ذوبان الأنهار الجليدية ظاهرة مناخية مرعبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ سنوات عدة، يحذر خبراء المناخ من ذوبان متسارع للأنهار الجليدية. كثيرون ممن يعيشون في المناطق الحارة والدافئة، لا يعرفون هذا النوع من الأنهار.

فضلاً عن عدم إدراكهم لما يعنيه ذوبانها، وما يترتب عليه بالنسبة للعيش على كوكب الأرض. الأنهار الجليدية هي كتل جليدية ضخمة وسميكة، تتشكّل على اليابسة من الثلج المتساقط، الذي ينضغط جراء البرودة الشديدة على مدى قرون عديدة.

وثمة 220 ألف نهر جليدي في مناطق مختلفة حول العالم، وتلعب كميات المياه الكبيرة المخزنة في هذه الأنهار دوراً مهماً في التدفق الثابت للمياه للعديد من الأنهار العادية، كما تساهم في توليد الطاقة الكهرومائية، وفي الإنتاج الزراعي.

تحتوي الأنهار الجليدية على كميات ضخمة من المياه العذبة تصل نسبتها إلى ما نسبته 80% من المياه العذبة في العالم، تغطي حوالي 11% من مساحة اليابسة في العالم، وتؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر في العالم بحوالي 90 متراً (300 قدم)، في حال ذاب كل الجليد الموجود فيها، ما يعني أن مدناً، مثل: لندن وأمستردام، ستضيع تحت المياه.

وحسب موقع المجلة الإلكترونية «آفاق البيئة والتنمية»، تنبأت دراسة بأن نصف الأنهار الجليدية يمكن أن تختفي بحلول عام 2100، إذا ما استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة بالنسبة المعتادة حالياً.

فيما تؤكد دراسة صدرت مطلع العام الجاري، أن نصف الأنهار الجليدية في العالم- وتحديداً الأصغر بينها - تواجه خطر الزوال بحلول نهاية القرن الحالي؛ بسبب ظواهر التغير المناخي، إلا أن الحد من الاحترار المناخي، على نحو جدي، يساعد على إنقاذ الأنهار الأخرى.

الدراسة المنشورة في مجلة «ساينس»، طرحت التوقعات الأكثر دقة، التي جرى التوصل لها في شأن مستقبل 220 ألف نهر جليدي في العالم. أما الخسارة المتوقعة، وفقاً للدراسة، فتصل إلى 26% من مجموع الكتلة الجليدية؛ لأن الأنهار الأصغر حجماً سوف تكون أول المتضررين من الاحترار.

كما يتوقع باحثون ارتفاع مستوى البحار؛ نتيجة ذوبان الجليد إلى 9 سنتيمترات تقريباً (ارتفاع سوف يضاف إلى ذلك المرتبط بذوبان القمم الجليدية مثلاً).

الكثير من الأنهار الجليدية يذوب بوتيرة سريعة، زادت خلال العقدين المنصرمين، ما أكسبها أهمية في الجدل حول أسباب وتأثيرات تغير المناخ.

بينما تقلصت مساحة 4000 نهر موجود في جبال الألب، فيما يتوقع أن يزول معظمها، إذ أن استمرار الاحترار بالوتيرة السريعة سوف يؤدي إلى زوال العديد منها.

جبال الهملايا

أحدث الدراسات العلمية حول هذه المسألة صدرت قبل أسبوعين عن المركز الدولي للتنمية الجبلية المتكاملة (ICIMOВ)، وخلصت إلى أن الأنهار الجليدية في جبال الهملايا تذوب بسرعة غير مسبوقة، تهدد إمدادات المياه لما يقرب من ملياري شخص، وتؤكد أنه بين عامي 2011 و2020، ذابت الأنهار الجليدية بنسبة ٦٥% أسرع مقارنة بالوتيرة المسجلة في العقد السابق.

المعد الرئيس للدراسة، فيليبوس ويستر، صرح لوكالة «فرانس برس» أن «ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى ذوبان الجليد. لكن ما هو غير متوقع ومقلق للغاية هو السرعة!» التي يحصل فيها ذلك.

