الجزء الثاني عشر في القرآن الكريم

المُخْـبـِتُونَ يَعْبُدونَ اللَّهَ بِصَمْتٍ وَتَواضُعٍ كَامِلٍ

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبـدأ هـذا الجـزء منَ القرآن الكريم ، منْ الآيـة [ 6 ] من سورة هــود [ 93 ] ، وحتى الآيـة [ 52 ] من سورة يوسـف ، ومـمّـا ورَد فيـه :

( أَخْـبَـتُـوا إلـى رَبِّهِـمْ )[ هود 23 ] :

المُخْـبـِتُونَ : هُمُ الذينَ يَعْبُدونَ اللَّهَ بِصَمْتٍ وَبِتَواضُعٍ كَامِلٍ، دونَ اعتِراضٍ وَلَوْ بالنَفْسِ : ( وَبَشِّـرِ الـمُـخْـبِتينَ الـذينَ إذا ذُكِـرَ اللـهُ وَجِـلَـتْ قُـلـوبُهُـمْ والصَابرينَ على مَـا أصـابـهُـمْ والمُقيميْ الصَـلاةَ ومِـمّـا رزقْنـاهُـمْ يُنفقونَ )[ الحج 24 / 25 ] ، ( إنَّ الـذينَ آمَـنُوا وَ عَـمِـلُـوا الـصَـالِـحَـاتِ وَ أَخْـبَتُوا إلـى رَبِّهِـمْ أولَـئِكَ أَصْـحَـابُ الجـنّةِ )[ هود 23 ] ، وَ هُـمْ أهْلُ العلْم حصـراً : ( وَ لِـيَعْـلَـمَ الـذينَ أوتُـوا الـعِـلْـمَ أنّـهُ الـحَـقّ مِـنْ ربّـهِـمْ فَتُخْـبِتَ لـهُ قُـلُـوبُهُـمْ )[ الحج 54] .

(واصْـنَعِ الـفُلْـكَ بِأَعْـيُنِنَا وَ وَحْـيِنَا)[هود 37] :

( وَ أُوحِـيَ إلـى نُوحٍ أَنْه لَـنْ يُؤْمِـنَ مِـنْ قَـوْمِـكَ إلاَّ مَـنْ قَـدْ آمَـنَ فَلاَ تَبْتَئِـسْ بِمَـا كَـانُوا يَفْعَـلُـونَ وَ اصْـنَعِ الـفُلْـكَ بِأَعْـيُنِنَا وَوَحْـيِنَا وَلاَ تُخَـاطِـبْني فِـي الـذينَ ظَـلَـمُـوا إنَّهُـمْ مُـغْـرَقُونَ )[ هود 36 / 37 ] ، كلمة (مُـغْـرَقُونَ ) : جاءت بصيغَةِ اسْـم المفعول ، أيْ أنَّ الغَرَقَ حَاصِلٌ لَهُمْ لاَ مَحَالَة ، لِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ : سَيَغْرَقُون.

