الجزء الثاني والعشرون

بشر المؤمنين

6666_61

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبـدأ هـذا الجـزء منَ القـرآن الكريم ، منْ الآيـة [ 31 ] من سورة الأحــزاب، وحتى الآيـة [ 27 ] من سورة يـس، ومـمّـا ورَد فيـه:

[ الآيـــة 35 ]

الله سبحانه دومـاً يقول في القرآن الكريم: (يا أيهـا الذين آمنوا) قاصداً بذلك الرجال والنساء معاً، ولا يوجدُ في القرآن كلّه آيةً تقول : [ يا أيهـا الذين آمنوا ويا أيتهـا اللواتي آمـنـتُـنّ ] ، مـا عدا [ الآية 35 ] فقد فصلت [ المذكّر عن المؤنّث ] ، والسـبب هو : أنّ الله في هذه الآية [ يُصنّف ] ولا [ يُعدّد ] ، درجات الإيمان من المرتبة الأدنى إلى المرتبة الأعلى ، وقد قسّمت هذه الآية الكريمة المراتب إلى عشَر مراتب، هي:

(إنّ المسلمينَ والمسلمات، والمؤمنينَ والمؤمنات، والقانتينَ والقانتات، والصادقينَ والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعينَ والخاشعات، والمتصدّقينَ والمتصدّقات، والصـائمينَ والصـائمـات، والحافظينَ فُروجهُم والحافظات، والذاكرين الله كثيراً والذاكـرات، أعدّ الله لهُم مغفرةً وأجْراً عظيمـاً) [ الأحزاب 35 ].

المـراتب إذاً، هي:

1 ـ المرتبة الأدنى: (المسلمين والمسلمات)، الذين يُؤدّون شعائر الإسلام فقط، وهُم الغالبية العُظمى، ولا يوجد في كلّ القرآن الكريم آيةً تقول [ يا أيُهـا الذينَ أسلموا ]، والإسلامُ أدنى مرتبةً من الإيمان لقوله تعالى: (لـمْ تُـؤمنـوا ولكنْ قولوا أسْلمْنـا) [ الحجرات 14 ].

2 ـ المرتبة الأعلى: (المـؤمنينَ والمـؤمنات)، وهذه الفئة هي التي يُخاطبُهـا الله دومـاً: (يا أيُهـا الذين آمنوا)، وهُم الذين يُحقّقون [ الشروط التسعة الواردة في الآية 112 من سورة التوبة ] وهي:

(التائبـون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنين) [ التوبة 112 ]، وكلمة [ السائحون ] تعني [ المتفرّغون لمساعدة الغيْـر في الشدائد !!! ]، فيُرجى الانتـباه لعبارة: (بشّــر المؤمنين)، فبعْـدَ [ الإيمـان ] تأتـي [ البُشـرى ] والبشـائر.

ـ كمـا يُـرجى [ الانتبـاه بـدقّة ] أنّ بين هذه الصفات التسع لا يوجد صفة الاعتداء على الاخرين، فلم يقُل: [ العـادون، المعتدون، القاتلون ...... ] ، وبدون تحقيق هذه الشروط [ التســعة ] السامية منَ الأخلاق والتصرّفات الحميدة، سـنبْقى [ مُسـلمينَ ] فقـط، وينـطـبقُ عليْنـا قولـه تعالى: (لـمْ تُــؤمـنوا ولـكـنْ قولـوا أسْــلـمْـنا ولـمّـا يـدخُل الإيـمـانُ في قلوبكُـم)[ الحجـرات 14 ].

3 ـ المرتبة الأعلى: (القـانتين والقانتـات)، والقنوتُ ليس [ دُعاءً أو صلاةً فقط ]، ولكنّ القُنوت هو: [ الطـاعة المُطلقة مع الرضـا التامّ ]، وهذا مَـا طالبَتْ الملائكة الكرام إلى مرْيَم عليهـا السلام: (يا مَرْيَمُ اقنتي لربّك)[ آل عمران 43 ]، وهذا مَـا طـالبَ به الله سبحانه نساء النبيّ رضي الله عنهُنّ جميعاً وأرضاهُن: (ومَنْ يقْنُتْ منكُنّ لله ورسوله وتعْمل صالحاً نؤتهـا أجْرهـا مرّتين)[ الأحزاب 21 ]، وقد وصلتْ مريمُ إلى مرتبة [ القنوت ] قال تعالى عنهـا: (وكـانتْ منَ القانتين )[ التحريم 12 ] ، و نُلاحظُ أنّه قال ( منَ القانتين) ولـم يقُلْ :

