الجزء الـثامن والـعشرون

الظهار منهيّ عنه شرعاً

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبـدأ هـذا الجـزء منَ القـرآن الكريم ، منْ الآيـة [ 1 ] من سورة المجـادلـة ، و حتى الآيـة [ 12 ] من سورة الـتحـريم ، و مـمّـا ورَد فيـه:

المرأة التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات:

هذه المرأة الفاضلة لها فضل على هذه الأمة، حيث سمع الله شكواها ونزل تشريع أحكام الظهار بعد مراجعتها للنبي صلى الله عليه وسلم. {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة : 1].

نزلت هذه الآية في خولة أو خويلة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت رضي الله عنهما، وكان كبيرًا في السنّ قد ساء خلُقُه وضجِر، فراجَعَتْه في شيءٍ يوماً فغضِب وقال: «أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي»، وكانت الجاهليةُ إذا أراد الرجلُ أن يفارقَ امرأتَهُ قال لها ذلك، ثم أتت فجعَلَتْ تشكو إليه سوء خُلُقِ زوجها، فجعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلح بينهما ويقول: (يا خُوَيلةُ ابنُ عمِّكِ شيخٌ كبيرٌ فاتَّقي اللهَ فيه)، قالت: فواللهِ ما برِحْتُ حتَّى نزَل القرآنُ، ثم تبرع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدفع كفارة الظهار ووعدت هي أن تساعد زوجها لفقره، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لها: ( أصَبْتِ وأحسَنْتِ فاذهَبي فتصدَّقي به عنه ثمَّ استوصي بابنِ عمِّكِ خيرًا ) قالت: ففعَلْتُ.

بعض أحكام الظهار وأمثلته المنتشرة:

الظهار منهيّ عنه شرعاً؛ لأنه منكر وافتراء، {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}، والظهار الذي تترتب عليه هذه الأحكام هو ما كان بصيغة تدلّ على إرادة وقوعه، سواءً صراحة أو كناية، فالصريح يعتبر ظهاراً ولا يحتاج إلى نية، كما في الحديث السابق، وأما الكناية فكما لو قال لزوجته: «أنت مثل أمي»، لأنه يحتمل أن يقصد الاحترام والتقدير، كما يحتمل الظهار والتحريم، فيعتمد على نيّته. ومن أمثلة الظهار في أزماننا هذه قوله لزوجته: «أنت حرام عليّ»، «أنت محرّمة علي»، «أنت حرام عليّ كأختي»، فيكون ظهاراً إذا لم يقصد بقوله الطلاق، وهناك تفصيل ليس هذا محلّه. وفي حالة الظهار فلا يمكن للزوج أو يقرب زوجته إلا بعد أن يدفع كفارة الظهار، وهي على الترتيب: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، كما جاء في الآيات.

لفتة لطيفة في عدد المتناجين:

عند الحديث عن إحاطة علم الله تعالى بما في السموات والأرض وبالمتناجين قلّوا أو كثروا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}. فبدأ من رقم ثلاثة ولم يبدأ من الرقم اثنين، ثم ذكر ما هو أقل وما هو أكثر، رغم أن المناجاة أكثر ما تكون بين اثنين، ولعل اللفتة اللطيفة في ذلك تفادي أن يقال (الله ثالثهم) كي لا يشبه كلام {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة : 73].

تحريم المناجاة بالإثم والعدوان:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} كان طائفة من اليهود في المدينة يتناجون فيما بينهم إذا مرّ مسلم بطريقهم لإخافته، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عادوا واستمروا يتحدثون فيما بينهم بالإثم، وهو ما يختص بهم، والعدوان، وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفة أوامره.

وكانوا إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حرّفوا التحية فقالوا: «السام عليك»، أي: الموت، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر على أذاهم ويردّ عليهم بكلمة «وعليكم» فقط، وكانوا {يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}، فأجاب الله تعالى أن عذابهم في جهنم يكفيهم، {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}.

ثم شرع الله تعالى أدباً اجتماعياً بالمناجاة بالخير وتحريم المناجاة في الشرّ لأنها من وسوسة الشيطان، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)}. كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون الثالث حتى لا يحزنه ويجرح مشاعره: «إذا كنتُم ثلاثةً فلا يتناجى اثنانِ دون صاحبِهما، فإنَّ ذلك يُحزنُه».