تغذي الأنهار الجليدية في جبال الهملايا 10 من أهم أحواض الأنهار حول العالم، بما في ذلك نهر الغانج، والسند، والنهر الأصفر، وميكونغ، وإيراوادي. وتوفر كذلك الغذاء والطاقة والدخل لمليارات البشر بشكل مباشر أو غير مباشر.

ونوّه التقرير إلى أن الأنهار الجليدية في سلسلة جبال هندو كوش، والهملايا، تشكّل مصدراً مهماً للمياه لنحو 240 مليون شخص في المناطق الجبلية، بالإضافة إلى 1.65 مليار شخص آخرين في المناطق المحيطة.

واستناداً إلى مسارات الانبعاثات الحالية، قد تفقد الأنهار الجليدية ما يصل إلى 80% من كتلتها الحالية بحلول نهاية القرن الحالي، وفق تقديرات مركز (ICIMOD)، منظمة حكومية دولية، مقرها في نيبال، تضم أيضاً أفغانستان، وبنغلادش، وبوتان، والصين، والهند، وبورما، وباكستان.

من ناحيتها، قالت نائب رئيس مركز (ICIMOD)، إيزابيلا كوزيل، «يعتمد مليارا شخص في آسيا على مياه الأنهار الجليدية والثلوج. وعواقب فقدان هذا الغلاف الجليدي تفوق التصور».

وحتى إذا جرى حصر الاحترار العالمي بـ1.5 درجة مئوية إلى درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، بموجب اتفاق باريس للمناخ، فمن المتوقع أن تفقد الأنهار الجليدية ما بين ثلث ونصف حجمها بحلول عام 2100، وفق الدراسة.

قمة «إيفرست»

نشرت دراسة في فبراير العام الماضي، أظهرت أن الجليد على نهر جليدي قرب قمة «إيفرست»، الذي استغرق تشكله آلاف السنوات، تقلص بشكل كبير في العقود الثلاثة الماضية؛ بسبب تغير المناخ.

ويرجح أن تكوين «ساوث كول» الجليدي، فقد حوالي 55 متراً من سماكته خلال الـ25 عاماً الماضية، وفق بحث أجرته جامعة «ماين»، ونشرته مجلة «نايتشر» آنذاك.

الدراسة أوضحت أن التأريخ الكربوني أظهر أن الطبقة العليا من الجليد عمرها حوالي ألفي عام، ما يظهر أن النهر الجليدي كان يتقلص بمعدل 80 مرة أسرع من الوقت الذي استغرقه تكونه.

وبهذا المعدل، من المحتمل أن «يختفي «ساوث كول» في غضون عقود قليلة جداً»، كما قال كبير العلماء، بول مايوسكي لقناة «ناشيونال جيوغرافيك».

ويبلغ ارتفاع نهر «ساوث كول» الجليدي حوالي 7900 متر ويقع تحت قمة أعلى جبل في العالم بكيلومتر واحد.

في السياق نفسه، أظهر باحثون آخرون أن الأنهار الجليدية في الهملايا، تذوب بوتيرة متسارعة. ومع تقلص الأنهار الجليدية، تشكلت مئات البحيرات في سفوح جبال الهملايا، وقد تنفجر وتتسبب في فيضانات.

وكالة «فرانس برس» نقلت عن المتسلق النيبالي، كامي ريتا شيربا، الذي تسلق قمة «إيفرست» 25 مرة منذ 1994، قوله إنه شاهد تغيرات على الجبل بأم العين.

وأفاد «نرى الآن صخوراً مكشوفة في مناطق كانت تغطيها الثلوج. ليس فقط في «إيفرست»، بل هناك جبال أخرى تفقد ثلوجها وجليدها».

رقم قياسي

يبدو أن الأنهار الجليدية السويسرية حطمت العام الماضي الأرقام القياسية على صعيد سرعة الذوبان؛ جراء التأثير المزدوج للجفاف في الشتاء، وموجة الحر الصيفية القوية، في انعكاس جلي ومباشر للتغير المناخي.

هذه الأنهار الجليدية فقدت ثلاثة كيلومترات مكعبة من الجليد، ما يوازي 6% من إجمالي كتلتها. مدير الشبكة السويسرية للبيانات الجليدية، ماتياس هاس، المسؤول عن متابعة الملف، رأى أنه «من غير الممكن إبطاء الذوبان على المدى القصير».

