محاكمة«بريكست».. خبراء لـ«البيان»: التأزمات الاقتصادية تعزز المطالبة بالعودة إلى الاتحاد الأوروبي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يعيش البريطانيون أوضاعاً اقتصادية خانقة، وسط وطأة زيادة تكلفة المعيشة وارتفاع معدلات التضخم، لجملة عوامل مشتركة تعاني تبعاتها اقتصادات عالمية عدة، بدءاً من جائحة «كورونا»، وصولاً إلى الحرب الأوكرانية، وما خلقته الأخيرة من أزمات، بينما تتفرد العاصمة البريطانية لندن، بعامل خاص، أسهم في تأزيم المشهد الداخلي، المرتبط بتداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست».

يشعر البريطانيون بتداعيات «بريكست» عليهم، بشكل لافت، بعدما غطت الأحداث التالية للخروج من التكتل على الآثار الاقتصادية لهذه الخطوة بصورة خاصة ولفترة قصيرة، إلى أن بدأت المشكلات بالتفاقم مع تنامي الضغوطات الاقتصادية الناتجة عن تداعيات «كورونا»، ثم زيادة الاضطرابات الجيوسياسية وما صاحبها من أزمات الطاقة وسلاسل الإمداد، فضلاً عن الفاتورة الباهظة التي تكبدها الاقتصاد العالمي، جراء الضغوط التضخمية التي تقود إلى سياسات نقدية متشددة من البنوك المركزية - بما لها من تداعيات مؤثرة - من أجل كبح جماح التضخم.

تصاعد الأزمات على النحو المذكور وضع «بريكست» أمام المحاكمة في ميزان الشارع البريطاني الذي يشهد سجالاً حول مدى مسؤولية خطوة الخروج من الاتحاد الأوروبي في الوضع الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد في الوقت الحالي، في وقت يلقي الكثيرون اللوم على اتفاق «بريكست» بالتسبب في تلك الأزمات المتلاحقة.

تصاعدت الحملة الداعية للعودة إلى الاتحاد الأوروبي، عبرت عنها التظاهرات الأخيرة في لندن، وحالة الاستقطاب السياسي بشأن الدعوة لهذه العودة، في ضوء تبنيها من قبل عدد من السياسيين، واستخدامها ضمن أدوات الجذب السياسية والاستقطابات الانتخابية، بما في ذلك تعهد زعيم حزب العمال، كير ستارمر، بالعمل - حال فوزه في الانتخابات العامة - بالتوصل إلى إعادة كتابة صفقة «بريكست».

التظاهرات التي شهدتها لندن، حمل خلالها المحتجون لافتات «طريق الانضمام مجدداً للاتحاد الأوروبي تبدأ من هنا.. انضموا مجدداً وابتهجوا»، وقد حملوا أعلام الاتحاد.

وضع اقتصادي معقد

كان الوضع الاقتصادي الذي تعاني منه المملكة المتحدة في الخلفية محركاً لتلك الفعاليات الاحتجاجية التي وجدت في «العودة إلى الاتحاد الأوروبي» مخرجاً من أزمات البلاد الواسعة.

هذا ما تؤكده خبير الشؤون الدولية، الأستاذة في جامعة «نيوهامبشير»، إليزابيث كارتر، في تصريحات لـ«البيان» شددت خلالها على أن «الأبعاد الاقتصادية للتظاهرات الأخيرة التي تم تنظيمها في لندن، تشمل أن المملكة المتحدة أصبحت بلا شك أسوأ بكثير من الناحية الاقتصادية عما كانت عليه قبل التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016».

وتضيف: «ضعف (تراجع) الجنيه (أمام الدولار) وارتفاع معدلات التضخم في البلاد، هي عوامل رئيسة جعلت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لأغلب البريطانيين، خصوصاً الأكثر ضعفاً منهم، مثل: فئة الشباب، وكذلك الطبقات العاملة، والفئات الفقيرة».

ويعتقد المتظاهرون أن التأثيرات القطاعية لـ«بريكست» واسعة وعميقة، بحسب كارتر، التي تقول إن أحد العناصر المهمة فيما يتصل بالبعد السياسي هو ما يمثله خروج بريطانيا في نظر عديد من المتظاهرين، حيث «بريطانيا الكارهة للأجانب والمعادية للمهاجرين والمنغلقة»، بالتالي فإنهم يرفضون ما يعتبرونه فكرة يمينية متطرفة قائمة على الخوف حول مكانة بريطانيا في العالم.

تجاذبات سياسية

ومع الاستعداد لإجراء الانتخابات العام المقبل، تواجه المملكة المتحدة عديداً من الصعوبات، تعد المشكلات الاقتصادية - من بينها مشكلات قطاع الإسكان - أهمها.

