الجزء التـاسع والـعشرون

دفاع الله تعالى عن نبيه صاحب الخلق العظيم

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبـدأ هـذا الجـزء منَ القـرآن الكريم ، منْ الآيـة [1] من سورة الـمـلْك، وحتى الآيـة [50] من سورة الـمـرسـلات.

الطيور ومصاعد الهواء:

«مصاعد الهواء» أو «الرفع»، ظاهرة مكتشفة حديثاً في الأرصاد الجوية، وتحصل بسبب مصادر مختلفة، منها:

- مصاعد الهواء الحرارية، حيث يرتفع الهواء بسبب الحرارة.

- مصاعد الهواء عند المنحدرات، حيث يصعد الهواء إلى الأعلى بسبب المنحدر.

- مصاعد بسبب التقاء كتلتي هواء، وتكون عادة عند الشواطئ وفي الصحارى.

الجدير بالذكر أن هذه المصاعد تستخدم كطاقة رفع أثناء الطيران من قبل الطيور المحلّقة، فتركب هذه المصاعد الهوائية وتفرد أجنحتها وتدور فيها في حلقات صاعدة في الهواء، ويمكن في بعض الأيام يمكن رؤية المئات من الطيور وهي تحلّق باسطة أجنحتها تدور وتصعد عالياً، كما يستخدم البشر هذه المصاعد الهوائية في بعض الرياضات مثل القفز المظلي والطيران الشراعي.

وقد لفت الله تعالى الأنظار إلى هذه الظاهرة {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} باسطات أجنحتها {وَيَقْبِضْنَ} الأجنحة عند تحريكها، {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجو أثناء الطيران {إِلَّا الرَّحْمَنُ} الذي ألهمها الطيران وسخّر لها الهواء برحمته {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}، فهو يعلم ما يحتاجه كل مخلوق وقد يسّر له ما يصلح له حياته.

ولا يزال العلماء يدرسون كيف تتمكن الطيور من معرفة هذه الظاهرة وكيف تعثر على المصاعد الهوائية، وكيف تعرف استخدامها. فسبحان من ألهمها.

دورة الماء والمياه الجوفية:

من رحمة الله تعالى أن مياه الأمطار تقوم باستمرار بتغذية الأنهار والينابيع ومياه الآبار والمياه الجوفية في باطن الأرض، حيث تنزل كمية مناسبة من الأمطار لتستمر هذه الدورة، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} ومن رحمة الله تعالى أن قشرة الكرة الأرضية مخلوقة بطريقة مناسبة لتحتفظ بالمياه تحت التربة {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ }، فتستفيد منه النباتات والمخلوقات المختلفة ويستخرجه البشر عبر الآبار، ولو شاء الله تعالى لذهب بهذا الماء {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون : 18].

ولو قلّت كمية الأمطار عن المطلوب لغار هذا الماء في قعر الأرض السحيق، حيث لا يمكن الوصول إليه، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}. ومن رحمة الله تعالى أن يسّر للبشر سبل العيش على هذه الأرض والحصول على الماء المعين.

دفاع الله تعالى عن نبيه صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم:

جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى والنور المبين، لكن المعاندين اتهموه بالجنون، فسلّى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} ووعده بالأجر العظيم غير المنقطع على أدائه للرسالة وصبره على أذى قومه {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)} ثم مدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه بأعظم مدح فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}.

ويستمر دفاع الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فهم اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بواحدة كذباً وافتراءً، فأخبر الله عن حقيقة المعاندين، فذكر عشر صفات سيئة فيهم: التكذيب {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)}، كثرة الحلف في الحق والباطل، والمهانة وحقارة الرأي {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)}، كثرة الهمز والغيبة، والمشي بالنميمة بين الناس للإفساد بينهم {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)}، البخل ومنع الخير عن المحتاجين، والاعتداء على الآخرين، وكثرة الإثم {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}، الفظاظة وغلظة القلب، والاشتهار بالشرّ والإثم والفحش {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)}.

حرمان المحتاجين يذهب بالبركة والنعمة:

ذكر الله تعالى قصة أصحاب البستان، الذين أرادوا حرمان الفقراء من حقّهم في الزكاة، فقرروا أن يقطفوا الثمار في الصباح الباكر حتى لا يشعر بهم أحد من المحتاجين، فعاقبهم الله تعالى بأن نزل في تلك الليلة بلاء أو نار عظيمة فأحرقت عليهم البستان والثمار. وخرجوا صباحاً وهو يتخافتون يتكلمون فيما بينهم بصوت منخفض حتى لا يشعر بهم المساكين، ففوجئوا ببستانهم وهو محترق عديم الثمر، فأقروا بخطئهم فاستغفروا ربهم وأنابوا، ودعوا الله تعالى أن يعوّضهم.

