراً للبعد الجغرافي عن أوروبا، فواشنطن غير مرتبطة بشكل كبير مع موسكو تجارياً، مثلما هو حال بروكسل، لذلك كانت هناك مكاسب أو على الأقل خسائر أقل للولايات المتحدة مقارنة مع الاتحاد الأوروبي؛ جراء العقوبات المفروضة على موسكو».

ويستخدم العديد من أنصار «السلام» في أوروبا، تلك المفارقة لدعم وجهات النظر المنادية بضرورة الجلوس مع موسكو على الطاولة في محادثات لإنهاء حربها ضد كييف بعد التوصل لاتفاق وحل وسط لجميع الأطراف، ذلك بالنظر إلى أن استمرار الحرب من شأنه أن يوسع دائرة الخسائر بالنسبة للطرفين الروسي والأوروبي بشكل خاص، بما يعرّض الاقتصادي الدولي لمزيد من الهزّات العنيفة، والمتتالية.

Email