صراع النفوذ تزاحم «الخصوم والحلفاء» بفناء واشنطن الخلفي رسائل ودلالات

ت + ت - الحجم الطبيعي

تنعقد في يوليو المقبل، قمة الاتحاد الأوروبي ودول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، القمة التي استبقتها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، قبل منتصف يونيو الجاري، بجولة شملت كلاً من البرازيل، والأرجنتين، وتشيلي، والمكسيك.

وتسعى أوروبا جاهدة إلى خلق نوع من الشراكة الجديدة مع الدول اللاتينية، ولا سيما في ضوء المعطيات الراهنة، المرتبطة بتبعات الحرب في أوكرانيا، سواء لجهة مواقف الدول اللاتينية منها، ولجهة تداعيات الحرب على الطرفين، والفرص التي يمكن لكل منهما الاستفادة منها من خلال تعزيز العلاقات.

وبالتالي تهدف أوروبا، بحسب متحدث باسم المفوضية الأوروبية، إلى «تعزيز العلاقات مع الحلفاء الرئيسين» هناك.

فيما تواجه أوروبا في هذه المساعي مجموعة من التحديات الأساسية، ولا سيما تلك المرتبطة بتغلغل النفوذ الصيني، والدور الواسع الذي تلعبه الشركات الصينية هناك، حيث أصبحت بكين لاعباً رئيساً، يثير مزيداً من القلق الأمريكي والغربي، جنباً إلى جنب مع النفوذ الروسي، في منطقة تشهد تنافساً استراتيجياً واسعاً بين أطراف مختلفة، يتزاحم فيها حلفاء واشنطن، كما خصومها؛ للاستفادة من الفرص السانحة.

ويثير تمدد منافسي وخصوم واشنطن في حديقتها الخلفية لغطاً واسعاً في الأوساط السياسية الأمريكية، ولا سيما في ظل غياب رد الفعل الأمريكي الجاد، عزز ذلك الجدل أخيراً الجولة التي أجراها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في عدة دول لاتينية، وصف خلالها العلاقات بين بلاده وهذه المنطقة بـ«الاستراتيجية».

كما عزز ذلك الجدل أيضاً، ما أثارته تقارير أمريكية من أنباء «صادمة» مطلع يونيو الجاري بخصوص عرض بكين مليارات الدولارات على كوبا لبناء منشأة استخباراتية متطورة هناك، بما يتيح للمارد الصيني استخدامها ضد الولايات المتحدة.

ورغم رد البيت الأبيض على تلك الأنباء وتأكيده في البداية أنها «ليست دقيقة»، فإن محللين أمريكيين يرون أن هذا الرد الرسمي يعني أن «القصة صحيحة إلى حد كبير، ولكن سيكون من غير الملائم سياسياً قول ذلك»، طبقاً لما ذكره الكاتب في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، والتر راسل ميد، في مقال له.

كما تحتدم الانتقادات الداخلية الموجهة للإدارة الأمريكية على خلفية «إهمال» أمريكا اللاتينية، التي تمثل الحديقة الخلفية لواشنطن، مع تصوير أن الصين قد نجحت في أن تربح «صراع النفوذ» هناك من خلال علاقاتها التجارية مع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

حيث ارتفعت التجارة بينهما إلى 450 مليار دولار في عام 2022، بعدما كانت في حدود الـ18 مليار دولار فقط قبل 20 عاماً، وتشير التقديرات إلى وصولها لـ700 مليار دولار بحلول عام 2035.

لكن على الجانب الآخر، يعارض محللون هذه النظرة لطبيعة تمدد منافسي وخصوم واشنطن في الملعب اللاتيني، باعتبار أنه لا يمكن تقييم العلاقات السياسية والاقتصادية من هذا النوع بمبدأ «رابح وخاسر».

لا غالب ولا مغلوب!

يتبنى ذلك الرأي المدير المؤسس لمركز دراسات أمريكا اللاتينية في الجامعة الأمريكية بواشنطن، إريك هيرشبرج، الذي صرح لـ«البيان»، أنه لا ينبغي تصوير المنافسة الدولية في أمريكا اللاتينية أنها «صراع نفوذ». ويصف تصوير تلك المنافسة أنها على هذا الشكل المتصور بحيث حتمية فوز قوة دون أخرى بأنه «حديث مضلل».

ويشرح ذلك بقوله «تعطي بلدان أمريكا اللاتينية المختلفة الأولوية للشركاء الخارجيين، بناءً على ظروفها واحتياجاتها المختلفة.. وبالتالي، لا ينبغي تصوير أي قوة أنها «رابحة» أو «خاسرة» من نوع ما من المنافسة المحتدمة هناك.

وفي ما يخص أوروبا، يعتقد الأكاديمي المتخصص في شؤون أمريكا الجنوبية، بأن أوروبا من خلال توجهها نحو أمريكا اللاتينية - وقبيل القمة المرتقبة - فإنها تأمل توسيع فرص التجارة والاستثمار.