كانَتْ سَـفينَةُ نُوحٍ عليه السلامُ ، سـَفينَةً مُتواضِعَةً في مُواصَفاتِهَا ، بَناهَـا شَخْصٌ واحِدٌ هُوَ نُوحٌ : ( فَأَوْحَـيْنَا إلَـيْهِ أَنِ اصْـنَعِ الـفُلْـكَ )[ المؤمنون 27 ] ، ( وَاصْـنَعِ الـفُلْـكَ بأَعْـيُنِنَا وَوَحْـيِنَا )[ هود 37 ] ، (وَ يَصْـنَعِ الـفُلْـكَ )[ هود 38 ] ، فَقَدْ كانَتْ سَـفينَةً صَغيرَةً مِنْ نَوْعِ الفُلْكِ: (فأَنْجَـيْنَاهُ وَالـذينَ مَـعَـهُ في الـفُلْـكِ )[ الأعراف 64]، ( فأَنْجَـيْنَاهُ وَمَـنْ مَـعَـهُ في الـفُـلْـكِ )[ الشعراء 119] ، وَقَدْ كانَتْ عِبارَةً عَنْ ألْواحٍ خَشَـبيَّةٍ مَشْـدُودَةٍ لِبَعْضِهَا بالحِبـَالِ، [ لَمْ تُسْتَخْدَمْ فيهَـا مَسَـاميرُ الحَديدِ ] : (وَحَـمَـلْـنَاهُ عَـلـى ذَاتِ أَلْـواحٍ وَ دُسُـرٍ) [القمر 13 ] ، الدِسَـارُ هـوَ : حَبْـلُ السـفينَةِ، وَ سَـفينَةٌ بِهَذِهِ المُواصَفاتِ ، لاَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَحْمِلَ مِنْ جَميعِ أَصْنافِ الحَيوانَاتِ وَ الطيورِ وَ الحَشَـراتِ الموجُودَةِ عَلى الأَرْضِ ، زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ ، إذْ لاَ يُمْكِنُ لأَيِّ سَفينَةٍ ، حَتّى مِنْ سُفُنِ الوَقْتِ الحَاضِرِ العِمْلاقَةِ ، أَنْ تَحْمِلَ كُلَّ هَذا العَدَدِ الهائِـلِ مِنَ المخْلوقاتِ [ فَأصْنافُ الحَشَراتِ وَ الطيورِ مَثَلاً تَزيدُ عَلى مئَاتِ الآلافِ مِنَ الأنْـواعِ ] ، هَذا عَـدا عَنْ تأمينِ المَنـَاخِ المُلاَئِمِ داخِلَ السَفينَةِ لِكُلِّ نَوعٍ عَلى حِدَة [ الدَبُّ القُطْبيُّ مَثَلاً يَحْتاجُ لِمناخٍ بـَارِدٍ جِداً ] ، نَاهيكَ عَنْ تَأمينِ الغِذاءِ المَطْلوبِ لِكُلِّ نَوْعٍ ، عَدا عَنْ تَأمينِ الحِمايَةِ اللاَّزِمَةِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الأَنْواعِ الأُخْرى ، [ مِثْلَ حِمايَةِ الغَنَمِ مِنَ الذِئْبِ ، وَ الفأْرِ مِنَ الهِرِّ ] ، ثُمَّ إنَّ جَمْعَ وَ إمْساكَ كُلِّ مَخْلوقاتِ الأَرْضِ ، أمْرٌ مَسْتحيلٌ ، خَاصّةً الحَيواناتُ الخَطِرَةُ ، هَذا إذا تَجَاوَزْنا مَوْضوعَ الذهَابِ إلى مَواطِنِهَا الأَصْليَّةِ [ الكنْغَرُ مَثَلاً في اسْـتراليا ] ، كُلُّ هَذا إذا فَرَضْنا جَدَلاً أنَّ نـُوحَاً عليهِ السلام يَمْتَلِكُ جَداوِلَ إحْصـائيَّةٍ ضَخْمةٍ ، فيهَـا تَصْنيفٌ لِكُلِّ أنْواعِ المَخْلوقاتِ مَعَ صُوَرِهَـا [ للتَعَرُّفِ عَليْهَا ] لِعَدَمِ نِسْـيانِ نَوْعٍ مِنَ الأَنْواعِ ، كُلُّ هَذا يَدُلُّنـَا بِشَكْلٍ واضِحٍ عَلى أنَّ الأَزْواجَ التي حَمَلَها نُوحٌ في سَـفينَتِهِ المُتواضِعَـةِ : ( فَاسْـلـُكْ فِيـهَـا مِـنْ كُـلٍّ زَوْجَـيْنِ اثْنَيْنِ )[ المؤمنون 27 ] ، كانَتْ أزْواجُ الأنْعـَامِ الثَمانيـَةِ اللازِمَةِ لَـهُ وَمَنْ مَعَهُ بَعْدَ انْتِهَـاءِ الطُوفانِ ، وَالوارِدَةُ بقَوْلِهِ تعالى : ( وَ أَنْزَلَ لَـكُـمْ مِـنَ الأَنْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْواجٍ )[ الزمر 6 ] ، (ثَمَـانِيَةَ أَزْواجٍ مِـنَ الـضَـأْنِ اثْنَيْنِ وَمِـنَ الـمَـعِـزِ اثْنَيْنِ 000 وَمِـنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِـنَ الـبَقَـرِ اثْنَيْنِ )[ الأنعام 143 ] .

