المعضلة الأوروبية ..«فك الارتباط» مع الصين أم مزيد من التقارب؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

إلى أين تتجه العلاقات الأوروبية-الصينية؟.. سؤال تقليدي لطالما كان يُطرح في غير مناسبة، وكلما شهدت العلاقة بين الجانبين خطوات جديدة (للأمام أو الخلف)، لكنّه اكتسب زخماً واسعاً أخيراً مع ملفات شائكة فرضت نفسها على المشهد، وبعد أن تعلمت دول القارة العجوز دروساً قاسية من الحرب في أوكرانيا، وفي ظل جملة من التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم.

من بين تلك الدروس المستفادة ما أدركته أوروبا من خطر الاعتماد الكلي على روسيا لجهة تأمين إمدادات الطاقة، وهو الملف الذي شكَّلَ نقطة ضعف كبيرة لدول القارة، ما كان دافعاً لعديد من الأصوات داخل أوروبا من دعاة «فك الارتباط مع الصين» إلى مقاربة المشهدين.

فبينما تدفع أوروبا فاتورة اعتمادها على موسكو في إمدادات الطاقة، فإنها في الوقت نفسه مُهددة بنفس القدر في سياق اعتمادها الرئيسي على الواردات الصينية، وفي ضوء العلاقات التجارية القوية بين الجانبين.

صحيح أن دعوات «فك الارتباط» ليست جديدة على الصعيد الأوروبي، خاصة في ظل الموقف الأمريكي من الصين، إلا أنها اكتسبت حضوراً واسعاً في ظل عدد من المعطيات، من بينها «دروس الحرب في أوكرانيا» علاوة على مواقف بكين التي تنظر إليها دول غربية بنوعٍ من الريبة إزاء علاقاتها الوطيدة مع موسكو.

ومن هنا تظهر أبعاد «المُعضلة الأوروبية»، ما بين الاقتراب المنطقي وفقاً لمعطيات اقتصادية في ضوء علاقات مبنية على أساس المصالح المشتركة مع الصين وفي ضوء العلاقات التجارية الأوسع واعتماد أوروبا على الواردات من بكين، وبين الانفصال وفقاً لأجندات سياسية وربما عسكرية، في ظل ما يشكله الصعود الصيني من خطر.

وكذلك في ضوء العلاقة مع الولايات المتحدة، بينما الأخيرة تخوض حرباً تجارية مع بكين وتصنفها كخطر مُزعزع للهيمنة الأمريكية، وبالتالي تسعى لتعطيل صعودها.

تُعد الصين الشريك التجاري الرئيسي لأوروبا، إذ بلغ إجمالي التبادل التجاري بينهما 856.3 مليار يورو (912.6 مليار دولار)، في العام 2022، ارتفاعاً بنسبة 23 % عن معدلات العام 2021، وفق البيانات الواردة عن يوروستات، بينما الميزان التجاري يصب في صالح الصين بشكل كبير.

وهو ما يؤكد تلك المعادلة الصعبة التي ترزح تحتها دول القارة التي لا تستطيع الفكاك مما تعتبره «التهديد الصيني»، وفي نفس الوقت «ليس بوسعها تحمل فاتورة فك الارتباط». ولقد عكست الزيارات الأوروبية المُتكررة إلى الصين، وما شهدته من تصريحات واتفاقات مختلفة، جانباً من التناقضات الأوروبية إزاء العلاقة مع بكين.

تناقض أوروبي

أستاذة العلوم السياسية، المدير المؤسس لبرنامج الدراسات الأوروبية بجامعة فيكتوريا، آمي فيردون، تقول في تصريحات لـ«البيان»: إن الاتحاد الأوروبي حالياً يتعامل مع الصين بطريقة متناقضة، مستشهدة بتقرير نشرته «إيكونوميست» أخيراً بشأن معضلة الاتحاد الأوروبي الذي «لا يعرف كيف يتعامل مع الصين»، حسب رأيها.

بينما هو -بعد عقود من التجارة مع بكين- مشتت بين الانفصال والحرب من ناحية، وخفض التصعيد والوفاق الجزئي من ناحية أخرى، بينما الدول الأوروبية (على المستوى الفردي) تكافح من أجل الاتفاق مع بعضها البعض.

وتشير فيردون إلى أن «الاتحاد الأوروبي وثيق الصلة بالصين، وتأتي العديد من وارداته من بكين، لا سيما المعادن المُهمة، كما أن بكين تمثل مركز قوة جيوسياسي». بينما يواصل الاتحاد الأوروبي التعامل مع الصين في وقت واحد كشريك في التعاون والتفاوض ومنافس اقتصادي ومنافس استراتيجي.

«ومع ذلك، فإن التغييرات التي يمكن ملاحظتها من الناحية الجيوسياسية تعني أن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى إعادة فحص سياسته تجاه الصين. ولا يحدث هذا التغيير في بكين لأن الولايات المتحدة تفرض على الصين وقتاً عصيباً. كما يشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق إزاء الموقف المتصاعد الذي يشمل تايوان».