إضافة إلى تحقيق قدر أكبر من التطابق في ما يتعلق بأولويات الدبلوماسية في الساحة الدولية، ولا سيما في ما يتعلق بدعم الأنظمة السياسية الديمقراطية الليبرالية، وتعزيز حماية حقوق الإنسان، ومعارضة «الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا»، على حد قوله.

ورغم ترحيب المشهد اللاتيني بمنافسي واشنطن والغرب، ورغم وضع الحياد الذي تتبعه عدة دول هناك، إلا أن ثمة ما يمكن وصفه بـ«عملية الاحتواء» التي بدأتها الولايات المتحدة ودول أوروبا في التعامل بهذا الملف، ما يبرز من خلال المواقف الأمريكية والغربية المناوئة؛ لمحاولة الانقلاب التي شهدتها البرازيل مطلع العام الجاري على سبيل المثال.

مصالح أمريكية مهددة

ويعبر عن ذلك مدير مركز (GeoStrategic Analysis) الأمريكي، بيتر هوسي، في تصريح لـ«البيان» قائلاً: إن «المصالح الأمريكية تتعرض للتهديد في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، ولقد حان الوقت ليقوم الرئيس جو بايدن باتخاذ خطوات في هذا الصدد».

ويعود هوسي للوراء، حيث بداية الأزمة الحقيقية في علاقات الولايات المتحدة بجيرانها في أمريكا اللاتينية منذ بداية التسعينيات، بالإشارة إلى السياسات الخارجية الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة، التي همشت إلى حد بعيد المصالح القومية الأمريكية (التقليدية) في أمريكا اللاتينية.

مضيفاً «الولايات المتحدة بعد نهاية الإمبراطورية السوفييتية، لم تهتم بالأعمال التجارية وعلاقاتها مع أمريكا اللاتينية.. لدينا الكثير من العمل لنفعله مع أهلنا في الجنوب».

ويشير الاستراتيجي الأمريكي في الوقت نفسه إلى أن غياب الدور الأمريكي على ذلك النحو، أفسح المجال لعلاقات دول لاتينية، مثل: نيكاراغوا، وبوليفيا، والبرازيل، وفنزويلا على سبيل، مع خصوم واشنطن، الذين يبرمون معهم صفقات واسعة «وبما يحرك الدول الواعدة الصديقة للولايات المتحدة نحو النموذج الاستبدادي للحكم الذي يقضي على الحرية»، على حد قوله.

ويستشهد هوسي في ذلك السياق بما ذكره والتر راسل ميد بمقاله المشار إليه سالفاً، عندما أفاد بأنه ما لم يستفد الرئيس الأمريكي من روح جيمس مونرو، فإن مزيجاً ساماً من عدم الاستقرار والتدخل الأجنبي في النصف الغربي من الكوكب «يمكن أن يقوض قريباً قدرة الولايات المتحدة على مواجهة التحديات في أماكن أبعد».

ومبدأ مونرو هو بيان أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في رسالة سلّمها للكونغرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823، نص على ضمان استقلال كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم، أو التّدخّل في تقرير مصيرهم.

وظل هذا المبدأ جزءاً من السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ورمزاً للتفوق الأمريكي، وحماية المصالح الوطنية، في النصف الغربي من الكرة الأرضية. ورغم تعديلات وتطورات السياسة الخارجية الأمريكية على مر السنين، إلا أن المبدأ لا يزال له تأثيره وأهميته في توجيه السياسة الأمريكية تجاه المنطقة.

فيما لا تزال الولايات المتحدة تخاطر بفقدان المزيد من الحضور في تلك المنطقة، وهو ما أشار إليه تقرير نشرته صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية نهاية مايو الماضي، رصد عدداً من الشواهد أخيراً في هذا الشأن، ومن بينها:

زيارة الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا للصين، التي أبرم خلالها نحو 20 اتفاقية بقيمة 10 مليارات دولار، فضلاً عن توقيع الإكوادور صفقة تجارية جديدة مع بكين، بعد أن حصلت في وقت سابق على 1.4 مليار دولار من الصين العام الماضي؛ بهدف تخفيف الدين.

يضاف إلى ذلك أيضاً، الاتفاقات التجارية الجديدة التي أبرمتها تشيلي، وكوستاريكا، وبيرو مع بكين، فضلاً عن الاتفاقات التي تخطط إليها بنما، وأوروغواي.

إذ ينتظر أن تحظى تلك الاتفاقات بزخم وترجمة عملية على أرض الواقع. هذا في وقت تحظى فيه واشنطن باتفاقات تجارة حرة مع 12 دولة في أمريكا اللاتينية، لكنها غير مفعلة بشكل واضح. وقد أقر النائب الأول لمساعد وزير الخارجية الأمريكي، ريكاردو زونيغا، بأنه لا يوجد دعم لتوسعة تلك الاتفاقات.

