صراعات تجهض آمال جني ثمار مكافحة الإرهاب

القارة السمراء حرائق لا تنطفئ!

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما انفك دخان الحرائق السياسية والأمنية يخنق الأجواء في عديد من البلدان الأفريقية، ملقياً بتهديدات وظلال وخيمة على القارة بأكملها، التي ما إن راودتها بواعث الأمل في تصحيح البوصلة، والمضي قدماً على طريق التنمية وإخماد أي من تلك الحرائق، إلا وسرعان ما ينشب حريق آخر، يُجهض الآمال كافة.

فالقارة شهدت -كما العالم أجمع- خلال السنوات الثلاث الماضية، مجموعة من الصدمات المتتالية، بدءاً من جائحة «كورونا» وتداعياتها شديدة الصعوبة على اقتصادات الدول بشكل خاص، وصولاً إلى الأزمات الواسعة التي خلفتها الحرب في أوكرانيا منذ الرابع والعشرين من فبراير العام الماضي، التي ضاعفت معاناة دول القارة إلى حد كبير.

رغم تلك الأوضاع، عرفت القارة السمراء هبوطاً تدريجياً في العمليات الإرهابية منذ بداية العام الجاري، في ضوء جهود مكافحة الإرهاب، لاسيما في البؤر الأكثر اشتعالاً، من بينها: الصومال، حيث أنهى الرئيس، حسن شيخ محمود، بدعم من أطراف إقليمية ودولية، المرحلة الأولى «الناجحة» لتحرير البلاد من الإرهاب.

الإحصاءات الصادرة في القاهرة عن «مرصد الأزهر» لمكافحة التطرف، تكشف عن هبوط تدريجي في عدد العمليات الإرهابية التي تتعرض لها القارة. يتزامن ذلك والنجاحات المحققة على صعيد مكافحة الإرهاب في بعض الدول. إذ تراجع عدد العمليات الإرهابية مارس الماضي بواقع 9.1 % مقارنة بشهر فبراير، ليواصل مؤشر العمليات الإرهابية هبوطه، وذلك عبر 30 عملية أسفرت عن سقوط 243 ضحية وإصابة 31 آخرين.

وكانت القارة -طبقاً للمرصد نفسه- سجلت العام الماضي نحو 550 عملية إرهابية، أسفرت عن سقوط 4189 ضحية، بينهم 117 حالة إعدام، فضلاً عن إصابة 2029، واختطاف 704 آخرين.

أعطى ذلك «الهبوط التدريجي»، بالتزامن مع جهود بذلتها حكومات أفريقية من أجل «لم الشمل»، ولملمة الأوضاع الداخلية، وإطلاق خطط التنمية، تفاؤلاً نسبياً بأن دول القارة قادرة على تجاوز عثراتها وإخماد الحرائق، في ساحات تلفها تحديات عميقة ومتزامنة، سواء لجهة الأوضاع الأمنية والسياسية، وكذلك الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية المتردية.

 

ثنائية الإرهاب والصراع المسلح

«ثمة مؤشرات إيجابية شهدتها القارة الأفريقية خلال الفترة الأخيرة في سياق التقدم النسبي على صعيد مكافحة الإرهاب، لاسيما في الساحات الملتهبة أو بؤر الصراعات، مثل: الصومال، ومناطق أخرى شرقي القارة (أثيوبيا على سبيل الذكر)، ومناطق في الغرب، والساحل، والصحراء، ومناطق أخرى في الوسط (الكونغو)»، بحسب خبير الشؤون الأفريقية، رامي زهدي.

وفي تصريحات خاصة لـ«البيان» يشير زهدي، إلى تراجع التنظيمات الإرهابية، وربما خروج أو محاصرة بعضها، كما يحدث في الصومال على أثر جهود الحكومة المدعومة بمساعدات خارجية، التي استطاعت إحراز تقدم كبير في سياق مواجهة حركة الشباب. كذلك في الغرب، هنالك تراجع لجماعة «بوكو حرام» بشكل أو بآخر، وجماعات أخرى في الوسط.

لكن في الوقت الذي يحدث فيه هذا التراجع، نجد القارة الأفريقية كأن كتب عليها الشقاء، حيث واجهت، عوضاً لذلك، تصاعداً في الصراعات الداخلية، التي ربما أكثر عنفاً وخطورة، وهي الصراعات المسلحة التي تتم بين القبائل والعشائر المختلفة (كما حدث في أثيوبيا)، وصراعات أخرى على السلطة (كما يحدث في السودان، وفي أكثر من دولة في غرب أفريقيا).

فيما سجلت القارة في أول شهرين من 2023، سقوط 1746 قتيلاً؛ جرّاء أعمال العنف المستشرية (النزاعات والصراعات الداخلية، بخلاف العمليات الإرهابية)، طبقاً لتقارير «عدسة الإرهاب في أفريقيا»، الصادرة عن مؤسسة «ماعت» الحقوقية بالعاصمة المصرية القاهرة. بما يعكس مدى تصاعد آثار تلك الصراعات المتفاقمة في عديد من دول القارة.

