صراع بين العملاقين على «نفط المستقبل»

الصين وأمريكا.. من يحسم سباق الرقائق الإلكترونية ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

«ثغرة أمن قومي».. هكذا تنظر واشنطن، وفق تعبير وزير التجارة، جينا ريموندو، إلى ما يشكله التراجع الأمريكي في إنتاج «الرقائق الإلكترونية» من خطر، بعدما كانت الولايات المتحدة، على مدى ثلاثة عقود تقريباً، تُهيمن على أكثر من 30 % من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات، لتسجل حالياً نحو 10 % فقط.

هو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في تصريحات سابقة، تحدث خلالها عن سعي بلاده لاستعادة مكانتها في هذا القطاع الحيوي، بعدما تراجعت نسبة الإنتاج إلى ذلك النحو، رغم الريادة الأمريكية في قطاعي البحث والتصميم، المرتبطين بتكنولوجيا الرقائق الجديدة.

عصب المستقبل

توصف الرقائق الإلكترونية بكونها عصب المستقبل لقطاع التكنولوجيا، وعادة ما يُطلق عليها «نفط المستقبل»، لجهة دخولها في جميع التقنيات المتقدمة، من الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، إلى الأنظمة السحابية، والبيانات الضخمة. وكذلك، لما لها من أهمية على مستوى التصنيع العسكري، فضلاً عن دخولها في مختلف الصناعات التكنولوجية الأخرى، من الهواتف والسيارات وغير ذلك.

على الجانب الآخر، فإن الصين، التي تصنفها استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، على أنها التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية للولايات المتحدة، تستورد 60 % من الإنتاج العالمي من الرقائق الإلكترونية.

كما تسعى إلى تعزيز الإنتاج المحلي، في ضوء مبادرة «صنع في الصين 2025»، التي أطلقتها عام 2015، تتضمن رؤى للتطوير المستقل لأشباه الموصلات؛ بهدف تحقيق معدل اكتفاء ذاتي من الرقائق بنسبة 70 % بحلول 2025.

وفيما تسعى الصين إلى تعزيز قدراتها التكنولوجية على نحو واسع في المجال، رغم عديد الصعوبات، نفذّت الولايات المتحدة، (الساعية للحفاظ على مكانتها الرائدة.

وحماية مصالحها في تكنولوجيا «النانو»، وتكنولوجيا الكم، والذكاء الاصطناعي، والتطبيقات العسكرية، وما إلى ذلك) خلال الفترات الماضية، عدداً من الإجراءات الهادفة لكبح النمو السريع لبكين في قطاع أشباه الموصلات، باستخدام سلاح «العقوبات» وحظر التصدير لمحاصرة الصين.

منافسة استراتيجية

يأتي ذلك في إطار المنافسة الاستراتيجية بين البلدين، وباستخدام أدوات الحرب التجارية التي فرضتها إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، ولم تذهب بعيداً عنها إدارة بايدن، في وقت تعمل واشنطن على دعم قطاع التصنيع المحلي للرقائق المتقدمة، بتخصيص 52 مليار دولار لهذا الغرض.

كما وضعت الولايات المتحدة خطة جديدة أخيراً؛ لتعزيز إنتاج الرقائق الإلكترونية، حيث تخطط إدارة بايدن إلى إنشاء شبكة لتصميم وهندسة رقائق الكمبيوتر المتقدمة، بقيمة 11 مليار دولار، من المرجح تشغيلها نهاية 2023.

بينما تأتي معظم معدات صناعة أشباه الموصلات المتقدمة من التكنولوجيا الأمريكية، لا تنتج الولايات المتحدة أي من الرقائق الأكثر تطوراً، التي تهيمن على إنتاجها شركة (TSMC) التايوانية، تليها (Samsung Electronics) الكورية الجنوبية.

لا فائز من الحرب

وفي حين تتوالى حلقات تلك المنافسة أو الحرب التجارية بين البلدين، يميل مراقبون إلى الاعتقاد بأنه «لا يوجد فائزون من حرب الرقائق، سواء الولايات المتحدة أو الصين».

طبقاً لما تؤكده أستاذ وعالم السياسة البريطانية، زميل أبحاث أولى في قسم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة «أكسفورد»، روزماري فوت، لـ«البيان»، التي تشير في الوقت نفسه إلى أن تلك الحرب «ترفع التوتر في العلاقات الصينية الأمريكية إلى مستويات أعلى حتى الآن».

وتشرح فوت في السياق، موقف الصين من تلك «الحرب»، بقولها، إن بكين ترى هذا الأمر «محاولة أمريكية لتأخير تنمية الصين في مجالات التكنولوجيا العالية الحاسمة».

وقال الرئيس بادين في تصريحات له أخيراً، إن دعم صناعة الرقائق لا يستهدف الصين، إنما تعزيز التصنيع والوظائف في الولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فإن «الصين عازمة على الاعتماد على الذات في تطوير قدرتها على تصنيع الرقائق»، طبقاً لفوت، التي تلفت إلى أنه «في الوقت الحالي، تايوان (التي تسيطر على 60 % من إنتاج الرقائق المتقدمة والعادية)، وكوريا الجنوبية، مصنعان مهمان للرقائق الإلكترونية، والصين ليست كذلك، وبالتالي ترغب بكين في تغيير هذا الواقع».