ويضيف هاس، بنبرة تحذير متشائمة، إنه حتى في حال تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون؛ لحماية المناخ، «قد يسهم ذلك في إنقاذ ما يقرب من ثلث الكتل الإجمالية في سويسرا في أفضل الأحوال»، مشيراً إلى أن عدم حصول ذلك سوف يؤدي إلى «زوال شبه كامل» للأنهر الجليدية في البلاد «بحلول نهاية القرن الحالي».

وعلى علو ثلاثة آلاف متر، في منطقة إنغادين جنوب شرقي سويسرا، وفي الجزء الجنوبي من كانتون فاليه، «زالت طبقة جليد تراوح سماكتها بين أربعة وستة أمتار، وهو مستوى يفوق أحياناً ضعفي الحد الأقصى» المسجل سابقاً.

ولفت تقرير إلى أن الظاهرة آخذة في التسارع، إذ إن «التسجيلات تظهر تفتت ألسنة جليدية كثيرة، وتظهر جزراً صغيرة من الصخور، وسط النهر الجليدي عندما لا يكون الجليد سميكاً بدرجة كبيرة. هذه المسارات كلها تسرع التدهور الحاصل».

وأوضح هاس «إذا ما رأينا خلال خمسين عاماً، الظروف المناخية عينها سوف يكون الأثر أكبر بكثير؛ لأنه يتوقع أن تكون الأنهار الجليدية قد زالت، ما يعني أنها لن تستطيع تزويدنا بالمياه».

باكستان أيضاً

تضم باكستان أكثر من سبعة آلاف نهر جليدي، ما يجعلها أكثر بلد يحوي هذه الكتل الجليدية الضخمة (إذا ما استثنينا القطبين الشمالي والجنوبي).

كما ثمة تحذيرات من أن 33 من البحيرات التي تكونت في سلاسل جبال الهيمالايا وهندوكوش وقراقرم، معرضة لخطر انفجار كتلات جليدية، وتدفق ملايين أمتار مكعبة من المياه والأنقاض في غضون ساعات قليلة، على غرار ما حصل في بلدة حسن آباد.

وكانت الحكومة الباكستانية أوضحت أن ما لا يقل عن 16 فيضاناً جليدياً سجل العام الماضي؛ بسبب موجات الحر التي طالت البلاد، بينما يسجل سنوياً بين خمسة وستة فيضانات في المتوسط.

باكستان ثامن أكثر الدول عرضة للظواهر المناخية الشديدة الناجمة عن التغير المناخي، بحسب مؤشر «المخاطر المناخية»، الذي أعدته المنظمة البيئية غير الحكومية «جيرمن ووتش».

ويشير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن النقص في المعلومات حول التغيرات الحاصلة في الأنهار الجليدية الباكستانية، يجعل التنبؤ بالكوارث الناجمة عنها مهمة صعبة للغاية.

968 بكتيريا

فيما يبدو أن مخاطر ذوبان الأنهار الجليدية تتجاوز ما هو مألوف في التوقعات. إذ اكتشف العلماء مئات الأنواع الجديدة من البكتيريا في عينات الثلج والجليد ‏من الأنهار الجليدية التيبتية، ما يثير المخاوف من انتشار الأمراض مع ذوبان ‏القمم الجليدية بسبب الاحتباس الحراري.‏

وأظهرت دراسة نشرتها مجلة «نيتشر بايوتكنولوجي» في يوليو 2022، ‏أن الباحثين قيموا ما إذا كانت أنواع البكتيريا المحاصرة في الأنهار الجليدية على ‏هضبة التيبت يمكن أن تشق طريقها إلى مناطق أخرى مع ذوبان الجليد والثلوج.‏

وجمع علماء «الأكاديمية الصينية للعلوم» عينات الجليد من 21 نهراً جليدياً في ‏منطقة التيبت بين 2010 و2016، قاموا بتذويبها لتحليل ما تبقى منها، ليجدوا 968 نوعاً فريداً من البكتيريا، و98% منها غير ‏معروفة.‏

 

Email