وبالتالي، فإنه في النهاية النتيجة واحدة، هي شقاء هذه الشعوب التي تعاني اقتصادياً وأمنياً، مع تصاعد عمليات النزوح، في ظل ضعف البنية التحتية بمختلف أشكالها؛ بسبب الإرهاب والصراعات شديدة الخطورة، أحدثها الصراع في السودان «فلأول مرة منذ سنوات طويلة، يحدث صراع أو اقتتال في دولة أفريقية بهذه الدرجة من الندية، حيث جيشين تقريباً يواجهان بعضهما البعض (..)، إلى جانب علاقة الصراع الحالي، كذلك بأطراف إقليمية ودولية متداخلة في الشأن السوداني (..)»، وفق زهدي. وتبعاً لتلك المعطيات، فإن بواعث القلق المرتبطة بتصاعد التوترات الأمنية بالقارة، لا تزال تفرض نفسها مُلتهمة بواعث التفاؤل التي تشير إليها عمليات التقدم في مكافحة الإرهاب.

 

تغير دراماتيكي بالأحداث

وطبقاً لخبير الشؤون الأفريقية، فإن الوضع الأمني لا يزال شديد الخطورة، وما حدث هو «تغير دراماتيكي في الأحداث» بعد أن تصدرت الصراعات (بأشكالها المختلفة، بما في ذلك الصراعات القبلية) إلى حد كبير على المشهد وتراجع الإرهاب للخلف نسبياً. وما يحدث في السودان مؤشر شديد الخطورة على أمن واستقرار القارة.

ويختتم زهدي حديثه قائلاً: «بواعث القلق كبيرة جداً في ظل الوضع الأمني الصعب، لاسيما في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يشهدها العالم وتبعاتها على دول القارة، فالدول الأفريقية في مثل هذه الظروف الاقتصادية، لا تمتلك إمكانات مالية تسمح لها بتعديل ميزانياتها للإنفاق الأمني».

وكان الاتحاد الأفريقي قد تبنى مبادرة «إسكات البنادق»، تستهدف تسريع النمو الاقتصادي والتنمية بأفريقيا، من خلال تسوية مختلف صراعات القارة بحلول 2020، إلا أنه تم تمديد المبادرة لغاية 2030، بما يعكس استمرار الصراعات وتشعبها، بما يفوق القدرة على السيطرة عليها.

يأتي ذلك في وقت تتفجر فيه صراعات جديدة من آن لآخر في عدد من الدول، ومع تعثر المسارات السياسية في دول أخرى. وفي وقت أضافت فيه جائحة «كورونا» مزيداً من الأعباء على دول أفريقيا، التي لا تزال بحاجة إلى نحو 424 مليار دولار للتعافي من تداعيات الجائحة، وفقاً لرئيس بنك التنمية الأفريقي، أكينوومي أديسينا.

 

الإرهاب يطور أدواته

المفكر الاستراتيجي، اللواء سمير فرج، يشير في تصريحات خاصة لـ«البيان»، إلى أن الأوضاع الأمنية في القارة الأفريقية لا تزال تشهد مزيداً من الاضطرابات، مستشهداً بما شهده السودان أخيراً من «كارثة»، حيث الحرب بين قوة عسكرية، وأخرى عسكرية موازية، تمتلك كل منهما مقومات خاصة.

وبخلاف الصراعات الداخلية، وبينما تُحرز دول أفريقية تقدماً على مسارات مواجهة الإرهاب، إلا أن فرج يلفت إلى تطوير بعض الجماعات أدواتها وتمددها على محاور أخرى داخل القارة، مستشهداً بتصاعد نشاط «بوكو حرام» في بعض المناطق الأخرى غربي القارة، إلى جانب عودة تنظيم «القاعدة» بمفرداته في مناطق واسعة، بما يؤكد حقيقة «تعقّد» الأوضاع الأمنية داخل أفريقيا بين ثنائية الإرهاب والنزاعات، بشكل لا يوحي ببواعث للتفاؤل خلال المرحلة المقبلة.

كما يتحدث الخبير الاستراتيجي المصري، في الوقت نفسه، عن الوضع في ليبيا (وهو نموذج جامع لعددٍ من الآفات التي تعاني منها دول القارة)، حيث لم يستطع الليبيون الوصول إلى «انفراجة سياسية» منذ أكثر من عشر سنوات، ولا تزال البلاد تعيش تحت حكومتين ومجلسين، بخلاف الأموال التي تُبدد على المرتزقة، فيما لا يبدو في الأفق «طوق نجاة» من هذا المشهد الملبّد بالغيوم.