(إنَّـهُ لَـيْسَ مِـنْ أَهْـلِـكَ) [هود 46]:

أنَّ عَمليّةَ التَنْقِيَـةِ قَدْ شَمَلَتْ أُسْـرَةَ نوحٍ بالذاتِ ، فَقَدْ تَمّ القَضَـاءُ عَلى امْرأتِهِ وَأحَدِ أبْنائِهِ : ( ضَـرَبَ اللَّـهُ مَـثَلاً لِلَّـذينَ كَـفَروا امْـرَأتَ نُوحٍ )[ التحريم 10 ] ، (وَ نَادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَـالَ رَبِّ إنَّ ابْني مِـنْ أَهْـلـي 000 قَـالَ يَا نُوحُ إنَّـهُ لَـيْسَ مِـنْ أَهْـلِـكَ إنَّـهُ عَـمَـلٌ غَـيْرُ صَـالِـحٍ )[ هود 45 / 46 ] ، نلاحظ أن الله سبحانه قد قال لنوح : ( إنَّـهُ عَـمَـلٌ غَـيْرُ صَـالِـحٍ ) وهذا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبادِهِ ، أنّهُ لمْ يَقُلْ لِنوحٍ : [ إنّ ابْنَكَ كَـافِرٌ ] ، لِمَـا لِهَذِهِ العِبارَة مِنْ أثَـرٍ بالِغٍ في نَفْسِ نَبيّ مِثْلَ نوح ، وَ مِنْ رَحْمَتِهِ تعالى بِعِبادِهِ أنَّهُ لَمْ يُغْـرِقْ ابنَ نوحٍ أمَامَ عَيْنِ والِـدِهِ ، بَلْ أَغْرَقَـهُ بَعيداً عَنْهُ : ( وَ حَـالَ بَيْـنَهُـمَـا الـمَـوْجُ فَـكَـانَ مِـنَ الـمُـغْـرَقينَ )[ هود 43 ] ، وَ هَذِهِ التَنْقيَةُ كانَتْ ضَروريَّةً في سُلالَةِ نـوحٍ بالذاتِ ، حَيْثُ بَقِيَتْ سُلالَتُهُ آخِرَ الأمْرِ : ( وَ جَـعَـلْـنَا ذُريَّـتَهُ هُـمُ الـبَاقينَ )[ الصافات 77 ] .

( نَـاقَةَ اللّـه )[ هود 64 ] :

ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلْنَاسِ نَـاقَةَ النبي صَالِح عليه السلام ، وَ بِمَا أَنَّهَا [ نَـاقَةَ اللّهِ ] ، لِذَا يَجِبُ أَنْ تُتْرَكَ وَ شَأْنَهَا تَسْرَحُ في الطَبيعَةِ ، دُونَ أَنْ يُؤْذِيَهَا أَحَـدٌ : (وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللَّـهِ لَـكُـمْ آيَةً فَذَروهَـا تَأْكُـلُ فـي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَـسُّـوهَـا بِسُـوءٍ فَيَأْخُـذَكُـمْ عَـذَابٌ قَـريبٌ )[ هود 64 ] ، وَ جَميْعُ المَخْلُوقَاتِ الأُخْرى ، مِثْلَ العَصَافيْرِ وَ الطُيُورِ وَ حَتّى المَخْلُوقَاتِ البَرِيَّةِ مِثْلَ الدِبَبَةُ وَ النُمُورِ وَحَيَوانَاتِ [ السِيْركِ ] .... ، أَلَيْسَـتْ مَخْلُوقَاتُ اللّهِ ؟ ؟ ! ، فَلِمَاذَا نَسْـجُنُها في الأقْفَاصِ ثُمَّ نَتَفَرَّجُ عَلَيْهَا ذَلِيْـلَةً حَزِيْنَـةً ، بِبِرودَةِ أَعْصَـابٍ خَالِيَةٍ مِنْ أيِّ إحْسَاسٍ بِمَشَـاعِرِهَا ، أَلَيْسَتْ أُمَمَـاً مِثْلنَـا : (وَمَـا مِـنْ دَابَّةٍ في الأَرْضِ وَلاَ طَـائِرٍ يَطِـيْرُ بِجَـنَاحَـيْهِ إلاَّ أُمَـمٌ أَمْـثَالُـكُـمْ )[ الأنعام 38 ] ، وَاللّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الذي تَكَفَّلَ بِتَرْبِيَتِهـا وَ رِعَايَتِهـا : (وَمَـا مِـنْ دابَّةٍ إلاّ هُـوَ آخِـذٌ بِـنَاصِـيَتِهـا إنَّ رَبّـي عَـلـى صِـراطٍ مُـسْـتَقيم) [ هود 56 ]، كَمَا تَكَفَّلَ المَوْلى بِإطْعَامِهَـا جَميْعَاً: (وَمَـا مِـنْ دابَّةٍ في الأَرْضِ إلاّ عَـلَـى اللّـهِ رِزْقُهَـا)[ هود 6 ] ، بَعْدَ كُلِّ هَذَا الإِيْضَاحِ مِنَ المَوْلى ، ماَ زِلْنـَا نَقْتُلُ وَ نَسْجُنُ وَ نُعَذّبُ مَخْلُوقَاتِ اللّهِ، فَكَيْفَ نَرْتَاحُ لِمَنْظَرِ العِصَافيرِ في القَفَصِ ! ، ألَيْسَ مَكانَها الطبيعيّ عَلى الأشْجَارِ ، لِمَاذَا تَهْرُبُ مِنَّـا الطُيُورُ ، وَ قَدْ ذَكَرَ لَنَـا المَوْلى سُبْحَانَهُ مِثَالاً رائِعَـاً عَنْ دَاوودَ عليْهِ السلام وَشِدَّةِ رِفْقِهِ بالطُيُورِ، بِحَيْثُ كَانَتْ تَأْتي إلَيْهِ مُسْـرِعَةً: (وَالـطَـيْرَ مَـحْـشُـورةً كُـلٌّ لَـهُ أَوَّابٌ )[ ص 19 ] .

الـمُـؤْتَفِـكَـةَ: المُنْقَلِبَةَ رأساً على عَقبْ

(يُجَـادِلـُنَا في قَـوْمِ لُـوطٍ )[ هود 74 ] :