[ منَ القانتات ]، أيْ : بدّل صيغةَ المؤنث بصيغة المذكّر، والسـبب: لأنّ [ عدد ] القانتين [ قليلٌ جداً ] بين المؤمنين، مع أنّ كلمة [ القانتات ] موجودةٌ في القرآن، خاصّةً في هذه الآية التي نُناقشُهـا الآن، والزوجـةُ [ الصـالحة ] هي التي تُحقّق [ القُنوت ] لقوله تعالى: (فالصـالحاتُ قانتاتٌ حافظاتٌ للغيْب)[ النساء 34 ].

4 ـ المرتبة الأعلى: (والصـادقين والصـادقات)، ومنهم يوسف عليه السلام: (وهو منَ الصـادقين) [ يوسف 27 ] .

5 ـ المـرتبة الأعلى: (الصـابرين والصَــابرات ) ، ومن هذه المرتبة كان [ أيّوب ] عليه السلام : (إنّـا وجدْنـاهُ صـابراً، نعْـمَ العبـد إنّـه أوّاب)[ ص 43]، ويجب التمييز بين درجـات الصـبْر: قال تعالى: (يـا أيّهـا الذين آمنوا اصْـبروا وصَـابروا) [ آل عمران 200]، وقال: (فاعبدْهُ واصْـطـبرْ لـعبادته) [ مريم 65 ]، فدرجات الصبْر هي:

ـ التصـبّر: وهو الصـبْر بتكلّف والشعور بالضيق والمَلَل وهو أدنى الدرجات

ـ الصـبْر: وهو الحـالة الوسطى، حيث الصبْر بصمْت وهدوء وتحمّل

ـ الصَبر الجميل: وهو الصفة الأساسيّة للشخْص بحيث يكون منْ طبيعته الصبْر، وبدون شكوى، وهذه الدرجة وصَل إليْهـا [ يعقوب ] عليه السلام: (فصَـبْرٌ جميـل) [ يوسف 18 ]، أمّـا [ أعلى درجات الصبْر ] على الإطلاق، فقد وصَل إليهـا من كلّ البشريّة فقط خمسةٌ منَ الرُسُل الكرام عليهم صلاة الله وسلامه، وهُم [أولو العَـزْم ] : [نـوح، إبراهيم، موسـى، عيسـى، وسيّد أولي العَزم هو: مُحمّد] ، فقال تعالى لـه: (فاصْـبرْ كَمـا صَـبَر أولـوا العـزْم منَ الرُسُـل )[ الأحقاف 35 ] .

والصـبْر: هو الشرْطُ الرئيس لدخول الجنّـة ومَـا يُلقّـاهـا إلاّ الصــابرون )[ القصص 80 ] .

6 ـ المـرتبة الأعلى: (الخاشعينَ والخاشـعات)، ومنهُم مجموعةٌ منَ الأنبياء والرسُل الكرام، ذكَرَهُم الله في سورة الأنبياء، وهُم: [موسى، هارون، إبراهيم، لوط، إسحاق، يعقوب، نوح، داوود، سليمان، أيوب، اسماعيل، إدريس، ذو الكفْل، يونس، زكريّا، يحيى، مريم، عيسى] ، فقال تعالى عنهُم: (وكـانوا لنـا خاشعين)[ الأنبياء 90 ] .

7 ـ المـرتبة الأعلى: (المُتصـدّقينَ والمُتصـدّقات)، وهُم الذين: (يُنفقون أموالـهُم بالليل والنهـار سـرّاً وعـلانية) [ البقرة 74 ]، فهو ليْس مـال [ الزكـاة ] ، فهُم يُعطون المـال بـلا مُقابل لهذه الفـئات منَ الناس: (ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السـبيل، والسـائلين، وفي الرقاب)[ البقرة 177 ]، وهذا ليْسَ مـال الزكـاة، لأنّ الآية الكريمة تقول بعْد ذلك: (وأقـام الصـلاة، وآتى الزكـاة )[ البقرة 177 ]، فالزكـاة هي [ للبُخـلاء ] منَ المسلمين.