وفي هذه القصة تحذير من حرمان المساكين والمحتاجين، وتنبيه لنا أن منع الخير عن المحتاجين يذهب بالبركة ويمحق النعمة. والعياذ بالله. ونحن في زمن كثر فيه الخير بحمد الله تعالى، وسهل فيه التبرع للمحتاجين، فعلينا أن نبادر ونساهم طلباً لمرضاة الله تعالى وصيانة لهذا الخير من الزوال أو النقصان، واستجلاباً للبركة والزيادة.

صاحب الحوت:

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، بالصبر لحكم الله وقضائه، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، وألا يكون كصاحب الحوت {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}، وهو يونس عليه السلام الذي بعث إلى أهل نينوى قرب مدينة الموصل، ويقال إنها أول مدينة على وجه الأرض وأكبرها إذ كان يسكنها أكثر من 100.000 {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات : 147]، ويدل هذا على مقدرتهم الفائقة في الحكم وإدارة الموارد البشرية والطبيعية لهذا العدد.

وبمرور الزمان ابتعدوا عن التوحيد، ثم صنعوا الأصنام وعبدوها، فعاشوا حياة الإثم والضلال، وانغمسوا في ملذات الدنيا، ونسوا الآخرة. ورغم الجهود الكبيرة ليونس عليه السلام إلا أنهم لم يرعووا، ويقال لم يؤمن به إلا رجلان فقط. فضاق بهم ذرعاً، وتوعّدهم بالعذاب، وخرج مغاضباً.

وعندما التقمه الحوت، دعا ربه بدعاء عظيم {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، ثم تداركته نعمة من الله تعالى {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)}، ونجّاه الله تعالى من الغمّ الذي كان فيه {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]. وتشير الآية إلى أن هذا الدعاء يكشف الغمّ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

العوالم غير المرئية:

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}.

يقسم الله تعالى بما نراه، وبما لا نراه، على صدق الوحي الذي يبلّغه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 43].

لم يكن أحد يعلم بالعوالم الكثيرة متناهية الصغر التي تعيش معنا وعلى أجسامنا وفراشنا وكل شيء من حولنا، إلى أن تم اختراع أجهزة التكبير فائقة القدرة والدقة، فأصبحنا نرى بعضاً مما لا نبصره بعيوننا.

وهناك عوالم أخرى غير مرئية، مثل عالم الملائكة وعالم الجن، ومثل الكثير من أطياف الضوء والأشعة التي لا نراها، وكذلك أعماق الأرض والعوالم البعيدة في هذا الكون، وغير ذلك. وفي هذه الآيات دليل آخر مشاهد على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر عن ربه، حيث ذكر وجود أشياء كثيرة لا نبصرها، وقد كشف لنا في هذا الزمان عن بعضها.

لفتة لطيفة في المذكورين في الفداء:

{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}، من هول العذاب يوم القيامة يود المجرم لو استطاع أن يفتدي نفسه من هذا العذاب بأي أحد كان، ومن هول ما يرى فإنه يبادر إلى تمني ذلك ولو كان الفداء بأحب الناس إليه بدءًا من أبنائه وانتهاءً بجميع من في الأرض!

ولم تذكر الآية الأبوين هنا، تعظيماً لقدرهما أن يدرجا في سياق الفداء، رغم أنهما يدخلان ضمناً في جملة { وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.

وورد سياق مشابه في سورة عبس، لكنه ليس في الفداء وإنما في الفرار من أهوال يوم القيامة، وفيه ذكر الأبوين: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37]. فيفرّ من الناس تباعاً حسب شدة الارتباط والملاصقة.

من صفات المصلين مساعدة المحتاجين والمعوزين

ذكر الله تعالى طبع الإنسان، {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} كثير الهلع والجزع، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} كثير الحزن والجزع عند المصائب، {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} بخيل قليل العطاء مما عنده من الخير. هكذا طبع البشر {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}، لأن الصلاة تربّي المسلم وتعالج هذه النواقص.

ثم ذكر صفات هؤلاء المصلين الذين تخلصوا من هذه الصفات السيئة:

مرتبطون بالصلاة ويدوامون عليها {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)}.

يساعدون المحتاجين والمعوزين {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}.

يؤمنون بالآخرة ويوم القيامة، فيعملون لذلك، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)}.

ويؤمنون بالحساب والعقاب فيخافون منه ويبتعدون عن أسبابه {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}.

يتورعون عن محارم الله ولا يقعون في الحرام، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)}.

يوفون بعهودهم ومواعيدهم ويؤدون الأمانات إلى أهلها، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)}.

يقومون بواجب الشهادة بالحق ولا يكتمونها {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)}.

يخشعون في صلاتهم ويحافظون على أدائها على الوجه الصحيح {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)}.

وقد وعد الله تعالى هؤلاء المرحومين بالكرامة يوم القيامة {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}.

وهذه الآيات تشير إلى حقيقة الاستفادة من الصلوات في تطهير النفس من الآثام والسيئات والأخلاق الفاسدات.