قوم لوط عليه السلام ، هُمُ الذينَ سَـكَنوا في قَرْيَـةِ [ سَـدُومْ ] ، التي تَقَعُ حَالياً تَحْتَ جَنُوبِ البَحْـرِ المَيِّتِ بِفِلَسْـطينَ، وَقَدِ ابْتَكَروا للمَرَّةِ الأُولى اللّواطَـةَ [ نِسْبَةً لِقَـوْمِ لُـوْطْ ] وَهِيَ مُعَاشَـرَةُ الذُكُورِ جِنْسيّاً دُونَ الإنَاثِ : (وَلُـوطَـاً إذْ قَالَ لِـقَـوْمِـهِ أَتَأْتُونَ الـفَـاحِـشَـةَ مَـا سَـبَقَـكُـمْ بِهَا مِـنْ أَحَـدٍ مِــنَ الـعَـالَـمـينَ أَئِـنَّكُـمْ لَـتَأْتُونَ الـرِجَـالَ شَـهْـوَةً مِـنْ دُونِ الـنِسَـاء بَلْ أَنْتُـمْ قَـوْمٌ مُـسْـرِفُونَ )[ الأعراف 81 ] ، (وَلُـوطَـاً إذْ قَـالَ لِـقَـوْمِـهِ إنَّكُـمْ لَـتَأْتُونَ الـفَـاحِـشَـةَ مَـا سَـبَقَـكُـمْ بِهَا من أَحَـدٍ مِــنَ الـعَـالَـمـين إنَّكُـمْ لَـتَأْتُونَ الـرِجَـالَ )[ العنكبوت 28 ] (أتَأْتُونَ الـذُكْـرانَ مِـنَ الـعَـالَـمـينَ )[ الشعراء 165] ، وَمَارَسُوا اللُّواطَةَ عَلَناً في ناديهِمْ : (وَتَأْتونَ في نَاديكُـمُ الـمُـنْكَـرَ )[ العنكبوت 29 ] ، لِذَلِكَ أهْلَكَهُمُ اللَّهُ بعِقابٍ مُتَمَيَّزٍ في شِدَّتِهِ وَقَسْوَتِهِ، إذْ قَلَبَ قَرْيَتَهُمْ رَأْسَاً عَلى عَقِبٍ : (وَالـمُـؤْتَفِـكَـةَ أَهْـوى)[ النجم 53 ] ، الـمُـؤْتَفِـكَـةَ : المُنْقَلِبَةَ رأساً على عَقبْ وهي قَريَةُ سَدوم ، ثُمَّ أَحْرَقَ الجُثَثَ بِحِجَارَةٍ حَارِقَةٍ مِنَ السَمَاءِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ غَطَّى المَنْطِقَةَ بِمِياهٍ شَديدَةِ المُلُوحَةِ [البَحْرُ المَيِّتُ ] ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ إصَابَتِهِمْ بأمْراضٍ مُعْدِيَةٍ حتَّى بَعْدَ الوَفاةِ، وَلَمْ تَنْفَعْ شَفاعَةُ إبْراهيمَ عليه السلام لَهُمْ، فَقَدْ عاشُوا عَلى زَمَنِ إبراهيمَ حَوالي 1700 قَبْلَ الميلاَدِ: (فَـلَـمَّـا ذَهَـبَ عَـنْ إبْراهِـيمَ الـرَوْعُ وَجَـاءَتْهُ الـبُشـرى يُجَـادِلـُنَا في قَـوْمِ لُـوطٍ ... يَا إبْراهِـيمُ أَعْـرِضْ عَـنْ هَـذا إنَّـهُ قَـدْ جَـاءَ أَمْـرُ رَبِّكَ وَ إنَّهُـمْ آتيهِـمْ عَـذابٌ غَـيْرُ مَـرْدودٍ ... فَـلَـمَّـا جَـاءَ أَمْـرُنا جَـعَـلْـنَا عَـالِـيَهَـا سَـافِـلَـهَـا وَ أَمْـطَـرْنا عَـلَـيْهِـا حِـجَـارَةً مِـنْ سِـجِّـيلٍ مَـنْضُـودٍ)[ هود 74 ] ، ( فَجَـعَـلْـنَا عَـالِـيَهَـا سَـافِـلَـهَـا وَأَمْـطَـرْنا عَـلَـيْهِـمْ حِـجَـارَةً مِـنْ سِـجِّـيلٍ ) [ الحجر 76 ] ، ( وَأَمْـطَـرْنا عَـلَـيْهِـمْ مَـطَـراً فَسَـاءَ مَـطَـرُ الـمُـنْذَرينَ )[ الشعراء 173 ][ النمل 58 ] ، (الـقَرْيَةِ الـتي أُمْـطِـرَتْ مَـطَـرَ الـسُـوءِ )[ الفرقان 40 ] ، وَكَانَ عليه السلام مُبْغِضَاً أَشَـدَّ البُغْضِ لِمَا كَانَ يَقُومُ بِـهِ قَوْمُـهُ مِنْ مُعَاشَـرَةٍ الذُكُورِ جِنْسـيَّاً تارِكينَ مُعَاشَرَةَ النِسَـاءِ: (كَـذَّبَتْ قَـوْمُ لُـوطٍ الـمُـرْسَـلِـينَ إذْ قَالَ لَـهُـمْ أَخُـوهُـمْ لُـوطٌ أَلاَ تَتَّقُـونَ 000 أَتَأْتُونَ الـذُكْـرانَ مِـنَ الـعَـالَـمِـينَ وَتَذَرونَ مَـا خَـلَـقَ لَـكُـمْ رَبُّـكُـمْ مِـنْ أَزْواجِـكُـمْ بَلْ أَنْتُمْ قَـوْمٌ عَـادون ... قَالَ إنَّي لِـعَـمَـلِـكُـمْ مِـنَ الـقَـالـينَ )[ الشعراء 160 ] ، الـقَـالـينَ : المُبْغِضينَ أشدَّ البُغْضِ ، وَكَانَتْ سَـدُومُ تَقَعُ عَلى طَريقِ القَوافِلِ الدائم الحركة : (وَ إنَّهَـا لَـبِسَـبيلٍ مُـقِـيْمٍ )[ الحِجْر 76 ] ، فَكَانُوا يَقْطَعُونَ الطَريقَ وَ يُمَارِسُونَ الجِنْسَ مَعَ ذُكُورِ القَوافِلِ: (وَتَقْـطَـعُـونَ الـسَـبيلَ )[ العنكبوت 29 ] .

