جاء إلى الدولة عام 1968 وذاكرته تزخر بالأحداث المصورة

حميد دوراني يوثق تاريخ الإمارات بـ «الأبيض والأسود»

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من ذكريات الزمان نبحر في أعماق الشخصية، ونتلمس مواقف وتجارب ومناسبات لا تنسى.. في «زيارة» نجلس معاً على حافة الماضي، فنتداخل مع ما تجول به ذاكرةٌ كان لها من التجربة نصيب، ومن الخبرة قدر وفير. في «زيارة» نستعيد مع النفس والروح شريط الذكريات المرتسم طوال سنوات، ونتعرف على الشخصية من جوانبها الرسمية والذاتية، ونتطرق إلى أيام وليالٍ عبرت بها حتى يومنا الحالي، ونستظل بحكاياتها الشيقة، ونتشارك في مائدة الزمان الوفيرة بصنوفها المروية والمرئية، بالكلمة والصورة والوصف والتصوير، نلملم خبايا رحلة عمر.. إنها زاوية يومية، نطل منها عليكم طوال أيام الشهر الكريم، عنوانها «زيارة».

الصورة الفوتوغرافية هي خير شاهد على استحضار الماضي بكل تفاصيله وتجلياته، فلا ينكر أحد منا الأهمية التي توحي بها اللقطة المصورة المبدعة، حيث التفاصيل الدقيقة التي تلتقطها أنامل صاحبها بإبداع حقيقي وهو الإبداع ذاته للمصور حميد دوراني في لحظاته الجميلة.

تعلم ضيفنا وهو من مواليد عام 1944 التصوير وأحبه منذ كان صغيراً في بلده باكستان، حيث اعتاد أن يرجع من مدرسته إلى محل التصوير الذي يمتلكه عمه ليساعده في بعض الأعمال البسيطة، حتى تعلق بالمهنة وعشقها فأصبح اليد اليمنى لعمه، وحمل على عاتقه مهمة تحميض الصورة، وبقي يطور مهاراته في التصوير دارساً بكل دقة تفاصيل الكاميرا وأجزائها، حتى باتت جزءاً من حياته اليومية، ولا تفارق يده أبداً، باحثاً عن أي موقف ليلتقطه وهي كثيرة في بلده الأم.. وللحكاية بقية يرويها حميد دوراني المصور الذي يتخذ من السوق المسقوف «العرصة» في منطقة التراث موقعاً له، إذ يمتلك استوديو خاصا يعرفه القاصي والداني، وتزوره أبرز وأكبر الشخصيات، نظراً للعلاقات الطيبة والجميلة التي كوّنها خلال سنوات عمره التي عاشها في الإمارات.

البداية الحقيقية

حقبة السبعينيات تعد البداية الحقيقية لتعامل المصور دوراني بحرفية مع الفوتوغراف، حين وضع قدمه على سلم التصوير، لكن شغفه بالتصوير بدأ منذ صباه، حيث كان يطيل الوقوف خلف آلة التصوير لاقتناص لقطات تصور الآخرين وهم في حالات مختلفة، ولأنه يؤمن بأن التصوير الفوتوغرافي موقف إنساني ومسؤولية كاملة، فهو ينظر إلى الأمام نظرة متفائلة، كما يعتبر التصوير فناً وليس مجرد مهنة.

يقول حميد دوراني: العام 1968 كانت البداية الأخرى أو ربما الانطلاقة الحقيقية حين قدمت إلى الإمارات في ذلك العام، وكنت آنذاك شاباً في الرابعة والعشرين من عمري، وعملت مع محمود محمد الصوان في استوديو الكناري، وهي بتقديري بداية الوعي بعالم التصوير الفوتوغرافي. ويضيف: سكنت في منطقة العروبة، وعملت مدة 4 شهور في استوديو الكناري الذي كان يمتلكه الصوان، الذي أقامت له إدارة التراث في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، معرضاً خاصا بعنوان «شوق الصور»، لا سيما وأنه من أقدم المصورين على مستوى الدولة، وقد يكون على مستوى المنطقة ككل، مشيراً إلى أنه ظل يحلم بأن يكون له محله الخاص فهو يمتلك الموهبة والرغبة والطموح، وبالفعل احتفل بعد أربعة شهور بتدشين محله الخاص الذي حمل اسم «هوني مون» ويعني بالعربية شهر العسل، واتخذ له موقعاً في شارع صلاح الدين، ثم انطلق بعدها وبقيت حتى اليوم لا يتقن إلا هذا الفن الراقي.