8 ـ المـرتبة الأعلى: (الصـائمين والصـائمات)، المقصود هنـا: [ الصـوم ] بحرف ـ الواو ـ وليس: [الصيام ] بحرف ـ الياء ـ لأنّ [ الصـيام ] يأتي مع المـرتبة الأولى: (المسلمين والمسلمات)، لأنّه رُكْنٌ منْ أركان الإسلام، وهو في شهْر رمضان، و[الصــوم]: هنـا معناه [ قوْل الحـقّ ] مع الآخرين، ويأتي [ الصوم] مع كلّ أيّام السنة، مثلمـا فعلتْ مرْيَم عليهـا السلام التي كانت تأكُلُ وتشْرب، وقالت للناس: (إنّي نذرْتُ للرحمن صـومـاً) مريم 26، وبتحقيق [ الصـوم ] يتخلّص المجتمع منَ الكثير منَ المشكلات والخلافات، ولكن مع [ الصـيام ] نجد ازدياد المشكلات في المجتمع، بحجّة [ الصيام ] وضيق الخُلُق!!

9 ـ المـرتبة الأعلى: (الحافظين فُروجهُم والحـافظات)، نُلاحظُ أن الآية الكريمة تقول (الحافظين) ولمْ تقُلْ : [ المُمسكين ] مثلاً ، لأنّ [ الحفْظ ] أقوى وأشمل، فالذي [ يحفظُ ] فرجه، فإنّه [ يحفظه ] حتى منَ الأمراض السارية مثل [ الإيدز ]، ولذلك تقول الآيات عن الذين يُمارسون الجنس خارج إطـار العلاقات الزوجيّة إنّهُم [ عادون ] وليس [ مُعتدون فقط ] ، فكلمة [ عادون ] تدلّ على شموليّة العدوان، مثل العدوان على النفْس وعلى الآخرين وعلى المجتمع، فقال تعالى: (والذين هُم لفروجهم حافظون، إلاّ على أزواجهم أو مـا مَلَكتْ أيمانُهُم فإنّهُم غيرُ مَلومين فَمَن ابتغى وراء ذلك فأولئكَ هُـمُ العَــادون) [ المؤمنون 5 / 7 ] ، ولذلك ربط [ الحافظون ] لفروجهم مع [ المؤمنين ] وليس [ المسلمين ] .

10 ـ أعلى المـراتب: (الذاكرين الله كثيراً والذاكـرات)، وهي أعلى مـراتب الإيمـان، لذلك كان [ اُسوتُهُم الحسنة ] إمامُ المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ففي ذات سورة الأحزاب، يقول تعالى: (لقَد كان لكُم في رسول الله اُسْوةٌ حَسنة، لِمَـن كانَ يرجو الله واليوم الآخـر، وذَكَـرَ الله كـثيراً ) [ الأحزاب 21 ].

أعطى الله داوود وابنه سليمان إمكانات خارقة

(وَلَـقَدْ آتَيْنَا داوودَ مِـنّا فَضْـلاً )[ سَـبَأ 10 ] :

داوودُ : ثَاني مُلوكِ المَمْلَكَةِ المُتّحِدة الذينَ حَكَموا بني إسْرائِيْلَ ،َ هُوَ ابنُ يَسّى أحَدُ الملاَكِيْنَ في بَيْتِ لَحْم، عَمِلَ عِنْدَ طَالُوتَ سَائِسَاً [ راعي الخَيْل ] ، فَتَحَ القُـدْسَ وَجَعَلها عَاصِمَتَهُ، دَامَ هَذَا العَهْدُ / 94 / سَنَةً مَا بَيْنَ 1025 ـ 931 قَبْلَ المِيْلادِ، وَيُعْتَبَرُ العَصْرُ الذَهَبيُّ لِبني إسْرائِيْلَ ، فَقَدْ أخْرَجَ داوودُ عليه السلام بَني إسْرائِيْلَ مِنْ عِبادَةِ الأوْثَانِ ، إلى عِبادَةِ اللّه وَحْدَهُ ، كَانَ داوودُ نَبِيّاً وَرسُولاً مِنْ أصْحابِ الكُتُبِ السَماويَّةِ : ( وَآتَيْنَا داوودَ زَبُوراً )[ النساء 163 ][ الإسراء 55 ] ، وَ كَانَ قاضِيَاً : ( يَا داوودُ إنّا جَـعَـلْـنَاكَ خَـلِـيْفَةً في الأرْضِ فَاحْـكُـمْ بَيْنَ الـنَاسِ بِالـحَـقِّ )[ ص 26 ] ..