وطبقاً لخبير أسواق المال في بريطانيا، جوناثان رولاند، فإن المشكلات «الاقتصادية» تعزز اضطراب الرأي العام بخصوص «بريكست»، ويصرح لـ«البيان»: «هذه المطالبات ليست وليدة اليوم.. كان ذلك منذ يوم التصويت تقريباً؛ إذ لا تزال هناك مشاعر قوية للغاية لدى كلا الجانبين (المؤيدين والمعارضين)».

منذ التصويت 2016، غير عديد من الذين صوتوا لصالح المغادرة رأيهم أو ماتوا، بينما قلة قليلة من الذين صوتوا للبقاء غيروا رأيهم. بالتالي، فإن أي تصويت اليوم قد تكون له نتيجة مختلفة، بحسب رولاند، الذي يستدرك : «لا يقترح أي حزب سياسي رئيس إعادة الانضمام أو التصويت مرة أخرى على القضية المثيرة للخلاف، لذا نتطلع إلى البقاء خارج الاتحاد الأوروبي، فيما يقترح حزب العمال - الذي يبدو أنه من المرجح أن يفوز - إقامة علاقات أوثق حول تطبيق القانون والهجرة».

تعكس معدلات التضخم في بريطانيا جانباً من حقيقة الوضع الاقتصادي، مع أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة. سجلت 6.8 % في أغسطس الماضي (أقل من المستوى المستهدف البالغ 2 %)، بعدما وصلت المعدلات في وقت سابق (أكتوبر 2022) لأعلى مستوى لها منذ ما يزيد على أربعة عقود.

يأتي ذلك في وقت يواجه الاقتصاد البريطاني صعوبات بالغة في الوصول إلى مستويات ما قبل «كورونا». بينما تشير البيانات الرسمية لنمو طفيف 0.2 % خلال الربع الثاني 2023.

أسباب الخروج «قائمة»

من لندن، ينوه مدير مؤسسة «غنوسوس» للأبحاث، عمار وقاف، في تصريحات لـ«البيان» إلى أن «هناك فرقاً بين أن يقول غالبية البريطانيين إن «بريكست» كان خطأ، وأن يصوت غالبيتهم فعلاً على العودة، فيما لو تم طرح استفتاء عمومي بهذا الشأن».

صحيح أن البريطانيين يعزون جزءاً من أسباب غلاء معيشتهم والصعوبات التي يعاني منها اقتصادهم إلى «بريكست»، بين أسباب أخرى، مثل: «كورونا» والأزمة الأوكرانية، إلا أن الأسباب التي أدت لتصويت الناس على الخروج «لا تزال موجودة وحاضرة في الأذهان».

بين تلك الأسباب، مسألة توسيع الاتحاد الأوروبي واكتساب دول جديدة التأثير على آلية اتخاذ القرار فيه، على حساب بريطانيا، والمخاوف من تداعيات قضية لجوء مهجري الدول غير المستقرة التي عصفت بأوروبا ولا تزال.

ويضيف وقاف: «هناك أسباب أخرى تتعلق بآليات العودة المحتملة ومدى تقبل البريطانيين لها، كأن يفرض على بريطانيا مثلاً توقيع معاهدة «ماستريخت» (الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي)، والانضمام للعملة الأوروبية الموحدة «يورو»، ما سوف يفقد بريطانيا استقلالها النقدي الذي كانت تتمتع به في الفترة السابقة حينما كانت لا تزال عضواً في التكتل».

وتبدو عدم جدية مسألة إعادة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بشكل أوضح عند النظر لتجاذبات الأحزاب السياسية الرئيسة في الساحة البريطانية. فقد كشفت صحيفة «إنديبندنت» أخيراً، عن لقاء سري جمع زعيم حزب العمال المعارض، كير ستارمر، بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تناول بحث قضايا تتعلق بتحسين بنود اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

في حين اتهم وزير الخزانة البريطاني، جيريمي هانت، حزب العمال بالتحضير لإعادة بريطانيا إلى أوروبا إذا ما فاز في الانتخابات البرلمانية المقبلة. ويعتقد مدير مؤسسة «غنوسوس» بأنه «يتضح من هذه التجاذبات أن قضية عودة بريطانيا للحضن الأوروبي لم تنضج بعد، وأن الساسة البريطانيين يرون أن تبنيها من هذا الحزب أو ذاك سوف يؤدي إلى خسارة الانتخابات».

وبالنظر إلى الخريطة الانتخابية، يمكن ملاحظة أن المناطق التي صوتت لصالح «بريكست» في مناطق شمال المملكة المتحدة كانت نفسها الداعم الأساسي لحزب العمال على مدى عقود من الزمن. وفي الانتخابات الأخيرة، صوتت هذه المناطق، المعروفة مجازاً بـ«الجدار الأحمر»، لصالح حزب المحافظين ومنحته أغلبية ساحقة في مجلس العموم، ما يعني أن حزب العمال لن يطرح العودة للاتحاد الأوروبي على الأقل في حملته الانتخابية المقبلة، مخافة تكرار تصويت تلك المناطق المهمة لصالح المحافظين.