قيام الاتحاد

ويتابع: عشت في إمارة الشارقة، وبحكم عملي كنت أتنقل كثيراً لتصوير أبرز الأحداث والوقائع، وقد كنت محظوظاً لأني أصبحت شاهداً على أهم حدث في تاريخ الإمارات، وهو قيام دولة الاتحاد يوم الثاني من ديسمبر عام 1971، ولم يكن قد مضى على وجودي سوى ثلاث سنوات، ولي من هذه المناسبة مخزون هائل من الصور بعضها يجمع عدداً من الشيوخ مؤسسي الاتحاد كالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمهما الله، ورصدت بالصورة زيارة باني نهضة الإمارات واتحادها زايد الخير أسكنه الله فسيح جناته، عندما زار إمارة الشارقة وله لقطة شهيرة مع صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة، بعد عام من قيام الاتحاد، ولي أيضاً لقطة مهمة ونادرة للشيخ محمد بن سلطان بن صقر القاسمي رحمه الله، والد سمو الشيخ سلطان بن محمد بن سلطان القاسمي ولي عهد إمارة الشارقة.

لقطات نادرة

ويتحدث دوراني عن صورة أخرى للمغفور له الشيخ راشد بن حميد النعيمي عام 1970 قبل قيام الاتحاد، وهي أيضاً من لقطاته النادرة، ولقطة في العام 1970 تجمع الشيخ خالد بن محمد القاسمي، وكان حاكماً لإمارة الشارقة رحمه الله، والمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، إلى جانب الشخصيات الرسمية.

ومن بين الصور التي تحدث عنها بإعجاب شديد إلى درجة الافتتان، كانت تلك التي تجمع الشيخ زايد والشيخ راشد بن سعيد والشيخ راشد بن حميد النعيمي رحمهم الله جميعاً، فقد كانت تلك اللحظة من بين أكثر اللحظات تأثيراً في حياتي.

ميدان الحكومة

ويضيف: لي صور لأبرز المواقع في الدولة منها ميدان الحكومة في الشارقة والمطار والمتحف وشارع العروبة، وقد كنت من خلال الصور أحاول رصد التاريخ بكل تجلياته وتحولاته المتسارعة، فقد كنت أشعر أن الدولة لا تمشي ولا تسير بل تركض نحو العلياء فآثرت أن أكون واحداً من المصورين القلائل الذين يسهمون في توثيق تاريخ الإمارات المشرف بالصور، مؤمناً بأن الصورة هي شاهد إثبات لا مجال للتلاعب فيها، إذ أنها أكبر دليل وأحسن شاهد على استحضار الماضي بكل تحولاته وأحداثه، والتاريخ بما فيه من أحداث سواء كانت مفرحة أو أليمة، ومنها تلك التي رصدها للحزن الذي عم الإمارات عند وفاة الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر، وما تبعه من جنازات وهمية مهيبة، جالت شوارع إمارة الشارقة، وهي مرصودة لدي ومن الصور العزيزة جداً على قلبي، وأشعر بألم خسارة هذا الرجل كلما نظرت إليها.