وَ كَانَ يتَمَتَّع بِالحِكْمَةِ وَالقُوَّةِ : (وَشَـدَدْنا مُـلْـكَـهُ وَآتِيْنَاهُ الـحِـكْـمَـةَ وَفَصْـلَ الـخِـطَـابِ )[ ص 20 ]، (وَ اذْكُـرْ عَـبْدَنا داوودَ ذَا الأيْدِ إنَّهُ أوَّابٌ )[ ص 18 ] ، ذَا الأيْدِ: القوة والعَزْم الشَـديد، وَكانَ يَتَمَتَّعُ بِجَمالِ الصَوْتِ ، حَتّى أنَّ صَوْتهُ كانَ يُؤثِّرُ في الصَخْرِ: (وَسَـخَّـرْنا مَـعَ داوودَ الـجِـبَالَ يُسَـبِّحْـنَ وَالـطَـيْرَ )[ الأنبياء 76 ] ، (وَلَـقَدْ آتَيْنَا داوودَ مِـنّا فَضْـلاً يَا جِـبَالُ أوِّبي وَ الـطَـيْرَ )[ سَـبَأ 10 ] ، ( إنَّا سَـخّـرْنَا الـجِـبالَ مَـعَـهُ يُسَـبِّحْـنَ بِالـعَـشِـيِّ وَالإشْـراقِ وَالـطَـيْرَ مَـحْـشُـورَةٌ كُـلٌّ لَـهُ أوّابٌ )[ ص 18 ] .

وَقَدْ أسَّسَ داوودُ مَا يُسَمَّى في الوَقْتِ الحالي الصِناعَةَ الحَرْبِيَّة: (وَعَـلَّـمْـنَاهُ صَـنْعَـةَ لَـبُوسٍ لَـكُـمْ )[ الأنبياء 80 ] ، لَـبُوسٍ : دُروع، مَعَ الدِقَّةِ وَالمَهارَةِ في صِناعَتِها: (وَقَدِّرْ في الـسَـرْدِ)[ سَـبأ 11 ] ، الـسَـرْدِ:

حلقات الدِرْع ، فَهُوَ أوَّلُ مَنْ اسْتَخْدَمَ في هذه المنطِقَةِ الصِناعات المَعْدنيَّة : ( وَ ألَـنّا لَـهُ الـحَـديْدَ )[ سَـبأ 10 ] ، مِنْ أجْلِ ذَلِكَ يَذْكُرُ التاريْخُ أنَّ الكَنعانِيّينَ أوَّلُ مَن اكْتَشَفَ الحديْدَ وَأنْتَجُوا البرونْز، فَقَدْ أُعْطِيَ سُلَيْمانُ عليه السلام مَناجِمَ النُحاسِ : (وَأسَـلْـنَا لَـهُ عَـيْنَ الـقِـطْـرِ )[ سَـبأ 12 ] ، فَكانُوا السَبَّاقِيْنَ في صِناعَةِ التَعْديْنِ، وَسَاهَموا بِبنـاءِ [ الحَضَارة المِيْغالِيْثِيَّة ] المُمْتدّة حَوْلَ العَالَمِ ، حَيْثُ أعْطى اللّهُ داوودَ و ابْنَهُ سُـلَيْمانَ إمْكاناتٍ خَارِقَة [ الريح ، الجِنّ ، الحديد ، النُحاس ... ] ، وَقالَ لَهُمْ : (اِعْـمَـلُـوا آلَ دَاوودَ شُـكْـراً)[ سَـبأ 13] ، وَ كَانَ المِصْريُّونَ يَنْقلونَ الحَدِيْدَ وَالنُحاسَ مِنْ فلسْطِيْنَ لِمِصْرَ.