ولا يعتقد بأنه يمكن التعويل بشكل حاسم على دورٍ مؤثر للمؤسسات الإقليمية والدولية إزاء تفجر الأوضاع في دول القارة السمراء «في ليبيا على سبيل الذكر، المبعوث الأممي، عبدالله باتيلي، لا يمتلك الأدوات الفاعلة لفرض حلول واضحة على المشهد (..) المنظمات المختلفة ليس لديها عملياً سوى إصدار البيانات والقرارات التي تضل طريق التنفيذ، بما في ذلك الاتحاد الأفريقي وحتى جامعة الدول العربية. فمثلاً، عندما تم إقرار وقف إطلاق النار، قبيل عيد الفطر في السودان، احتدم القتال بعد دخول العملية حيّز التنفيذ، بما يعني عدم نجاعة المبادرات والقرارات بشكل عملي».

 

مشهد مضطرب

وبالتالي، ورغم حالات التفاؤل النسبي التي دخلت بها القارة العام الجاري، إلا أن المشهد لا يزال ملخصه: صراعات ونزاعات داخلية ملتهبة، واضطرابات أمنية وسياسية، وإرهاب يجدد استراتيجياته، واقتصادات «تئِن» تحت وطأة تحديات متزامنة، وعوامل تغيّر المناخ المتسارعة، إضافة إلى دول تكافح في طريق التنمية وتصحيح الدفة، وجميعها عناوين رئيسة لعامٍ آخر مليء بالتحديات التي حاصرت الأفارقة كما الأعوام والعقود الماضية.

بينما يسهم الصراع «الجيو اقتصادي» الذي تشهده أفريقيا كساحة حرب بين الدول الكبرى، في «تأزيم» أوضاع القارة السمراء، التي تعاني غالبية دولها من انهيارات مختلفة على صعد مختلفة، وهي الحرب التي وصفها كبير الاقتصاديين في البنك الأفريقي للاستيراد والتصدير، هيبوليت فوفاك، في دراسة حديثة له، بأنها شكل من أشكال «الحرب الباردة الجديدة».

إذ يقول فوفاك في دراسته التي حملت عنوان «فجر الحرب الباردة الثانية»، ونشرها معهد «بروكينغز» الأمريكي، منتصف العام الجاري: «إن أفريقيا تشهد حروباً بالوكالة، وبدت كساحة للمعارك في ظل عمليات إعادة التموضع الجيوسياسي، ومع وجود نحو 13 دولة أجنبية تنفذ عمليات عسكرية على أراضي القارة».

 

أثر الصراعات الدولية

إلى ذلك، يقول نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية، السفير صلاح حليمة، في تصريحات خاصة لـ«البيان»: إن «الوضع الأمني في القارة الأفريقية متقلب ومضطرب، بل إن هناك تطلعات (من قبل أصحاب المصلحة في تدهور الأوضاع وفي ضوء الصراع أو التنافس الدولي على خيرات القارة)؛ لزيادة حدة تلك الاضطرابات (كلما أوشكت الأوضاع على الهدوء نسبياً في بعض المحاور)، لاسيما في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي».

وطبقاً لحليمة، فإن «الوضع الأمني في أفريقيا، ليس مرتبطاً فقط بنشاط التنظيمات الإرهابية، وعصابات الجريمة المنظمة، والاتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية، إنما يرتبط أيضاً بالنزاعات القبلية، والصراعات على السلطة والثروة في مجموعة من البلدان الأفريقية»، مشدداً على أن «المناخ العام في معظم الدول الأفريقية، محمل بكثير من الأعباء، لاسيما في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، وأعباء الديون المتصاعدة (تضاعفت الديون خمس مرات من 2000 حتى 2022، تصل إلى حوالي تريليون دولار)، بما يخلق بيئة مواتية سواء للإرهاب، وكذلك للمواقف المثيرة للاضطرابات الداخلية، نتيجة الوضع الاقتصادي الذي يزداد اضطراباً بعد الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها على دول القارة».

ويزيد: «كل هذه الأمور تتضافر معاً خلال الفترة الحالية؛ نتيجة نوع من «التكالب» من جانب الدول الكبرى، لاسيما القطبية منها (في إشارة لكلٍ من الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وأوروبا)».

أضف على ذلك، تبعات أزمة تغيّر المناخ (أفريقيا مهددة بخسارة ما بين ٥% إلى 15 % من ناتجها الإجمالي المحلي؛ بسبب أزمة المناخ)، التي تدفع بمزيد من «التأزيم» للأمور الداخلية.

ويختتم السفير حليمة حديثه قائلاً: «تشهد القارة صراعاً دولياً، فهي قارة مليئة بالخيرات، وتسعى القوى المختلفة لاستغلال نفوذها على حسب التنمية داخل القارة، بما له من آثار سياسية واقتصادية وحتى اجتماعية واسعة».

Email