موسكو لتعزيز نفوذها في القارة السمراء

القمة الروسية الأفريقية الثانية تطلعات نحو شراكة متوازنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُعقد قُبيل نهاية يوليو المقبل، المنتدى الاقتصادي الروسي الأفريقي الثاني، في سان بطرسبرج، وهو المنتدى الذي تُعول عليه موسكو من أجل تعزيز نفوذها في القارة السمراء، وسط تطلعات مشتركة تهدف للارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى مستوى جديد من الشراكة المتوازنة، في ضوء ما يوفره ذلك التعاون من فرص ثمينة للجانبين على المستويات كافة؛ سياسياً واقتصادياً وأمنياً، واستغلالاً لزخم العلاقات على المستوى الثنائي خلال الفترات الماضية.

يعمل الجانبان، بناء على مخرجات القمة الأولى التي انعقدت في سوتشي خريف عام 2019، ويوليان اهتماماً خاصاً بتلك القمة التي تنعقد في ظل ما تشهده منظومة العلاقات الدولية من تحوّلات عميقة، وبعد الحرب في أوكرانيا وتبعاتها المختلفة على الصُعد كافة.

سبقت القمة -التي يسعى خلالها الطرفان إلى الخروج بأكبر قدر من التوافق في الرؤى والأهداف ـ مجموعة من الزيارات والاتصالات المتبادلة على مستوى القادة والمسؤولين في روسيا ودول أفريقية، من بينها الجولات الأفريقية المتعددة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وبالنظر إلى العلاقات التاريخية الممتدة التي تجمع موسكو وعديداً من دول القارة السمراء.

فضلاً عن مواقف عدة دول أفريقية إزاء الحرب في أوكرانيا، والمساعي الأخيرة لدول القارة للوساطة من أجل إيجاد حل لإيقاف الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي تدفع القارة السمراء فاتورة باهظة لها.

في الأثناء، تتوسع روسيا في إبرام شراكات جديدة، في سياق جهودها لفك العزلة التي حاول الغرب فرضها عليها بعد تاريخ الرابع والعشرين من فبراير عام 2022.

وقد عملت بشكل لافت منذ ذلك الحين على مد أواصر العلاقة والتعاون على عدة محاور، من بينها دول القارة السمراء التي تمثل أهمية خاصة في منظور السياسة الخارجية الروسية الجديدة، والتي تتضمن العودة بقوة إلى تلك المنطقة الزاخرة بالفرص، والبناء على ما تحقق عملياً على أرض الواقع، وبالنظر إلى نشاط الشركات الروسية هناك.

أهمية خاصة

«تشكل قارة أفريقيا أهمية خاصة بالنسبة للسياسة الخارجية الروسية من نواحٍ عدة؛ أولاً وقبل كل شيء، تمثل الدول الأفريقية سوقاً محتملة للسلع الروسية، وفرصة لتوسيع النفوذ الاقتصادي والتجاري لها، إضافة إلى ذلك، تسعى موسكو لتعزيز حضورها الجيوسياسي في القارة وزيادة تأثيرها السياسي والعسكري»، هذا ما يؤكده الكاتب والمحلل السياسي الروسي، ديميتري بريجع، وفق ما صرح لـ«البيان».

علاوة على ذلك، تشكل دول أفريقيا قاعدة دعم مهمة لروسيا في المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة. بالنظر إلى التحولات التي يشهدها النظام العالمي وزيادة الصراعات الإقليمية، وتبعاً لذلك يمكن لدول أفريقيا أن تلعب دوراً حاسماً في تحقيق أهداف روسيا في المحافل الدولية.

ويضيف الكاتب الروسي: «شهدت العلاقات الروسية الأفريقية تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، حيث تسعى روسيا لتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري مع الدول الأفريقية.. وهي في سبيل ذلك أبرمت عقوداً في مجالات مثل الطاقة والتعدين والبنية التحتية، وتقدم دعماً في مجالات التعليم والصحة والتكنولوجيا».

ومع ذلك، فإن نشاط المحاور الأخرى في القارة يؤثر على العلاقات الروسية الأفريقية.

على سبيل المثال، التوسع الاقتصادي الصيني في أفريقيا قد ينافس روسيا ويقلل من نسبة تواجدها في بعض القطاعات الحيوية. وبالمثل، تنشط الولايات المتحدة وأوروبا في تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية، ما يعني أن روسيا تواجه منافسة قوية في بناء شراكات استراتيجية.