بساطة العيش

ويستطرد المصور المخضرم حميد دوراني: أنا أعيش في كنف دولة محبة تحترم وتقدر الآخر، ووجودي منذ تفتح هذه «الزهرة» التي أسميها أنا زهرة موضع فخر لي، وأحظى بتقدير من كل الناس، ويعرفني المسؤولون، ويزورني في محلي عدد كبير منهم، ما يعكس روح التآخي والتواضع التي هي سمة لم تغيرها الأيام ولا التطور ولا التقنيات الحديثة بإفرازاتها، وبقيت تميز ابن الإمارات، مشيراً إلى أنه يتذكر دوماً بساطة العيش وضيق ذات اليد والعمل في البحر والغياب الطويل للرجال في رحلات الصيد والغوص بحثاً عن اللؤلؤ. ويقول: لي صور كثيرة ترصد رحلة العمل والمعاناة والتعب التي كان يتلذذ فيها الناس في ذلك الوقت، وهي فترة عزيزة جداً على قلبي، إذ كان التلاقي هو سبيل كل الناس والاجتماعات والمجالس لا تختفي، لاسيما في شهر رمضان المبارك، فقد كنا نجتمع ونتسامر حتى منتصف الليل، فيما تعج المساجد بمشاهد قلما تجد لها مثيلاً.

حميد دوراني هو من القلائل الذين ساهموا في توثيق تاريخ الإمارات بالصور، فحُبه للتصوير واهتمامه به دفعه إلى التقاط كم هائل من الصور التي تحكي تاريخ الشارقة، وتعرف الجيل الجديد بتراثه الجميل الذي لم تتوفر السبل الكافية لتوثيقه، وقد سعت إدارة التراث بدائرة الثقافة والإعلام في الشارقة إلى اقتناء صور حميد وتوثيق ماضي الإمارات لإطلاع الأجيال الجديدة على الماضي.. كيف كنا وماذا أصبحنا، فتكون حافزاً للاعتزاز بالماضي والعمل الجاد من أجل المستقبل.

 

نصائح للمصورين

 

 

دعا المصور المخضرم حميد دوراني المصورين، والمبتدئين خاصة إلى الاطلاع على تجارب مختلفة لمصورين محليين وعالميين، وإيجاد أسلوب خاص يتميزون به في تناول موضوع الصورة. وقال إن الصورة الحقيقية هي التي تنقل أكبر قدر من الصدق والعفوية، وترسخ في ذاكرة الناس، وتلقى أثراً طيباً لاحقاً. وأضاف: في الإمارات ثمة ما يشجع على والتصوير والتقاط أجمل اللوحات، والمصور الفوتوغرافي بحاجة فقط إلى البحث، وعليه رؤية المشهد قبل التقاطه، فالصورة المعبرة التي تحمل حدثاً معيناً بالتأكيد سيكون لها وقعها الخاص على المشاهد، لاسيما تلك الصورة التي تشعر المتلقي بشيء، ربما كان مرتبطاً به، فلابد أن تصل إليه، والصورة الفوتوغرافية المتميزة ستفرض وجودها. وأضاف: هناك فرق شاسع بين التصوير كفن والتصوير كمهنة، فالأول يجسد كل ما يجول في خاطرك من إحساس ورؤى، أما التصوير كمهنة فيطلب منك: ماذا تصور بالتحديد.

 

بالأبيض والأسود

 

 

قدم دوراني إلى الشارقة عام 1968 في فترة حكم المغفور له بإذن الله الشيخ خالد بن محمد القاسمي، وعمل مصوراً في استوديو الكناري في الشارقة، وقد افتتح حميد ستوديو «هاني مون» وكان رابع محل للتصوير الفوتوغرافي في الشارقة إلى جانب استوديو «غلف لاب» واستوديو الشارقة في تلك الفترة، وكانت معظم الصور التي يلتقطنها لأصحاب السمو الشيوخ ولكبار الشخصيات وللزيارات الرسمية والمناسبات المهمة، وآنذاك كان لا يتوفر سوى الصور بالأبيض والأسود، أما الصور الملونة فكان يتوجب إرسالها إلى بريطانيا عبر البريد، لتجهز بعد شهر أو أكثر، وفي بعض الأوقات يضيع الفيلم أو يتلف، إلى أن افتتح اول استوديو لتحميض الصور الملونة في عجمان عام 1974، وهو معمل الاتحاد للأفلام الملونة. ومع تقدم وتطور الكاميرات، حرص دوراني على مواكبة ذلك، بالقراءة وشراء الكتب المتخصصة والالتحاق بدورات إلى جانب مشاركاته في المعارض المتنوعة بغية إثراء مخيلته ومعارضه.

Email