(وَلِـسُـلَـيْمَـانَ الـرِيْحَ)[ سـبأ 12 ] :

كَانَ سُـلَيْمانُ بن داوودَ عليهما السلام يَتّصِفُ بِكُلِّ صِفاتِ والِدِهِ الحَميدَة: (وَوَهَـبْنا لِـداوودَ سُـلَـيْمَـانَ نِعْـمَ الـعَـبْدُ إنَّهُ أوَّابٌ.... وَكُلاًّ آتَيْنَا حُـكْـمَاً وَ عِـلْـمَـاً)[ ص 30 / 79 ]، وَدَامَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ عليه السلام قُرابَةَ / 44 / عَامَاً، في الفَتْرةِ الواقِعَةِ بَيْنَ 975 ـ 931 قَبْلَ الميْلاَدِ: (وَوَرِثَ سُـلَـيْمَـانُ داوودَ وَقَالَ يَا أيُّهَـا الـنَاسُ عُـلِّـمْـنَا مَـنْطِـقَ الـطَـيْرِ وَأُوتِيْنَا مِـنْ كُـلِّ شَـيْءٍ )[ النمل 16 ] ، مَـنْطِـقَ الـطَـيْرِ : وَ لَيْس لُغَةَ الطَيْرِ فقط ، فالمَنْطِقُ :

هُوَ نِظَـامُ تَفاهُمٍ مُحَدَّد ضِمْنَ عالَمِهِ الخـاصّ ، وَ مُصْطَلَحَاتِهِ الخَاصَّة بِـهِ ، ( وَأسَـلْـنَا لَـهُ عَـيْنَ الـقِطْـرِ )[ سـبأ 12 ] ، عَـيْنَ الـقِطْـرِ : النحـاس السائل ، فَكَانَ تَعْديْنُ الحديْدِ في عَهْدِ داوودَ ، وَتَعْديْنُ النُحَاسِ في عَهْدِ سُلَيْمان، وَمِنْ هَذَيْنِ المَعْدنَيْنِ كانَ البرونْز العُنْصُرُ الأساسيّ في بِناءِ [ الحَضَارَةِ المِيْغالِيْثِيَّة ] التي عَمَّت العَالَمَ، وَقَدْ أعْطى اللّهُ سُلَيْمان بَعْضَ العَطاءَاتِ التي لَمْ يُعْطِها لأحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، خَاصَّةً المُتَعَلِّقة مِنْها في الحَياةِ البَحْرِيَّةِ ، فَقَدْ كانَ سُلَيْمانُ عليه السلام بَحَّاراً بامْتِيازٍ ، فَسَخَّرَ لَهُ اللّهُ الرِيْـحَ مِنْ أجْلِ تَحْريْكِ السُفُنِ في البَحْرِ ، كَما أعْطاهُ الشَياطِيْن لِبناءِ السُفُنِ وَ الغَوْصِ في البِحَارِ ، كَمَا تُوضِحُ الآياتُ التالِيَةُ : ( قالَ رَبِّ اغْـفِـرْ لـي وَ هَـبْ لـي مُـلْـكَـاً لاَ يَنْبَغِـي لأَحَـدٍ مِـنْ بَعْـدي إنَّكَ أنْتَ الـوَهَّـابُ فَسَـخَّـرْنَا لَـهُ الـرِيْحَ تَجْـرِي بِأَمْـرِهِ رُخَـاءً حَـيْثُ أَصَـابَ وَ الشَـيَاطِـيْنَ كُـلَّ بَنَّـاءٍ وَغَـوَّاصٍ )[ ص 35 / 37 ] ، رُخَـاءً : لِتَحْريْكِ السُفُنِ بِهُدوءٍ ، حَـيْثُ أَصَـابَ : حَسَبَ الجِهَةِ المطلوبة ، وَ المسافَةُ التي كَانَتِ الرِيْحُ تَأْخُذُ سُلَيْمانَ إلَيْها في البَحْرِ كَانَتْ مَسافَةً بعِيْدَةً [ مسْيرة شَهْرٍ ] ، تُوصِلُهُ لِمَضِيْقِ جَبَلِ طارق :