وبينما كانت الشركات الصينية قد استوردت آلات لتصنيع أشباه الموصلات بقيمة 2.3 مليار دولار في نوفمبر الماضي، تأتي الطموحات الصينية للتصنيع المستقبلي في وقت تجابه فيه بكين (التي تخطط لاستثمار 143 مليار دولار في صناعة الرقائق المحلية بداية من العام الجاري) جملة من المعوقات الأساسية، لعل أبرزها:

افتقار ما يتصل بتأمين المواد الأساسية وقطع الغيار اللازمة الواردة من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، فضلاً عن التحديات المتزايدة في مجال الاستثمار بأبحاث تكنولوجيا أشباه الموصلات، بما قد يؤثر على هدف الاكتفاء الذاتي المذكور.

وعلى الجانب الآخر، تواجه مجموعة من التحديات أيضاً خطة أمريكا (التي شددت قيود التصدير إلى الصين) لإنتاج الرقائق المتقدمة والخروج من دائرة الاعتماد على البلدان الأخرى، بما في ذلك تايوان، ومع ما يقره قانون الرقائق والعلوم بشأن تقديم 53 مليار دولار من المنح والإعانات للشركات التي تصنع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.

من بين تلك التحديات الشكوك المتعلقة باستدامة الدعم الموجه للقطاع، لاسيما في ظل ارتفاع تكلفة مرافق أشباه الموصلات الأكثر تطوراً.

فيما يعتقد محللون بأنه إذا لم تسرع الولايات المتحدة والغرب في جهود تطوير القدرات الابتكارية والصناعية للرقائق المتقدمة، فإن ما يحظيان به من مزايا مطلقة على الصين في تلك الصناعة معرض للنضوب بشكل كبير، جنباً إلى جنب وتطوير استراتيجية مضادة للاستراتيجية الصينية.

ترس حيوي

ويتفق الأستاذ المشارك بجامعة «كورنيل» الأمريكية، المتخصص بالسياسة الصينية والعلاقات الدولية والأمن الآسيوي، ألين كارلسون، مع ما ذهبت إليه عالم السياسة البريطانية، لجهة أنه «لا أحد من الطرفين رابح في هذا الصراع».

ويشير كارلسون في تصريح لـ«البيان» إلى أنه «رغم خطاب الحمائية الذي برز في السنوات الأخيرة في كلا البلدين، فإنه في الواقع على مدى العقود العديدة الماضية استفاد البلدان بشكل عام من الترابط الاقتصادي الذي نشأ بينهما»، موضحاً أن «إنتاج أشباه الموصلات، الذي تستحوذ تايوان على الغالبية العظمى منه من خلال شركة (TMS) هو رمز لهذا الترابط».

ومع ذلك، الآن لا يبدو أن أي من البلدين يشعر بالراحة في الاعتماد على الآخرين في مثل هذا الترس الحيوي في اقتصاداتهما، لذا سعت الولايات المتحدة إلى إعاقة جهود الصين لتطوير قدرتها في أشباه الموصلات، في حين إن الميزة العسكرية المتنامية للصين في مضيق تايوان تمنحها نفوذاً.

ويعتقد الأستاذ بجامعة «كورنيل»، بأن «الولايات المتحدة في وضع أفضل على المدى القصير لتحتل الصدارة في هذا الصراع الناشئ (..) ولكن على المدى الطويل يمكن للصين المضي قدماً (من خلال سياسات صناعية مخصصة)».

ويتابع: «البديل بالنسبة للصين هو التطور السريع لقدرة إنتاج أشباه الموصلات المحلية.. مشكلة بكين هي أن تحقيق مثل هذا الهدف أسهل قولاً من فعله.. إن مستوى المواصفات والخبرة لإنتاج الرقائق الموثوق به والمطلوب مرتفع للغاية ويصعب (إن لم يكن من المستحيل) تطويره بين عشية وضحاها».

وتعد حرب الرقائق جزءاً لا يتجزأ من الصراع الحالي الأوسع نطاقاً بين الصين والغرب، وفي نفس الوقت تسهم في مثل هذه التوترات المتزايدة، وهو ما يؤكده خبير الشؤون الصينية بقوله:

لولا انعدام الثقة المتزايد بين الصين والغرب فمن غير المرجح أن تبدأ حرب الرقائق المزعومة من البداية (..) والآن بعد أن تصاعدت التوترات، لا سيما فيما يتعلق بنظام إدارة التجارة الإلكترونية، وكما دفع ما يسمى بـ «درع السيليكون» في تايوان جميع الأطراف إلى سياسات محصلتها صفرية بشكل متزايد.

ومع ذلك، فقد أكدت الزيارات الأخيرة التي قام بها القادة الأوروبيون إلى بكين أن الولايات المتحدة وأوروبا ليستا موحدين بالضرورة فيما يتعلق بنهجهما تجاه بكين.