وبحسب بريجع «تسعى روسيا للعب دور بارز في الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية في أفريقيا.. سياسياً تعمل على تعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الأفريقية ودعمها في المحافل الدولية، وتهدف أيضاً إلى توطيد التعاون في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وتعزيز الاستقرار الإقليمي».

أما من الناحية الأمنية، تقدم روسيا دعماً للدول الأفريقية من خلال تزويدها بالأسلحة وتدريب القوات الأمنية.

ويعتبر القطاع العسكري جزءاً مهماً من العلاقات الروسية الأفريقية ويمثل مصدر تعاون استراتيجي بالنسبة لروسيا. بينما من الناحية الاقتصادية، تسعى روسيا لتعزيز التجارة والاستثمار في القارة، وذلك من خلال توقيع اتفاقيات تعاون وتبادل تجاري. وتركز موسكو على قطاعات مثل الطاقة والتعدين والبنية التحتية والزراعة.

وشطبت روسيا في وقت سابق ديوناً بقيمة 20 مليار دولار لدول من القارة السمراء، وهو ما أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال الجلسة العامة للمؤتمر البرلماني الدولي «روسيا وأفريقيا في عالم متعدد الأقطاب» هذا العام، والذي ذكر أن بلاده تعطي الأولوية للتعاون مع دول القارة السمراء وستمضي في ذلك.

وقدّر الرئيس الروسي، حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الأفريقية بنحو 18 مليار دولار في العام 2022، موضحاً أن هذا التبادل «يتزايد كل عام». وقبل جائحة كورونا تجاوز حجم التبادل التجاري بين الجانبين الـ20 مليار دولار في العام 2018. وتؤمن موسكو بأن دول القارة ستصبح أحد المحاور الرائدة في تشكيل النظام العالمي. ويتوافق ذلك مع مساعي روسيا إلى «عالم متعدد الأقطاب».

علاقات راسخة

 

من سان بطرسبورغ، يقول رئيس المركز الثقافي الروسي العربي، الدكتور مسلم شعيتو، لـ«البيان»: إنه «إذا كانت القارة الأفريقية تمثل للغرب والولايات المتحدة مركزاً ومصدراً مهماً للمواد الأولية (..) فإن السياسة الروسية أيضاً واضحة بالنسبة للقارة، بالنظر إلى العلاقات التاريخية بين موسكو ودول القارة، فقد دعّمت الأولى أغلب حركات التحرر في كثير من البلدان (..).

ويوضح أن «روسيا ومن خلفها الصين أيضاً، تعتقد بأن هذه القارة واعدة جداً، بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي، الذي يدعم موقفهما فيما يخص شعار (عالم متعدد الأقطاب)، إضافة إلى أن تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية يقلل من الهيمنة الأوروبية واستخدام أفريقيا كورقة ضد الدول الأخرى».

وتبعاً لذلك، تحاول روسيا رفع علاقاتها السياسية مع أغلب هذه الدول، وهناك مفاتيح مهمة تستعملها، من بينها جنوب أفريقيا، التي هي عضو مؤثر ورئيس في تحالف «البريكس»، الذي يضم روسيا والصين، إضافة إلى البرازيل والهند.

وتسعى عدد من الدول إلى الانضمام لتحالف «البريكس» من بينها دول أفريقية، بما يمنح روسيا فرصة أوسع في تعزيز علاقاتها وحضورها في مسرح العمليات الأفريقي الذي يشهد منافسة حامية بين عديد من القوى والأطراف الإقليمية والدولية.

علاوة على دول تمتلك علاقات جيدة بشكل كبير مع روسيا، من بينها مصر على سبيل المثال، وبالنظر إلى العلاقات التاريخية بين البلدين. والجزائر خصوصاً بعد زيارة الدولة التي قام بها الرئيس عبدالمجيد تبون، إلى روسيا، والتي وصفت بـ«العمق الاستراتيجي».

وقد كانت الجزائر من أولى الدول التي زارها وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، بعد بدء الحرب في أوكرانيا. ويشير شعيتو إلى العلاقات الروسية مع أنغولا والكونغو والسودان وليبيا وغيرها من الدول الأفريقية.

تصطدم المصالح الروسية في القارة بـ«مقاومة لم تتوقف» من قبل الولايات المتحدة والغرب، والذين يسعون بشتى السبل لاقتناص الفرص المتاحة داخل القارة. بينما الصين ـ بحسب شعيتو ـ فهي «لا تتناقض سياستها في أفريقيا مع روسيا، بل بالعكس يتممان بعضهما بعضاً في كثير من المناطق».