(وَلِـسُـلَـيْمَـانَ الـرِيْحَ غُدُوُّهَـا شَـهْـرٌ وَرواحُـهَـا شَـهْـر)[ سـبأ 12 ] ، وَ في حَالِ ضَيَاعِهِ أوْ حُدُوثِ مُشْكِلَةٍ مَعَهُ في البَحْرِ ، كانَت الرِيْحُ تَعُودُ بِهِ مُسْرِعَةً إلى فِلَسْطِيْنَ حَصْراً : (وَلِـسُـلَـيْمَـانَ الـرِيْحَ عَـاصِـفَةً تَجْـرِي بِأَمْـرِهِ إلـى الأرْضِ الـتي بارَكْـنَا فِيْهَـا)[ الأنبياء 81 ] ، الـرِيْحَ عَـاصِـفَةً:

هُنا قال عاصِفة وَلَيْسَتْ رُخاء حَيْثُ الأمْرُ إسْعافيّ، وَقَسَمَ الجِنَّ إلى قِسْمَيْنِ ، القِسْمُ الكافِرُ [ الشَياطِيْن ] للغَوْصِ وَ بناءِ السُفُنِ أيْ للنَشَاطِ البَحْريّ : (وَالـشَـيَاطِـينَ كُـلَّ بَنَّاءٍ وَغَـوَّاصٍ )[ ص 38 ]، (وَمِـنَ الـشَـيَاطِـينِ مَـنْ يَغُـوصُـونَ لَـهُ وَيَعْـمَـلُـونَ عَـمَـلاً دُونَ ذَلِـكَ )[ الأنباء 82 ]، أمَّا الجِنُّ العاديّينَ لِلأعْمالِ الخَفِيْفَـةِ مِثْلَ الأعْمالِ الفَخَارِيَّةِ : (وَمِـنَ الـجِـنِّ مَـنْ يَعْـمَـلُ بَيْنَ يَـدَيْه بِإِذْنِ رَبِّـهِ )[ سَـبَأ 12 ] ، ( يَعْـمَـلُـونَ لَـهُ مَـا يَشَـاءُ مِـنْ مَـحَـاريبَ وَ تَمَـاثِيلَ وَ جِـفَانٍ كَـالـجَـوابِ وَ قُـدورٍ رَاسِـيَاتِ )[ سـبأ 13 ] ، جِـفَانٍ : وَاحِدَتُها [ جَـفْنة ] وَ هيَ القَصْعَاتُ الكبيرَةُ للأَكْلِ ، الـجَـوابِ : أحْواضِ الماءِ الضَخْمَةِ ، قُـدورٍ : أواني الطبخ ، رَاسِـيَاتِ : ثَابِتَـةٌ في مكانِها بسبب كبَر حجمهـا .

( وَ الـعَـمَـلُ الـصَـالِـحُ يَـرْفَعُـهُ )[ فاطر 10 ] :

العَـمَـلُ الصَـالِحُ وَ العَـمَـلُ الحَـسَـنُ :

إنَّ العَمَلَ الصَالِحَ : هُوَ العَمَلُ الذي يَصْلُحُ فيهِ حَالُ الفَرْدِ وَ المُجْتَمَعِ ، وَ إِذَا لَمْ يَصْلُحُ فيهِ حَالُ الفَرْدِ وَ المُجْتَمَعِ يَبْقى عَمَلاً [ حَسَـناً ] فَقَطْ ، فالمُوَظَّفُ الذي يُداوِمُ عَلى عَمَلِهِ ، يَقُومُ بِعَمَلٍ حَسَـنٍ مِنْ حَيْثُ المَبْدَأ، وَ لاَ يَكُونُ عَمَلُهُ صَالِحَاً إلاّ إِذَا أَدّى الأعْمَالَ المُوكَلَةَ إلَيْهِ بِصِدْقٍ وَ أَمَانَةٍ خِلاَلَ فَتْرَةِ دَوامِهِ، وَ الطَالِبُ الذي يَذْهَبُ لِلمَدْرَسَةِ ، يَقُومُ مَبْدَئِيَـاً بِعَمَلٍ حَسَـنٍ ، وَ لاَ يَكُونُ عَمَلُهُ صَـالِحَاً ، إلاّ إِذَا انْتَبَـهَ لِدُروسِهِ وَ وَاجِبَـاتِهِ وَ نَجَحَ آخِـرَ العَامِ ، وَ أَصْبَحَ بالتَالي عُضْـواً نافِعَـاً في مُجْتَمَعِهِ .