وتدرس بكين اتخاذ مزيد من الإجراءات الاستباقية للتحايل على القيود المفروضة من قبل واشنطن، من بينها معالجة الرقائق التقليدية المحلية والتي بإمكانها تلبية الطلب على كثير من التطبيقات التكنولوجية.

فيما لا يخفي مراقبون أوروبيون قلقهم من مزيد من الاتجاه الاستقلالي للصين في ظل قيود واشنطن، وبما يدفع الصين إلى خلق نظام تقني خاص تعمل جاهدة من أجله.

تكلفة الحرب

من جانبه، يشير المتخصص في التطوير التكنولوجي، هشام الناطور، في حديثه مع «البيان» إلى أن «الحرب التكنولوجية يمكن أن تكون نتيجتها مدمرة لاقتصاد البلدين، تصل كلفتها ربما إلى ما هو أبعد من الحرب الفعلية، في ظل هيمنة التكنولوجيا على مفاصل حياة الناس وباعتبارها صلة الوصل الأساسية (..) إذا كانت هذه الحرب تؤدي إلى تعطيل أو تأخير التطور أو الإنتاج التكنولوجيا والصناعات والتحديثات فثمة خسائر متوقعة بمليارات الدولارات (..)».

في هذا السياق، ولضمان التطبيق الفعّال للحظر الذي تمارسه الولايات المتحدة على الصين فيما يخص «الرقائق»، كثفت واشنطن تنسيقها مع الدول الأساسية المنتجة للرقائق والمشكلة للتحالف المعروف باسم (Chip Four)، الذي يضم (الولايات المتحدة، واليابان، وتايوان، وكوريا الجنوبية).

حيث تبزغ قوة كل من تايوان وكوريا الجنوبية في التصنيع، بينما تتمتع اليابان بميزة وفرة المواد الأساسية، بينما الولايات المتحدة مزايا التصميم والمعدات اللازمة للإنتاج.

وأبرمت الولايات المتحدة - بعد مفاوضات شاقة -، اتفاقية في وقت مبكر من العام الجاري مع كل من اليابان وهولندا، تضمن سير البلدين على نفس النهج الأمريكي فيما يخص تقييد صادرات أشباه الموصلات إلى الصين، لتقوم أمستردام بموجب الاتفاق بحظر تصدير أدوات الطباعة الحجرية فوق البنفسجية الشديدة لبكين، (بما يرفع التكلفة الاقتصادية لإنتاج رقائق متطورة).

وقبيل أيام، دفعت الولايات المتحدة بكوريا الجنوبية إلى ساحة «الصراع» حول الرقائق، بعد أن طلبت من الحكومة حثّ صانعي الرقائق على عدم سد أية فجوة في السوق الصينية إذا حظرت بكين شركة (Micron Technology Inc MU.O) من بيع الرقائق.

ويضيف الناطور: «في النهاية لا يمكن أن ننكر أن الولايات المتحدة (..) تريد أن تكون المهيمن الأساسي فعلياً..

والصين بالنهاية إذا يئست فستجد تقنية أخرى ويمكن أن تتفوق فيها على الولايات المتحدة.. الصين تعكف على أبحاث وابتكارات جديدة، لاسيما تلك الخاصة بالسيارات الكهربائية ويمكن أن تتفوق في ذلك بشكل كبير».

وأوضح أن الولايات المتحدة استطاعت محاصرة الصين بعدة خطوات، سواء العقوبات وكذلك فرض حدود جمركية على المنتجات الصينية، لاسيما خلال عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، وهو الأمر المستمر حتى الآن.

كما سبق وأن قدمت الصين شكوى لمنظمة التجارة العالمية ضد ضوابط الصادرات الأمريكية. ومع ذلك، تعلم كل من الولايات المتحدة والصين أن الأمر سيستغرق بضع سنوات على الأقل للتعامل مع القضية، ولا أحد يعرف ما إذا كان سيتم حلها.

سوق نامية

وصل حجم سوق أشباه الموصلات العالمية إلى 574.1 مليار دولار في 2022، طبقاً لبيانات منظمة إحصاءات تجارة أشباه الموصلات العالمية، بينما من المتوقع أن تنمو هذه الصناعة بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 6.21 % حتى 2031.

وتعتبر شركة (TSMC)، أكبر شركة لأشباه الموصلات في العالم، بقيمة سوقية تتجاوز 600 مليار دولار، وحققت العام الماضي إيرادات بلغت 75.88 مليار دولار، وتستحوذ على نسبة 92 % من إنتاج الرقائق «المتقدمة». ويعتقد الناطور بأن «موقف الولايات المتحدة أقوى من الصين في هذه الحرب، على اعتبار أن واشنطن (من خلال تفاعلاتها السياسية الدولية)، مسيطرة على سوق الرقائق.

وذلك لسيطرتها على الحلفاء، في مقدمهم تايوان، التي هي أكبر مصنع بأعلى جودة للرقائق (..)، كما يمكن للولايات المتحدة «فرض عقوبات على حلفاء لها، إذا تعاملوا مع الصين في مسألة تسهيل تصنيع الرقائق».

Email