بيان قدرة الله تعالى على إيجاد خلق آخر أفضل من البشر:

خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، والله تعالى قادر على يبدّل هذا الخلق، ويغيّره كما يشاء، ويجعله في أطوار ومراحل لا يعلمها أحد، {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60-61].

وفي هذا الجزء يخبر الله تعالى أنه لو شاء فهو قادر على أن يستبدل البشر بمخلوقات أخرى مختلفة تماماً، {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلً} [الإنسان: 28].

وفي هذا الجزء أيضاً يقسم الله تعالى أنه قادر على أن يستبدل البشر بمخلوقات هي خير منهم وأكثر طاعة وعبادة، فهو سبحانه لا يعجزه شيء ولا يسبقه شيء {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}، ويشهد لهذا المعنى الآية التي قبل ذلك: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}. والله أعلم.

من فوائد الاستغفار:

الاستغفار من أعظم الأذكار، وفيه الكثير من الخيرات والأسرار، وهذه الآيات ذكرت بعضاً من فوائده، أولها مغفرة الذنوب: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)}، ونزول الغيث للشرب والاستعمال وسقي الحيوانات والزراعة: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)}، وزيادة الأموال والأولاد والقوة المادية والبشرية: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}، وزيادة الخير والنعيم والأراضي والموارد الطبيعية: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}.

تفاصيل عن عالم الجن:

تحدثت سورة الجن عن عدد من تفاصيلهم، ومن ذلك أنهم خلق عاقل مفكر مثلنا، ومنهم المؤمن والكافر، وفيهم الصالح والطالح والعاقل والسفيه، وأن منهم من يطيرون في الفضاء ويسترقون السمع من السماء {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9]، وأنهم لا يعلمون الغيب {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، كما ذكرت السورة أن الجنّ قد تتسلط على من يلجأ إليهم ويخاف منهم فتزداد بذلك طغياناً وجرأة على البشر، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].

تسوية البنان:

يخاطب الله تعالى البشر المنكرين للبعث بعد الموت، والشاكين في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى وإعادة الإنسان للحياة بعد أن يتحول إلى عظام وتراب، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3]، فيجيب الله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}، والبنان هي أنامل الإنسان وأطراف الأصابع.

فيقول الله تعالى إنه قادر على أن يعيد للإنسان بنانه كما كان، والبنان هو أدقّ عظام في جسم الإنسان. وهناك معنى آخر يضاف إلى ذلك وهو الإشارة إلى دقة خلق البنان، وقدرة الله تعالى على تسوية ذلك. وهو ما اكتشف مؤخراً من دقة وتميز بصمات كل إنسان عن غيره. فسبحان الخالق البديع.

الذكورة والأنوثة وعلاقتها بمني الرجل:

اكتشف العلم مؤخراً أن مني الرجل يحتوي على حيوانات منوية تحمل صبغات مذكرة وأخرى تحمل صبغات مؤنثة، فأي واحد منها أخصب بويضة المرأة، كان جنس الجنين تبعاً لذلك، ولا علاقة لبويضة المرأة بجنس الجنين. وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)} واستدل بذلك على قدرته على إحياء الموتى، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40].

والإشارة في قوله تعالى {فَجَعَلَ مِنْهُ}، إشارة إلى المني، وليس للنطفة ولا للعلقة.

ولم يقل فجعل من النطفة الزوجين الذكر والأنثى، لأن النطفة الواحدة تحمل صبغات محددة إما أن يتخلق منها ذكر وليس أنثى، أو تتخلق أنثى وليس ذكراً، وأما المني فإنه يحتوي على مئات الملايين من النطف بعضها يحمل صبغات مذكرة وبعضها مؤنثة، وبالتالي فتعبير القرآن الكريم هو دقيق جداً بدرجة معجزة.

دقة التعبير عن خلق الإنسان من نطفة أمشاج:

في بداية سورة الإنسان نجد كلمة لم تتكرر في القرآن الكريم (أمشاج)، وتعني: مختلطة ممزوجة ذات صفات مختلفة ومن مصادر مختلفة. وقد عبر الله تعالى عن خلق الإنسان أنه من نطفة أمشاج، {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)}.

وهذا وصف دقيق للغاية لطبيعة النطفة الملقّحة التي يتخلق منها الإنسان، فقد ثبت علمياً أن الجنين يتخلق من نطفة ممتزجة من ماء الرجل وماء المرأة معاً، ويشارك كل منهما بنصف العدد من الصبغات الوراثية أو الكروموسومات. {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك : 14].

من مقامات أهل الجنة:

تشير الآيات إلى مراتب مختلفة لأهل الجنة، فصنف يشربون كما يشتهون، {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}.

وصنف يطوف عليهم الخدم والولدان ويسقون وهم في أماكنهم {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)}.

 وصنف من أهل الجنة وعدهم الله تعالى بالنعيم والملك الكبير، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}، وقد بشّرهم الله تعالى بقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منهم.

 

والله تعالى أعلم.

Email