تجتاح أوروبا عاصفة من الاحتجاجات المتفرقة، مُحركها الأساسي الأوضاع الاقتصادية لعديد من القطاعات الرئيسية، بما في ذلك القطاع الزراعي وقطاع النقل على سبيل المثال، وفي ضوء سلسلة من التطورات الداخلية والخارجية على حد سواء، والتي عززت حالة «عدم اليقين» المسيطرة على العالم منذ فترة جائحة كورونا، ومروراً بالحرب في أوكرانيا وتداعياتها المختلفة بعد ذلك، وصولاً إلى الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط.

تقف القارة العجوز في القلب من تلك التوترات الإقليمية والدولية المتصاعدة، وترزح اقتصاداتها تحت وطأة تحديات متزامنة في خط متواز مع تفاقم حدة الضغوطات التضخمية التي تلقي بظلالٍ وخيمة على الأوضاع الداخلية وكلفة المعيشة بالنسبة للمواطن الأوروبي، وبما يحرك مشاعر الغضب لدى قطاعات عديدة، في الوقت الذي تعاني فيه الاقتصادات الأوروبية من إشكالات هيكلية قلصت من تأثيراتها على المستوى الدولي.

يقول أستاذ الاقتصاد السياسي بالقاهرة، عبدالنبي عبد المطلب، إن «العالم شهد خلال السنوات الماضية أزمات عديدة تضرر منها الاقتصاد الأوروبي أكثر من أي اقتصاد كبير آخر، مقارنة على سبيل المثال باقتصادي الصين وأمريكا»، مشيراً في الوقت نفسه إلى تراجع التأثير الأوروبي في الاقتصاد العالمي، وبما عزز من الاضطرابات الاقتصادية التي تعاني منها عديد من دول القارة مع تزايد معدلات التضخم التي ضربت دول الاتحاد مع ارتفاع الأسعار وتراجع قدرة المنتجات الأوروبية على المنافسة في السوق العالمية.

ويشير إلى التأثير المباشر لفترة جائحة كورونا التي شهدت غلق الكثير من المصانع، وعرقلت الاستثمار الأوروبي في الخارج، علاوة على تداعيات الحرب في أوكرانيا، والتي يعتقد بأنها أجهزت على الاقتصاد الأوروبي الذي كان متضرراً بالفعل من أزمة «كوفيد 19». كانت لدى أوروبا خطط طويلة الأمد لمضاعفة حجم الناتج الصناعي بعد تشغيل خط الغاز الروسي «نورد ستريم 2»، ولكن مع بدء الحرب توقف العمل بهذا الخط، وشهدت أوروبا ارتفاعاً كبيراً في أسعار الوقود والطاقة، فصار من الصعب عليها أن توفر احتياجات المواطنين الأساسية من الطاقة، فضلاً عن التوسع في الصناعة، ومع اللجوء لاستيراد الغاز المسال بأسعار مرتفعة.

وفي سياق تلك التحديات الاقتصادية، شهدت عواصم أوروبية احتجاجات مختلفة، تنامت أخيراً بشكل لافت قبيل الانتخابات، لا سيما في قطاع الزراعة، بالإشارة إلى تمدد احتجاجات المزارعين في كثير من البلدان الأوروبية، بعد أن توسعت رقعتها في الأيام الأخيرة.

تعكس تلك الاحتجاجات جانباً من الضغوطات التي تجابهها عديد من الحكومات وفي ظل الأوضاع الاقتصادية التي هي بحاجة إلى عمليات إعادة ترتيب واسعة بعد ما أثارته جملة المتغيرات الأخيرة على مدى العامين الماضيين من تفجر لعديد من الملفات الإشكالية، بما في ذلك ملفات الأجور ومدى اتساقها مع معدلات ارتفاع الأسعار، علاوة على ملفات المنافسة والإنتاج المحلي، وغيرها من الأمور ذات الصلة.

بحسب خبير العلاقات الدولية، محمد ربيع الديهي، فإن الاقتصاد الأوروبي يشهد أزمة حالياً نتيجة عديد من المتغيرات، تأتي في مقدمتها الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى التوترات القائمة في البحر الأحمر، والتي ألقت بظلالها على حركة التجارة الدولية من ثم تأثرت الدول الأوروبية، فضلاً عن أزمة قناة بنما (الجفاف) والتي أعاقت مرور السفن والتجارة.

ويؤكد أن كل تلك المتغيرات ألقت بظلالها على الكتلة الأوروبية اقتصادياً، ودفعت نحو مزيد من الأزمات الاقتصادية، من بينها ارتفاع التضخم وانخفاض معدل النمو الاقتصادي، ومن هنا سعت الدول الأوروبية إلى تعزيز الاعتماد على واشنطن لإنقاذها من أزمتها الحالية.