من آداب المجلس:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}. قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضَنّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.

وقيل نزلت يوم جمعة، وفي المكان ضيق، وجاء ناس من أهل بدر وقد سُبِقوا إلى المجالس، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يُفْسَح لهم، فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حثّهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «رحم الله رجلا فَسَح لأخيه»، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا، فَتَفَسَّحَ القومُ لإخوانهم، ونزلت هذه الآية.

وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى أن يُقامَ الرجلُ من مَجلِسِه ويَجلِسَ فيه آخَرُ، ولكن تَفَسَّحوا وتَوَسَّعوا».

علاقة حبّ بين المهاجرين والأنصار والمسلمين إلى قيام الساعة:

ذكر الله تعالى المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ومدحهم {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر : 8]، صدقوا في إيمانهم وصَدَّقُوا قَوْلَهم بفِعْلِهم، رضي الله عنهم.

ثم مدح الله تعالى الأنصار {الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: سكنوا المدينة دار الهجرة قبل المهاجرين، وآمنوا قبل كثير منهم. وذكر الله تعالى كرمهم وطيب نفوسهم فهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، بل كانوا رغم حاجتهم يقدّمون إخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}. حتى مدحهم المهاجرون وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، ما رأَينا مِثلَ قومٍ قدِمْنا عليهِم أحسنَ مواساةً في قليلٍ، ولا أحسنَ بذلًا مِن كثيرٍ، لقد كفَونا المؤنةَ وشارَكونا في المهنإِ، حتى لقد خَشينا أن يَذهَبوا بالأجرِ كلِّه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ما أثنَيتُم عليهِم ودعَوتُم لهم».

واستمرت الأمة الإسلامية يوصي بعضها بعضاً بحفظ هذا الودّ والحق والكرامة لهم، حتى أوصى عمر رضي الله عنه الخليفة من بعده، فقال: «أوصي الخليفةَ بالمهاجرينَ الأوَّلينَ: أن يَعرِفَ لهم حقَّهم، وأوصي الخليفةَ بالأنصارِ، الذين تبوَّؤوا الدارَ والإيمانَ من قبلِ أن يُهاجِرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أن يَقبَلَ من مُحسنِهم، ويَعفُوَ عن مُسيئِهم».

وبعد بيان ملامح من هذه العلاقة الجميلة بين المهاجرين والأنصار، ذكر الله تعالى بقية المسلمين إلى قيام الساعة، فقال {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، وهم التابعون لهم بإحسان، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 100]. وذكر الله تعالى بعض ما يجب على هؤلاء التابعين تجاه المهاجرين والأنصار، وهو الدعاء لهم بالسر والعلانية، {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}. ومن العجب أن بعض الناس يقع في بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أو ينتقص من قدرهم، وهذا خلاف أمر الله تعالى، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: «أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ»، وهو من الخسران والعياذ بالله. فلا ينبغي للمسلم أن يكون في قلبه غل أو حقد لأحد من المؤمنين، فكيف بالسابقين الأولين المقربين.

الإسلام قائم على العدل والقسط مع الجميع

من وراء جدر:

بعد مؤامرات اليهود المتعددة في المدينة المنورة، أخبر الله تعالى أنه ألقى في قلوبهم وحلفائهم الرعب، فهم لا يواجهونهم إلا مستترين محصّنين في القرى أو مختبئين خلف الجدران. {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر : 14]. ومن العجيب أن اليهود في زماننا هذا قد تحصّنوا بجدار بنوه حول أنفسهم.

كلمة «جُدُر» وردت مرة واحدة فقط في القرآن الكريم، وهي جمع «جدار»، ولعل هناك لفتة لطيفة في استخدامها في هذه الآية بدلاً من كلمة الجمع الأخرى «جدران»، إذ إن طريقة لفظ كلمة «جدار» بالعبرية، قريبة من نطق «جُدُر»، فكأنه استرعاء لانتباههم وتذكير لهم، والله أعلم.

الجبل المتصدع:

يقول الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وفي هذا تعظيم لشأن القرآن الكريم وأنه ينبغي أن تخشع القلوب عند سماعه وتلاوته، قال الحسن البصري: إذا كانت الجبال الصُّمُّ لو سمعت كلام الله وفهمته لَخَشَعَتْ وَتَصَدَّعَتْ من خَشْيَتِهِ، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وهذا مثل ضربه الله تعالى للناس ليتدبروا ويتفكروا {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}، وهو توجيه من الله تعالى لنا أن نعتني بالقرآن العظيم وأن نتدبر آياته ونخشع له.