وبحسب المدير المؤسس لبرنامج الدراسات الأوروبية بجامعة فيكتوريا، فإن «دول الاتحاد الأوروبي لا تمتلك جميعها نفس الاستراتيجية بشأن الصين: لديهم مخاوف مختلفة ويقيمون علاقتهم بشكل مختلف عن بعضهم البعض. ومع ذلك، في حالة حدوث تصعيد بشأن تايوان، فقد تصبح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أكثر اتحاداً».

النفوذ العالمي

وبالنظر إلى السياقات الجيواستراتيجية لقضية «فك الارتباط» بين بكين والاتحاد الأوروبي، فإنها تأتي في ظل التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، ومع التنافس المحموم بين البلدين حول النفوذ العالمي.

وفي وقت تمارس واشنطن «ضغوطات» على حلفائها في أوروبا وحتى في آسيا من أجل فك الارتباط التجاري والاقتصادي والتكنولوجي مع الصين، من أجل محاصرة الأخيرة واحتوائها ومحاولة إيقاف أو إبطاء صعودها.

يؤكد ذلك الأكاديمي المتخصص في الشؤون الآسيوية، الدكتور جلال رحيم، في تصريحات لـ «البيان»، ويلفت إلى أن واشنطن نجحت في تحقيق بعض النجاحات في هذا السياق، على سبيل المثال إقناع بريطانيا بإلغاء مشاريع هواوي لإنجاز شبكات الجيل الخامس هناك،.

وكذلك إقناع هولندا بوقف تصدير الرقائق الإلكترونية للصين، فضلاً عن إعلان إيطاليا نيتها الانسحاب من المذكرة الخاصة بالحزام والطريق التي وقعتها مع الصين في 2019.

وتبعاً لذلك، يرى رحيم أن «معضلة الاتحاد الأوروبي تأتي في هذا السياق (محاولات واشنطن عزل الصين وفرض حصار اقتصادي عليها، في الوقت الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بعلاقات تجارية كبيرة مع الصين وبما يظهر التناقضات الأمريكية في هذا الصدد)».

مشيراً إلى أنه رغم ذلك فإن «أوروبا لا تستطيع فك الارتباط بالصين، فهي تعتقد الآن بأنها قد دفعت فاتورة باهظة من فك الارتباط مع روسيا بعد الحرب في أوكرانيا بسبب العقوبات الشاملة والمكبلة للطرفين (..) وبالتالي من الصعوبة بمكان أن يقدم على خطوات إضافية للتباعد الاقتصادي والتجاري مع الصين بما تمثله من ثقل اقتصادي».

ويشرح خبير الشؤون الآسيوية في هذا السياق ثلاثة عوامل أساسية لا يُمكن معها عملياً فك الارتباط، والذي إن حدث -وهو أمر بعيد التحقق- سوف يُعيد أوروبا اقتصادياً 50 عاماً للوراء، على حد تعبيره. تتلخص تلك العوامل في أن لكل دولة في الاتحاد الأوروبي مصالحها الخاصة وهي ليست بالضرورة متطابقة مع بقية الأعضاء.

العامل الثاني مرتبط بالتناقض الواضح بين الأعضاء القدامى المؤسسين والأعضاء الجدد المنضمين للاتحاد من أوروبا الشرقية. والعامل الثالث مرتبط بتناقض الولايات المتحدة نفسها في تعاملها مع العلاقات الأوروبية الصينية.

ويُمكن هنا الاستشهاد بتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدى عودته من زيارته للصين، عندما أطلق «خطاباً ثورياً» ضد ما اعتبره «التبعية للولايات المتحدة» وضرورة «الاستقلال» عن الموقف الأمريكي. وهو ما يُظهر جانباً من التناقضات الأوروبية في العلاقات مع واشنطن والصين، والعجز الأوروبي ككتلة اقتصادية وسياسية عن أية محاولة للانفصال عن بكين.

وبحسب رحيم، فإن «الاتحاد الأوروبي لا يرى الصين خطراً على غرار ما تراه الولايات المتحدة، فالأخيرة تخشى خسارة نفوذها، بينما أوروبا ليس لديها ما تخسره، حتى أن الحرب في أوكرانيا قد أضعفت الغرب وخلقت ديناميكية جيوسياسية في الشرق، لجهة انتقال الثقل السياسي والجيواستراتيجي من الغرب للشرق».

ويختتم كلامه مع «البيان» بالحديث عن المعضلة الحقيقية المرتبطة بالنقاش الدائر في أوساط غربية مختلفة حول (هل حان فك الارتباط مع الصين، أم فك الارتباط مع الولايات المتحدة؟!) والتساؤلات المرتبطة بـ «من وراء المشكلات والمعضلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والجيواستراتيجية التي تواجهها أوروبا، الصين أم الولايات المتحدة؟

ومن دفع إلى هذه الحرب (في أوكرانيا) ومن خلق سياقاً معيناً واستدرج روسيا لتقع في هذا المستنقع؟ ومن فجّر نورد ستريم ليتمكن من تصدير الغاز بأسعار مرتفعة؟».

