عالم اليوم

توتّرات متزايدة ونُذر بتحوّلات جذرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«وضع دولي مشبع بعدم الاستقرار، وسط نذر تحولات عالمية جذرية متصاعدة، في ضوء تنامي التحديات، سواء على صعيد الدول أو التحالفات والتكتلات المختلفة، بما ينذر بتغير خرائط وموازين القوى في النظام الدولي مستقبلاً»..

هكذا تبدو الصورة على صعيد الوضع الدولي بينما عام 2019 يُلملم أوراقه الأخيرة، تاركاً الساحة الدولية تموج بجملة من التطورات والسيناريوهات المفصلية التي تحكم مصائر تحالفات وتكتلات سياسية تقليدية.

وما صعود اليمين المتطرف في أوروبا بشكل لافت في 2019، بما يمس بالنظام الليبرالي العالمي، جنباً إلى جنب والتحديات المفصلية التي تلف مصير الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو في واحدة من أضعف مراحله، وفي خط متوازٍ مع الغموض الذي يلف مصير حلف شمالي الأطلسي «ناتو» مع تصاعد التشققات الداخلية والتحديات الخارجية التي تهدد مستقبله وتماسكه.. كل تلك الشواهد ما هي إلا إشارات لتغيرات زاحفة على النظام الدولي تنذر بتفكيك تحالفات وعلاقات تقليدية، وتفرز وضعاً مختلفاً وتحولات جذرية في السياسة الدولية.

يُضاف إلى تلك الحلقات تحوّل أصدقاء الأمس إلى خصوم اليوم كما هو الحال في العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب، والاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال - وقد حمل العام تطورات ومستجدات عديدة في هذا الاتجاه. علاوة على الصعود الصيني المُهدد للطموحات الأمريكية والأوروبية في العالم، وكذا تصاعد نفوذ روسيا، وبخاصة في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.

الأحزاب اليمينية

على الصعيد الأوروبي، لم يمر عام 2019 هادئاً تماماً، إذ تثير عاصفة صعود الأحزاب اليمينية، الذعر في أوروبا، بعد أن جاءت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي على نحو غير متوقع، من حيث تراجع أحزاب الوسط التقليدية وتقدم أحزاب اليمين في بعض الدول (مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبولندا)، ما عزز المخاوف المتواترة بشأن مستقبل ووحدة الاتحاد الأوروبي والتكتل الاقتصادي العالمي.

تصدرت الأحزاب اليمينية دلائل إنما تؤشر إلى أن القارة العجوز أمام حقبة مثيرة في تاريخها، بعد نجاح خطاب اليمين المتطرف، وما يصحب ذلك من سياسات واتجاهات مغايرة، ومن بينها الانكفاء على الداخل، بما لذلك من تبعات بداية على المهاجرين وعلى المواطنين من غير الأصول الأوروبية، وحتى تبعاتها على الأوضاع في المنطقة والعالم.

ويأتي ذلك الوضع في خطٍ متوازٍ حول التساؤلات الدائرة بخصوص مستقبل الاتحاد الأوروبي والقضايا المُلحة التي تنتظر التكتل بداية من الآن، ولا سيما عقب فوز رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في الانتخابات الأخيرة، ومغادرة بريطانيا المُرتقبة للاتحاد الأوروبي في الشهر الأول من العام الجديد.

الانحسار الأمريكي

من ضمن المتغيرات التي عززتها تطورات عام 2019، ما يتعلق بسياسة الانحسار الأمريكي، والتي تفتح الباب أمام إنهاء الأحادية القطبية في النظام السياسي العالمي، بعد أن أظهرت إدارة الرئيس دونالد ترامب، اتجاهاً متنامياً في التركيز على الشق الداخلي الأمريكي، متسقة مع الشعار الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية (أمريكا أولاً)، وقد بدا ذلك بوضوح من خلال الانسحاب الأمريكي من سوريا على سبيل المثال، وأيضاً التقدم نحو سحب آلاف الجنود من أفغانستان، وغيرها من الانسحابات الأمريكية، والتي تأتي في خطٍ متوازٍ مع ترتيبات خاصة مع عددٍ من القوى الدولية والإقليمية إزاء عدد من الأزمات، على سبيل المثال ما جرى من تفاهم واتفاق أمريكي تركي حول سوريا، وتحديداً في ما يتعلق بملف المنطقة الآمنة والعدوان التركي على سوريا (بعد انسحاب القوات الأمريكية).

عام 2019 جاء مكرساً وداعماً لذلك التوجه الأمريكي، في ظلّ صراعات عديدة أخرى، الولايات المتحدة طرف رئيس محرك لها، وبخاصة في ما يتعلق بالتصعيد المتواصل ضد إيران والعقوبات الأمريكية المفروضة على طهران وقيادات نظام الملالي للضغط عليه لـ«التصرف كدولة طبيعية»، وحتى صراعات ترامب مع الاتحاد الأوروبي والحرب التجارية مع الصين وأيضاً الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن توتير العلاقات مع روسيا، والفشل في التعامل مع كوريا الشمالية على نحو مناسب، ما فتح الباب أمام بيونغ يانغ لمواصلة مسلسل تجاربها النووية والصاروخية.

في خط متوازٍ مع الصراعات الداخلية التي يواجهها ترامب (والحديث يطول هنا عن مطالب عزله وغيرها من الضغوط الداخلية التي تجعل القوة الأكبر في العالم أمام تحديات تنصرف تداعياتها على المنطقة والعالم).

شهد العالم تصاعد نيران التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وسط خلافات عميقة بين ترامب والاتحاد، مصحوبة بقرارات متبادلة (ومن بينها فرض رسوم على بعض الواردات، وانسحاب واشنطن من اتفاقية المناخ في نوفمبر الماضي، وغيرها من التطورات) حوّلت الحليف الأوروبي إلى خصم، في تأزيم جديد للعلاقات الدولية وتفكيك للتحالفات العالمية.

يضاف إلى ذلك الحرب الاقتصادية مع الصين، والتي شهد عام 2019 فصولاً قوية فيها.

روسيا والصين

ومن أبرز حلقات التغيرات الطارئة على الساحة الدولية، تصاعد النفوذ الروسي، وكذا التنين الصيني الذي يشكل خطراً على الولايات المتحدة الأمريكية. وفي ما يتعلق بموسكو، فلم تمنع الضغوط التي يفرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على روسيا، من أن تواصل صعودها قوة إقليمية مؤثرة في الشرق الأوسط وكذلك في أمريكا اللاتينية، على حساب النفوذ الأمريكي.

وعملت روسيا على دعم وإنقاذ حلفائها – الذين يشكلون لها مصالح استراتيجية خاصة - في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، مستغلة في ذلك سياسة الانحسار الأمريكي.

الصعود الروسي على ذلك النحو يتزامن (أو يستغل) ما يعانيه التكتل الأوروبي من أزمات، وكذا السياسات الأمريكية الأكثر تركيزاً على الداخل، وكذا يستغل تراجع دور وقيمة حلف ناتو الاستراتيجية على وقع الخلافات بين أعضائه، بما ينذر بوضع عالمي جديد تلعب فيه روسيا والصين دوراً أكبر.

 

Email