معاملة الكفار غير المحاربين بالبر والعدل:

من جمال هذا الدين وكماله أنه قائم على العدل والقسط مع الجميع، حتى مع الخصم والعدو، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة : 8].

وهنا أضاف الله تعالى المعاملة بالبر والعدل مع غير المحاربين، فقال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}.

أما موالاة الكفار المحاربين فقد نهى الله تعالى عنها، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}، لأن موالاة المعتدين تعتبر مشاركة لهم في الظلم، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}.

اسمه أحمد:

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}.

البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، ولكن المترجمين قاموا بترجمة اسم النبي صلى الله عليه وسلم من الآرامية إلى البارقليط أو الفارقليط في اليونانية، علماً أن أسماء الأعلام لا تترجم! ثم ترجموا هذا الاسم مرة ثانية إلى كلمة تقترب منها نطقاً وتعني «المُعَزِّي»، وهي التي نجدها الآن، فمثلاً: جاء في إنجيل يوحنا، إصحاح 15، آية 26: «وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي»، ويذكر العلماء أن كلمة الفارقليط تعني «الحمد»، أو «الحامد» أو «الحمّاد».

النبي صلى الله عليه وسلم له عدة أسماء، كما قال: «لي خمسةُ أسماءٍ: أنا محمَّد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفرَ، وأنا الحاشرُ الذي يُحشَرُ النَّاسُ على قدمي، وأنا العاقِبُ».

الجدير بالذكر في آية الصف أن عيسى عليه السلام استخدم الاسم الثاني للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو «أحمد»، ولهذا تأويلات كثيرة ذكرها العلماء ليس هذا مقام تفصيلها. ولعل استخدام اسم (أحمد)، بسبب خاصية في اللغة التي كان عيسى عليه السلام يتحدث بها في زمنه، وعدم وجود التركيب الآخر (محمد) فيها، أو شيء من هذا القبيل، وربما يستطيع علماء اللغة والتاريخ اكتشاف شيء من هذا. والله أعلم.

أسماء الله تعالى ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم:

في افتتاح سورة الجمعة ذكر الله تعالى أربعة من الأسماء الحسنى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}.

ثم ذكر الله تعالى إرسال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والهدف من هذه المهمة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}.

هناك لفتة لطيفة في تناسب كل مهمة مذكورة في الآية مع كل اسم من أسماء الله تعالى المذكورة في الآية التي قبلها؛

- { الْمَلِكِ } يعرف بحدود مملكته وأعلامه وعلاماته، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث لإيصال رسالة { الْمَلِكِ } وبيان آياته وعلاماته للناس { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ }.

- مهمة التزكية { وَيُزَكِّيهِمْ }، تتناسب مع اسم الله تعالى { الْقُدُّوسِ }.

- مهمة تعليم الكتاب والأحكام والشرائع { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ }، تتناسب مع اسم الله تعالى { الْعَزِيزِ } الذي له الحكم والأمر.

- مهمة تعليم الحكمة تتناسب مع اسم الله تعالى { الْحَكِيمِ }.

ومثل هذا الأسلوب البديع يتكرر في القرآن العظيم.

 

تقوى الله والتوكل عليه مفتاح كل خير:

بشّر الله تعالى من يتقيه ويتوكل عليه ببشارات كثيرة؛

- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}، يجعل له مخرجاً من الهم والغم والمصاعب.

- {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، فيأتيه الرزق بطرق لا تخطر له على بال.

- {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، يكفيه الله تعالى جميع هموم الدنيا والآخرة.

- { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)}، ييسّر الله تعالى له أموره، ويسهل عليه حلّ الصعاب.

- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} ويغفر له ذنوبه ويتجاوز عن خطاياه.

- {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}، يزيده في الأجر ويضاعف له الثواب.

وقد بيّن الله تعالى أن الأمر كله بيد الله، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، وأن ما يريده الله تعالى يكون في الوقت الذي قدّره الله تعالى بحكمته {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}، فلا ينبغي للإنسان أن ييأس أو يعجل.

Email