عامل خطر أم منافس استراتيجي؟

يرى خبير الشؤون الأوروبية من بروكسل، محمد رجائي بركات، في تصريحات لـ «البيان» أن دول الاتحاد الأوروبي في موقف حرج، بالنظر إلى ارتباط الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو بالمواقف التي يتبناها الحلف.

وقد تبنى رؤساء وحكومات دول أعضاء في الناتو قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا بأشهر معدودة خطة عمل الحلف خلال الـ 10 سنوات المقبلة، عنوانها كان «مواجهة الخطر الروسي».

منافس شرس

وحاولت الولايات المتحدة وبعض الدول إضافة «الخطر الصيني»، ولكن بعض الدول الأعضاء في الحلف والاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا، لم توافق على ذلك (..) وتم التوصل إلى وصفها كمنافس شرس من الناحية الاقتصادية للدول الغربية. «وعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا أصبح هناك تقارب روسي صيني، وبدأت الأصوات ترتفع خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا على اعتبار أن الصين تشكل خطراً على دول الغرب (..)».

وبحسب بركات، فإن «دول الاتحاد الأوروبي منقسمة في هذا الصدد، لا سيما أن اقتصاد الصين يشكل قرابة الـ 20 % من الاقتصاد العالمي، فضلاً عن اعتماد أوروبا على الواردات من الصين (زاد إجمالي حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين بنسبة حوالي 23 % في العام 2022)،.

ولكن في نفس الوقت ومع تطور الأوضاع في أوكرانيا وتطور المواقف الصينية إزاء الحرب وعدم إدانة بكين لموسكو/‏‏ جعل ذلك كله دول الاتحاد تتردد في مواقفها إزاء الصين.. وظهر من الخلافات وعدم التوافق في المواقف الأوروبية.. البعض يريد اعتبار الصين أيضاً بأنها تشكل خطراً على الغرب«. يؤكد ذلك تصريحات عدد من المسؤولين الأوروبيين.

وبناء على ذلك، فإن ثمة نوعاً من «التردد» و«التناقض» في المواقف الغربية إزاء الصين، وينادي بعض المسؤولين إلى ضرورة عدم الاعتماد على بكين وعدم السقوط في نفس الخطأ الذي وقعت فيه أوروبا باعتمادها على أوروبا (فيما يخص إمدادات الغاز)، في وقت يعلم فيه الجميع مدى أهمية الصين بالنسبة لأوروبا، بالنظر للعلاقات التجارية والاقتصادية الواسعة.

ولا سيما فيما يتعلق بعديد من الصناعات الإلكترونية، وعليه «ليس من مصلحة دول الاتحاد التصعيد مع الصين أو السير مع الولايات المتحدة، كي لا تقع في نفس المأزق الذي وقعت فيه عندما فرضت عقوبات على روسيا، ذلك أنه إذا فرضت أوروبا عقوبات على بكين فإن الرد الصيني سوف يؤدي لإلحاق أذى كبير باقتصادات دول الاتحاد الأوروبي».

لا حلول أوروبية!

من برلين، يشير خبير العلاقات الدولية عبدالمسيح الشامي، في تصريحات لـ «البيان» إلى أن أوروبا الساعية للانفصال عن الصين وفق أجندات سياسية، بينما تضعها المعطيات الاقتصادية أمام حتمية الاقتراب أكثر لبكين، تواجه إشكالية «عميقة وشائكة وصعبة» في هذا السياق.

ويضيف: «لا يبدو أن هنالك أية خطة أو مشروعاً لحسم هذه المعضلة الأساسية.. هم (أوروبا) يحاولون بشكل أو بآخر الحفاظ على ما كانت عليه الأمور قبل ذلك (قبل الحرب) وهذا واضح من خلال الزيارات المتكررة لمسؤولين أوروبيين إلى الصين في الآونة الأخيرة ومحاولة تطمينهم وإرضائهم بشكل أو بآخر».

ويعتقد بأن أوروبا «تتطلع إلى معادلة صعبة وهي الفصل أو التصعيد على المحور السياسي، بينما بقاء العلاقات الاقتصادية والتجارية في سياقها، لكن على الجانب الآخر فإن الصين دولة قوية ولا تستطيع الفصل بين الأمرين.

ولا يمكن أن يعادوا الصين في مكان ما في البعد السياسي والعسكري، ويأتوا للتقارب في السياق التجاري والاقتصادي». وعليه فإن الفرص والحلول الخاصة بهذه المعضلة غير موجودة، ولا توجد إمكانية على ما يبدو إذا استمرت هذه التبعية للولايات المتحدة الأمريكية.

 

Email