ويختتم وقاف حديثه: «حملة إعادة ارتباط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي لا تزال في بداياتها، وما من شيء يمنعها من اكتساب زخم أكثر جدية في المستقبل، نتيجة تطور الأحداث العالمية».

أصوات العودة

تشير استطلاعات الرأي المحلية، لتزايد تدريجي لنسب البريطانيين المؤيدين لعودة بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، وهي نسبة وصلت - في يونيو الماضي - إلى أكثر من 58 %، طبقاً لمنظمة (YouGov)، مقارنة بـ47 % سجلتها المنظمة في بدايات عام 2021 بعد تنفيذ الخروج.

من بروكسل، يصرح خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، لـ«البيان»، إن «الأحداث التي وقعت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - على رأسها «كورونا» - غطت على النتائج السلبية التي نجمت عن «بريكست»، ومدى تأثير ذلك على المواطنين والاقتصاد البريطاني بشكل عام».

الآن، بدأ البريطانيون يشعرون بعديد تلك الآثار، التي يذكر بركات منها جانباً من الآثار الاقتصادية السلبية المرتبطة، والخسائر التي منيت بها لندن في هذا السياق، بالنظر إلى أن خسارتها المزايا كافة التي كانت تحصل عليها جراء وجودها في الاتحاد، مثل: انتقال البضائع والعمال، فقد عانت بريطانيا على سبيل المثال من أزمة نقص أيدٍ عاملة، في قطاعات مهمة، بينها: النقل الثقيل، ونقل البضائع، فضلاً عن العمالة الموسمية في القطاع الزراعي.

كما تضرر الاقتصاد البريطاني، جراء العوائق المفروضة في سياق قدوم المواطنين من الاتحاد الأوروبي، علاوة على تأثر عديد من الصناعات التي كانت تستفيد من المواد الخام وقطع الغيار الواردة، وغير ذلك من التأثيرات التي انعكست بشكل مباشر على اقتصاد لندن. ويشير بركات إلى أنه إبان فترة التصويت «لم يكن السياسيون المتحمسون للخروج، مثل رئيس الوزراء الأسبق، بوريس جونسون، يرغبون في شرح الآثار المترتبة عن هذا الخروج (..) ولم تكن هنالك دراسات جدية، لرسم المشهد المتوقع لما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي».

ضغوطات

من برلين، يقول مؤسس مركز «بروجن» للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، الباحث في الشؤون الدولية، رضوان قاسم، في تصريحات لـ«البيان»، إن «بريكست» أثر على الطرفين (بريطانيا، والاتحاد الأوروبي)، وأسفر عن حزمة مشكلات وضغوطات، ملقاة عليهما، لأسباب تتعلق بالوضع الاقتصادي، نظراً لما كان يمثله التكتل كسوق واسعة أمام بريطانيا، والعكس، سواء بالنسبة لعمليات التصدير والعمالة وما إلى ذلك.

كما يلفت قاسم إلى مشكلات مختلفة عانت منها بريطانيا على نحو واسع في الفترات الأخيرة، بينها: أزمة سائقي الشاحنات على سبيل المثال، التي فاقمت مشكلات زيادة الأسعار وارتفاع معدلات التضخم بالبلاد، علاوة على مشكلات مختلفة مرتبطة بأزمة السكن وغير ذلك، لا يزال يواجهها المواطنون الأوروبيون.

ويضيف: «من هنا، نستطيع أن نفهم دوافع التظاهرات التي شهدتها لندن، والحملة التي تنادي بالعودة إلى الاتحاد الأوروبي من جديد»، منوهاً إلى التبعات السياسية الناتجة عن «بريكست»، بما في ذلك التأثير على مكانة بريطانيا داخل أوروبا، وعلى الخلافات في وجهات النظر مع دول التكتل في عدد من الملفات السياسية، بما في ذلك بعض النقاط المرتبطة بالحرب الأوكرانية (..).

بيد أنه يتابع: «ثمة مجموعة من الأسئلة التي يتعين أن تطرح ما إذا نجحت تلك الحملات في تحريك بريطانيا على طريق العودة، إذ ماذا سوف تكون عليه شروط الاتحاد الأوروبي آنذاك، وما القيود التي سوف يضعها؟ وهل تقبل بها بريطانيا؟ وإذا ما قبلت بها، فهل سوف تأتي حكومة تالية، لتدعو مجدداً للخروج؟ وغيرها الكثير من التساؤلات حول ملف أبسط ما يوصف به أنه شائك، ومعقد!».

Email