(بَقِـيَّتُ اللّـهِ خَـيْرٌ لَـكُـمْ)[ هود 86] :

أيْ : مَا أَبْقَاهُ اللهُ لَكُمْ مِنَ الحَلاَلِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الأُمُورِ التي حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ، وَجَمْعُها باقِياتُ: (وَالـبَاقِيَاتُ الـصَـالِـحَـاتُ خَـيْرٌ عِـنْدَ رَبِّكَ )[ الكهف 46 ][ مريم 76 ] ، (مِـنَ الـقُرونِ مِـنْ قبْلِـكُـمْ أُولـوا بَقِيَّةٍ يَنْهَـونَ عَـنِ الـفَسَـادِ فـي الأرْضِ )[ هود 116] .

(أَحْـسَـنَ الـقَـصَـصِ)[يوسف 3] :

تُعْتَبَرُ سُورَةُ يُوسُفَ عليه السلام التي هِيَ أَحْسُنُ القَصَصِ : (نَـحْـنُ نَقُـصُّ عَـلَـيْـكَ أَحْـسَـنَ الـقَـصَـصِ )[ يوسف 3 ] ، فَهي السُورَةُ الوحيدةُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ سُوَر القرآنِ الكَريمِ التي اقْتَصَرَتْ عَلى قِصَّةِ يوسُفَ عليه السلام ، وَهيَ القِصَّةُ الوحيدَةُ المُجْتَمِعَةُ في مَوْقَعٍ واحِدٍ، فَأَيُّ سُورَةٍ أُخْرى تَحْمِلُ اسْمَ نَبِيٍّ لَمْ تَنْفَرِدْ بالحديثِ عَنْ ذَلِكَ النَبيِّ وَهِيَ شَامِلَةٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ الحَيَاةِ ، وَتَعْتَمِدُ أَصْلاً عَلى رُؤيَا نَبيٍّ هُوَ يوسُفُ وَتَدُورُ أَحْدَاثُهَا في القَرْنِ 17 قَبْلَ الميلاَدِ، كَمَا نُلاَحِظُ أَنَّ شَخْصِيَّةَ يوسُفَ تَشُعُّ بِمَعَانٍ عَديدَةٍ يَنْفَرِدُ بِهَا يوسُفُ مِنْ حَيْثُ :

جَمَـالُ هَذِهِ الشَخْصِيَّةِ : ففي الحَديثِ الشَريفِ أَنـَّهُ أُوتيَ شَطْرَ [ نِصْفَ ] الحُسْـنِ ، وَ رُبَّمَـا ورِثَ هَذا الجمَالَ عَنْ زَوْجَةِ إبراهيمَ سَـارةُ التي هِيَ أُمُّ جَدّتِـهِ : ( فَلَمّـا رَأَيْنَهُ أَكْـبَرْنَهُ وَ قطَّـعْـنَ أَيْدِيَهُـنّ وَ قُلـْنَ حَاشَـى لِلَّـهِ مَـا هَـذا بَشَـراً إنْ هَـذا إلاَّ مَـلَـكٌ كَريمٌ )[ يوسف 31 ] ، وَ لَمّا أعْطى اللهُ هَذا الجمَال إلى يوسُفَ ابتَلاهُ بالرِقِّ والعُبوديَّةِ : (وَأَسَـرُّوهُ بِضـاعَـةً 000 وَشَـرَوْهُ بِثَمَـنٍ بَخْـسٍ دَراهِـمَ مَـعْـدودَةٍ وَكَـانوا فيـهِ مِـنَ الـزاهِـدينَ )[ يوسف 19 / 20 ] ، ويبقى الجمالُ مَحبوباً بينَ الناسِ .