لكن شعيتو يعتقد بأن العلاقات الاقتصادية «ليست على مستوى العلاقات السياسية»، إذ إن تطور ونمو تلك العلاقات (الاقتصادية) ترتبط مباشرة بالتخلص من الهيمنة الغربية ومدى تقدم أفريقيا في هذا الاتجاه.

وتسعى روسيا إلى حشد دول القارة ضمن المسار المستقل الذي تعمل عليها موسكو، ومن أجل استمالة دول القارة بعيداً عن الغرب، وأملاً في مزيد من الدعم السياسي بالمؤسسات الدولية وكذلك في علاقات اقتصادية وعسكرية واستراتيجية خاصة مع الدول التي تتمتع بمزايا استراتيجية.

يأتي ذلك في وقت تواجه فيه التحركات الروسية منافسة شديدة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وكذلك الصين. في وقت تواجه فيه الكيانات المرتبطة بروسيا في أفريقيا خطر التعرض لعقوبات، بناءً على «مشروع قانون مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في أفريقيا» الذي تبناه الكونجرس العام الماضي، وقد دعت جنوب أفريقيا لسحبه في مؤشر على طبيعة العلاقات الأفريقية الروسية.

علاقات اقتصادية

على صعيد العلاقات الاقتصادية، يقول الأستاذ الزائر بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، الدكتور رامي القليوبي، في تصريحه لـ«البيان»: إن روسيا تتمتع بعلاقات متطورة مع الدول الأفريقية، وهناك حضور لافت للشركات الروسية الكبرى في السوق الأفريقية، من بينها شركة «روساتوم» التي تتولى مشروع محطة الضبعة النووية (في مصر).

وكذلك شركة «ألروسا» الأولى عالمياً من حيث احتياطيات الماس وحجم إنتاجه، لاسيما وأن القارة ثرية بالأحجار الكريمة، إضافة إلى الشركات النفطية العملاقة، من بينها شركة «لوك أويل» التي لها حضور في أفريقيا.

يتحدث القليوبي عن عديد من الفرص المشتركة المطروحة حالياً على رادار روسيا ودول أفريقية، من بينها المنطقة الصناعية الروسية المزمع إنشاؤها في مصر، والتي تشكل فرصة مشتركة للقاهرة وموسكو، وبما يفتح الباب أمام الأخيرة للتوسع في الأسواق الأفريقية عبر الاستفادة من اتفاقات التجارة الحرة في إطار الاتحاد الأفريقي.

وكذلك الاستفادة من الأيدي العاملة التي تتميز بها مصر، كما تستفيد مصر من جهة توفير فرص عمل لمواكبة الزيادة السكانية، وغيرها من أوجه الاستفادة. هذا بخلاف صادرات الأسلحة الروسية إلى دول بالقارة الأفريقية، مصر والجزائر والسودان كذلك.

وتعد موسكو أكبر مورد للأسلحة إلى أفريقيا في اتجاه جنوب الصحراء، بعد ذلك تأتي الصين، طبقاً لإحصاءات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وتنطلق روسيا في مساعيها لتطوير التعاون الاقتصادي مع دول القارة من اعتبار أن السوق الأفريقية هي سوق استهلاكية ضخمة، ذلك أن عدد سكان القارة يصل إلى حوالي 1.3 مليار نسمة، وهو ما من شأنه أن يوفر منفذاً للمنتجات الروسية، لا سيما الزراعية منها.

وهناك 470 شركة روسية عاملة في مصر، باستثمارات ثمانية مليارات دولار، وقد تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2022 ستة مليارات، وبلغت قيمة الصادرات الروسية حوالي خمسة مليارات، بحسب سفير روسيا الاتحادية بالقاهرة جيورجي بوريسينكو.

منافسة دولية

يقول رامي القليوبي، في معرض حديثه مع «البيان» عن الشق الاقتصادي للعلاقات «هناك منافسة في السوق الأفريقية بين روسيا وأطراف دولية، لكن بشكل عام، فإن الغرب قد فشل في جر دول القارة لصفه، فهي تلتزم الحياد أو انحيازاً (علنياً كان أو ضمنياً) لروسيا من جانب بعض الدول، وبالتالي يزيد ذلك فرص روسيا في هذه السوق».

فيما تنشط الشركات الروسية في قطاعات مُحددة، لاسيما الطاقة والغذاء وصادرات الأسلحة والاستثمار. ويلفت الأكاديمي المقيم في موسكو إلى أن «هناك مخاطر في الوقت نفسه تواجه تلك العلاقات الاقتصادية، من بينها عدم استقرار الأنظمة السياسية في عديد من دول القارة على سبيل المثال».

Email