تقويض الأمن

بينما تتواصل الانسحابات الأمريكية والأوروبية من الأسواق اللاتينية. ضرب التقرير المشار إليه عدداً من الأمثلة على ذلك، مثل بيع شركة (Duke Energy) الأمريكية القابضة عشرة سدود لتوليد الطاقة الكهرومائية في البرازيل لشركة صينية، فضلاً عن بيع شركة (Nutrien) الكندية (أكبر منتج للبوتاس.

وثالث أكبر منتج للأسمدة النيتروجينية في العالم) حصتها في شركة (SQM) في تشيلي، التي تعد أحد أكبر منتجي الليثيوم في العالم، إلى شركة صينية عام 2018. وتضم القائمة عدداً آخر من الشركات الأوروبية التي تدرس التخارج من الملعب اللاتيني.

إلى ذلك، ينظر مراقبون أمريكيون بمزيد من القلق لتلك المؤشرات وانعكاساتها على الأمن الأمريكي، ما عبر عنه والتر راسل ميد، في مقاله المذكور، عندما قال: إن «مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية» تتجاهل بنوع من البرود فكرة أن النشاط الصيني، والروسي، والإيراني، في النصف الغربي من الكوكب يمكن أن يقوض الأمن الأمريكي.

بروفيسور العلاقات الدولية في كلية هاميلتون، آلان كفروني، يوضح في تصريح لـ«البيان» أنه «منذ مبدأ مونرو (1823) نظرت الولايات المتحدة إلى نصف الكرة الغربي من خلال عدسة السيادة الأمريكية»، لافتاً إلى أنه خلال الحرب الباردة، حقق الاتحاد السوفييتي تقدماً متواضعاً في المنطقة، لكن أزمة الصواريخ الكوبية (1962) أوضحت في النهاية قوة وتفوق الولايات المتحدة.

ويضيف مع ذلك، التحول التدريجي نحو التعددية القطبية ينعكس في تغلغل الصين الاقتصادي المتزايد والهائل في جميع أنحاء المنطقة (..) وتمثل رحلة رئيس المفوضية الأوروبية، أورسولا فان دير لاين، إلى البرازيل، والمكسيك، وتشيلي، والأرجنتين، محاولة لعكس دور أوروبا المتراجع في المنطقة، ولا سيما بالنظر إلى وفرة المنطقة من المواد الخام المهمة، خاصة الليثيوم والنحاس.

أوروبا على الخط

وفي ما يخص أوروبا، فثمة تفاهمات كبيرة يتم التأسيس إليها، وسط سلسلة من اللقاءات الثنائية والجماعية التي قد تؤسس لشراكة أوروبية لاتينية، طبقاً لتحليل الكاتب الصحافي من البرازيل، علي فرحات، الذي صرح لـ«البيان» أن مجموعة من التحديات تواجه هذه الشراكة، أهمها: الدخول الواسع لكل من الشركات الصينية والروسية إلى الواقع اللاتيني.

وبالتالي فإن السؤال: كيف يمكن للاتحاد الأوروبي منافسة هذا النفوذ من خلال إنشاء شراكات كبرى ومن خلال تعاملات تجارية بعيداً عن الدولار الأمريكي كما حدث بين البرازيل والصين، والصين والأرجنتين.

عقبات كبيرة

ثمة عقبات كبيرة في السياق يسعى الأوروبيون إلى تذليلها، بينما عليهم إعطاء الحوافز الكبرى لدول أمريكا اللاتينية من أجل الدخول إلى العالم اللاتيني وإنشاء شراكات سياسية واقتصادية جديدة في هذه المنطقة، ولا سيما بعد الأزمة الكبرى التي تتعرض لها أوروبا، التي دفعتها نحو تعزيز سعيها لشراكات اقتصادية مع دول أمريكا اللاتينية، خاصة البرازيل، والأرجنتين، وفنزويلا، التي تستعيد عافيتها الاقتصادية، بحسب علي فرحات.

ويضيف «يسعى الأوربيون من خلال هذا الانسجام الكبير ما بين التيارات اليسارية في أمريكا اللاتينية والأوروبية لتطوير هذه العلاقات السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى عملية محاصرة اليمين المتطرف(..)».

ويلفت الكاتب الصحافي، إلى أن ثمة مصالح كبرى مشتركة بين الجانبين، في ضوء ما وصفه بـ«النظرة الأوروبية الجديدة تجاه أمريكا اللاتينية».

حيث رغبة دول القارة في تخفيف الحضور الصيني والروسي في هذه المنطقة وسدّ بعض الفراغات التي يقول الأوروبيون إنها تفتح الباب واسعاً أمام الصينيين والروس باعتبارهم خصوم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لاتخاذ أمريكا اللاتينية كموقع اقتصادي وجيوسياسي يستطيعون من خلاله مقارعة التحالف الغربي.

Email