ثَبـَاتُ هَذِهِ الشَخْصيَّةِ : فَقَدْ كانَ طوالَ حَيَاتهِ مِنَ المُحْسِـنينَ ، وفي الحديث الشريف الإحسانُ : [ أن تعبُد الله كأنّكَ تراه ][ رواه البخاري برقم 50] ، فَقَبْلَ السِجْنِ : ( وَلَـمَّـا بَلَغَ أَشُـدَّهُ آتَيْنَاهُ حُـكْـمـاً وَعِـلْـمَـاً وَكَـذَلِـكَ نَجْـزي الـمُـحْـسِــنينَ )[ يوسف 22 ] ، ثُمَّ في السِجْنِ : حَيْثُ يَقُولُ لَـهُ صَاحبَيْ السِجْنِ : ( إنَّا نَرَاكَ مِـنَ الـمُـحْــسـِنينَ )[ يوسف 36 ] ، وَ عِنْدَمَا أَصْبَحَ عَزيزَ مِصْرَ حَيْثُ يَقُولُ لَـهُ إخْوتُهُ أيْضَاً : ( إنَّا نَرَاكَ مِـنَ الـمُـحْــسـِنينَ )[ يوسف 78 ] ، كَمَا كَانَ مِنَ الصَـادِقينَ : ( وَ هُـوَ مِـنَ الـصَـادِقـينَ)[ يوسف 27 ] ، وَ لَمْ يَقُلْ : صَـادِقَاً ، وَلكِنْ قَالَ : مِنَ الصَـادقينَ.

صَـبْرُ هَذِهِ الشَخْصيَّةِ : ( قَالَ ربّ الـسِـجْـنُ أَحَـبُّ إلـيَّ مِـمَّـا يَدْعُـونَني إلـَيْهِ )[ يوسف 33 ] ، ثُمّ رَفضَهُ الخُروجَ مِنَ السِجنِ بَعْدَ سَنواتٍ مِنَ السِجْنِ الانْفِراديّ: ( فَلَـبِثَ فِي الـسِـجْـنِ بِضْـعَ سِنينَ )[ يوسف 42 ] ، وَفي ذَلِكَ يَقُولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : [000 وَ لَوْ لَبِثْتُ في السِجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَاعي ][ رواه مسلم في الإيْمـان، والبخـاري في الأنبيـاء عن أبي هـريرة رضي الله عنه ] .

تَـوَكُّلُ هَذِهِ الشَخْصيَّةِ عَلى اللَّـهِ : (وَاتَّبَعْـتُ مِـلَّـةَ آبَائي إبْراهِـيمَ وَإسْـحَـاقَ وَ يَعْـقُوبَ مَـا كَـانَ لَـنَا أَنْ نُشْـرِكَ بِاللَّـهِ مـِنْ شَــيْءٍ ذَلـِكَ مِـنْ فَضْـلِ اللَّـهِ عَـلَـيْنَا وَعَـلـى الـنَاسِ ) [ يوسف 38 ] .