وَ مَا أَكْثَرَ الأَعْمال الحَسَـنَةَ التي نَقُومُ بِهَـا ، وَ مَا أَقَـلَّ الأَعْمَالَ الصَالِحةَ ، فَكَمْ مِنْ مُوَظَّفٍ مَوْجُودٌ في وَظِيْفَتِهِ ، لَكِنَّهُ لاَ يُؤَدّي مَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ مِنْ خِدْمَةِ المُواطِنِ وَ المُجْتَمَعِ ، وَ كَمْ مِنْ طَالِبٍ في مَدْرَسَتِهِ لاَ يَهْتَمُّ بِدُروسِهِ وَ يَفْشَلُ آخِرَ العَـامِ ، وَ نحن الآن في شَـهْرِ الصِيَـامِ , وَ كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَـهُ مِنْ صِيَـامِهِ إلاَّ الجُـوعُ وَ العَطَشُ ، عِلْمَاً أَنَّهُ لاَ يَصْعَدُ لِلسَمَاءِ إلاّ العَمَلُ الصَالِحُ : ( وَ الـعَـمَـلُ الـصَـالِـحُ يَرْفَعُـهُ )[ فاطر 10 ] ، لِذَلِكَ وَرَدَ في القُرْآنِ الكَريْمِ / 50 مَرّة / : ( الـذيْنَ آمَـنُوا وَ عَـمِـلُـوا الـصَـالِـحَـاتِ ) ، وَ صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تُعَلِّمُنَـا قَضِيَّتَيْنِ أَساسِـيَّتَيْنِ هُمَـا :

أَنْ يَقِفَ الإنْسَـانُ مُتَراصَّـاً مَعَ بَيْنَ صُفُوفِ مُجْتَمَعِهِ ، يُؤَدّي وَاجِباتِهِ بِصَمْتٍ وَ هُدُوءٍ ، وَ أَنْ يُكْمِلَ الصُفُوفَ النَاقِصَـة في مُجْتَمَعِهِ ، لِيَكُونَ مُجْتَمَعَـاً مُتَكَامِلاً ، لاَ يَحْتَاجُ غَيْرَهُ مِنَ المُجْتَمَعَـاتِ ، وَ بِذَلِكَ تَنْهَى الصَلاَةُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ ، فَعَلى ُكلٍّ مِنَّا أنْ يَسْعَى لِيَكُونَ عَمَلُهُ صَالِحَاً لِلفَرْدِ وَ المُجْتَمَعِ ، وَ لَيْسَ عَمَلاً حَسَنَاً فَقَطْ ، فَلاَ يَكُونُ الإنْسَانُ أهلاً لِلاعْتِمَادِ عَليْهِ ، وَ سَيَنْبُذُهُ المُجْتَمَعُ في النِهَايَةِ : ( قَالَ يَا نُوحُ إنّهُ لـَيْسَ مِـنْ أَهْـلِـكَ إنَّهُ عَـمَـلٌ غَـيْرُ صَـالِـحٍ )[ هود 45 ] .

فَمَا أَحْوَجَنـَا اليَوْمَ لِلأعْمَالِ الصَالِحَـةِ ، مِنْ اَجْلِ تَقَدُّمِ المُجْتَمَعِ وَ ازْدِهَارِهِ ، وَ أَنْ لاَ نَنْظُرَ لِلأعْمَالِ الحَسَنَةِ عَلى أنَّهَا صَـالِحَة، فَنَقَعَ في سُـوءِ الفَهْمِ القاتِلِ : ( أَفَمَـنْ زُيِّنَ لَـهُ سُـوءُ عَـمَـلِـهِ فَـرَآهُ حَـسَـناً )[ فاطر 8 ] ، وَ كُلُّ الشُـكْرِ لِمَنْ يَقُومُونَ ِالأَعْمالِ الصَالِحَـةِ في هَذَا المُجْتَمَعِ الطَيّـِبِ.

كـلّ هـذا واللـه أعْلـمُ .

Email