انْتِصـَارُ هَذِهِ الشَخْصيَّةِ عَلى غَـريزَةِ الجِنْسِ : (وَرَاودتْهُ الـتي هُـوَ في بَيْتِهَـا عَنْ نَفْسِـهِ وَغَـلّـقَـت الأَبْوابَ وَقَالَـتْ هَـيْـتَ لَـكَ قَالَ مَـعَـاذَ اللَّـهِ )[ يوسف 23 ]، وَانتصَارهَا عَلى حِقْدِ الإخْوَةِ : ( قَالَ لاَ تَثْريبَ عَـلَـيْكُـمُ الـيَوْمَ يَغْـفِـرُ اللَّـهُ لَـكُـمْ وَهُـوَ أَرْحَمُ الراحِـمِـين َ)[ يوسف 92 ] ، لذلك يـجبُ دراسة شَـخصيّة يوسف منَ النواحي [ النفسيّة ] ، فعندمـا اتـّهمه أخوتُهُ بالسرقة وأمَـامَ حَاشـيته : (قالوا: إنْ يَسْـرقْ فقـدْ سَـرَقَ أخٌ لـهُ مِـنْ قَـبْلُ )[ يوسف 77 ] ، ولكنّ يوسُفَ عليه السلام لـمْ يبدُ حتّى على مـلامـحـه أيّ آثـار: ( فـأسَـرّهـا يوسُـفُ فـي نفـسـه ولـمْ يُـبْـدِهـا لـهُـمْ )[ يوسف 77 ] ، وأخيراً انتصَارُ هذه الشخصيّة عَلى نَزْغِ الشَيْطانِ : (مِـنْ بَعْـدِ أَنْ نَزَغَ الـشَـيْطَـانُ بَيْني وَ بَيْنَ إخْـوَتي)[ يوسف 100 ] .

وَ تُعْطي سُورَةُ يُوسُفَ تَوْثيقاً تَاريخياً مهمّـاً في التَاريخِ المصْرِيِّ، حَيْثُ نُلاَحِظُ أَنَّ السُورَةَ لَمْ تَذْكُرْ كَلِمَةَ فِرْعَوْنَ ، بَلْ ذَكَرَتْ كَلِمَةَ : الملِكِ : (وَقَالَ الـمَـلِـكُ إنّي أَرَى سَـبْعَ بَقَرَاتٍ )[ يوسف 43 ] ، فَفي فترةِ [ 1615 ـ 1560 ] قَبْلَ الميلاَدِ ، دَخَلَ العَمَالِقَةُ الهكْسُوسُ إلى مِصْرَ وَحَكَمُوهَـا خِلاَلَ تِلْكَ الفَتْرَةِ ، وَالحَاكِمُ الهِكْسُوسِيُّ يُدْعَى الملِكُ وَلَيْسَ فِرْعَوْنُ ، وَفي تِلْكَ الفَتْرَةِ دَخَلَ يُوسُفُ وَإخْوَتُهُ إلى مِصْرَ ، وَفي عَامِ 1560 قَبْلَ الميلاَدِ قَامَ الفِرْعَوْنُ [ إحْموسْ الأَوَّلُ ] بِطَرْدِ الهِكْسُوسِ مِنْ مِصْرَ، وَأعَادَ حُكْمَ الفَرَاعِنَةِ .

(وَقَالَ نِسْـوَةٌ )[ يوسف 30 ] :

مِنَ المواضيعِ اللُّغَويَّةِ المُلْفِتَةِ للنَظَرِ في سُورَةِ يَوسُفَ مَا وَرَدَ في الآيةِ : (وَ قَالَ نِسْـوَةٌ )[ يوسف 30 ] ، فَكَلِمَةُ : [ قالَ ] هِيَ لِلمُذَكَّرِ ، بَيْنَمَا القَائِلُونَ هُمْ نِسْوَةٌ ، فَلِمَاذا لَمْ يَقُلْ : ( وَقَالَتْ نِسْوَةٌ ) ، وَ السَبَبُ هُوَ : أَنَّ القُرآنَ حِينمَا يَسْتَخْدِمُ الفِعْلَ بِصيغَةِ المُذَكَّرِ بينمَا الفاعِلُ مُؤَنَّثٌ، فإنّه يَدُلُّ عَلى [ قِلَّـةِ ] عَدَدِ الفَاعِلينَ ، فَعَدَدُ النِسْوَةِ اللَّواتي تَحَدَّثْنَ كَانَ عَدَداً قَليلاً، وَلَيْسَ كُلُّ نِسَاءِ المدينَةِ وَإلاَّ لأَصْبَحَتْ فَضيحَةً لامْرَأَةِ العَـزيز.

كل هـذا واللـه أعلـم.

Email